الزاهي (1): الملك أكثر شعبية لأن القيادات الحزبية اختارت وضعية التابع والمريد

الزاهي يحاضر بمؤسسة "مؤمنون بلا حدود" / صورة عن المؤسسة
غسان الكشوري

يغوص عالم الاجتماع المغربي نور الدين الزاهي، في هذا الحوار بجزأيه مع "تيلكيل عربي"، في بنية الأحزاب المغربية ومستقبل الإسلام السياسي. هذا الأكاديمي الذي اشتغل على "المقدس الإسلامي" و"الزاوية والحزب"، يحلل بعض الشخصيات القيادية؛ كبنكيران وعبد السلام ياسين والمهدي بن بركة.. إضافة لتناوله موضوع الاحتجاجات بمنطقة الريف، وطبيعة العنف في المجتمع المغربي.

اشتغلت في كتابك "الزاوية والحزب" على مقاربة عمل الزوايا مع طريقة اشتغال الأحزاب. في نظرك، وبعد الأحداث السياسية التي شهدها المغرب، ما هو توصيفك للحالة الحزبية بالمغرب؟

الحالة الحزبية المغربية، على الأقل خلال هذا العقد الأخير والذي شهد ثورات الربيع المغاربي، تراجيدية بالمعنى الفلسفي للكلمة. فهي تعيش مأساة ضعفها الشامل الذي يمكنني توصيفه بالترميق (البريكولاج) الإيديولوجي السياسي والتنظيمي والخطابي-البلاغي.

الأحزاب تتغذى بأطر بعضها البعض، وتتبادل استهلاك ضعفها وأمراضها الطفولية.

المأساوي في الأمر هي أنها وأطرها على وعي كامل بوضعها هذا، وهو ما يجعل شقاء الكثير من مناضليها الجديين بارزا ومعلنا، وكذا السعادة الساذجة للبعض الآخر الذي يبعد عن وعي حالة "البريكولاج" تلك، ويغذي حياة فرحه الساذج بأن الأمر عام، ومن ثم فإذا ما "عمت هانت". وضعية البريكولاج الشاملة هي ما يفسر كون الأحزاب تتغذى بأطر بعضها البعض، وتتبادل استهلاك ضعفها وأمراضها الطفولية.

 قد لا تفوتنا الفرصة لنسأل عن شخصية بنكيران، لما تحمله من مرجعية دينية وسياسية وأخرى "شعبية". ما الذي أحدثه بنكيران في سوسيولوجيا المشهد الحزبي بالمغرب ؟

شخصية السيد بنكيران، ميزتها الكبرى هي أنها نقلت فعل البريكولاج الشامل إلى مستوى الظهور العمومي. لذلك فشعبيته تلك نابعة من كونه يؤزم الوعي الشقي لمن يضعون حالة الوضع التراجيدي للوضع الحزبي والسياسي المغربي أمام وعيهم. وفي الآن نفسه يغذي الفرح والسعادة الساذجة لمن لا يرغبون بالإعتراف بحالتهم الحزبية المأساوية. إنه ما جعل كل خرجاته موضع اهتمام من الطرفين، وكذا من طرف شرائح اجتماعية كبيرة.

ربما تتابع تشبث بعض أنصار بنكيران ليحكمهم داخل حزبه لولاية ثالثة. هل في نظرك أصبحت العلاقة بين قيادة الحزب وأنصاره، كالعلاقة بين الشيخ والمريد ؟

لا أفترض أن خطاطة الشيخ والمريد، قد تكون صالحة لتوصيف مناصرة السيد بنكيران للعودة من جديد إلى واجهة المشهد الحزبي والسياسي. فحزب العدالة والتنمية لا تنطبق على جميع زعمائه الحاليين مواصفات المشيخة على جميع المستويات. فالبريكولاج الإديولوجي لهذا الحزب يستقي قوته، مقارنة بالأحزاب الأخرى، من براغماتية ونفعية وكفايات التكيف مع الدولة والدين، وجرأة إعلان ذلك لعموم المجتمع. الأمر الذي يقرأه المجتمع بكونه نوعا من الصدق والصراحة والشجاعة... وهو في أساسه تشغيل خاص لذكاء النفعية والتكيف، وإعلانها عموميا.

قياديو حزب العدالة والتنمية لا يتمتعون بكفايات الشيخ، التي تمتع بها بالمغرب السياسي عبد السلام ياسين.

إذن وفي رأيي المتواضع قياديو حزب العدالة والتنمية لا يتمتعون بكفايات الشيخ، التي تمتع بها بالمغرب السياسي السيد عبد السلام ياسين، ولكنهم مقابل ذلك يتمتع بعضهم، من مثل السيد بنكيران، بالمقدرة على إعلام المجتمع وإخباره عموميا بوضعية البريكولاج الشامل التي تسم المشهد الحزبي، من دون أن يكون قصده فعل ذلك. يتعلق الأمر بعنصر قوة، هو في الوقت نفسه مؤشر على الهشاشة.

 دائما أركز على هذا السؤال للباحثين والمتخصصين؛ وأنت كعالم اجتماع وأكاديمي كيف ترى مستقبل الإسلام السياسي بالمغرب ؟

الآن ليس بالمغرب وحده بل في مجموع العالم، الإسلام السياسي لم يعد يشكل مشكلا كبيرا سوى من ناحية واحدة، تتمثل في صلاته بالإسلام الحربي أو الجهادي و القتالي. الإسلام السياسي في صيغه التنظيمية الإخوانية (الاخوان المسلون، التبليغيون، العدليون...) يعيش الآن في وضعية حرجة من حيث مستقبله.

هنالك إسلام قتالي عنيف يدينه الإسلام السياسي ويعتبره خارج دائرة الإسلام الحقيقي، ومجالات سياسية تستدعيه للإندماج في تدبير الشأن المجتمعي، بكل ما يحدثه من تحول إلى طرف سياسي دنيوي، وقواعد شابة مستعدة في أية لحظة للإنتقال إلى ممارسة فعل القتل باسم الإسلام، بكل ما يحدثه ذلك من توتر وصدام مع المجتمع و الدولة.

أمام هكذا وضع، تُظهر مؤشرات كثيرة ميلا عاما لحركات وتنظيمات الإسلام السياسي في العالم العربي ككل، إلى قبول وضعية التحول إلى أطراف سياسية دنيوية منخرطة في السياقات السياسية سواء من موقع قيادة الشأن السياسي، أو من موقع ممارسة معارضته الشرعية والعلنية.

ربما شهدنا "تقديس" شخصيات ورموز سياسية ودينية مرت بالمغرب، كالمهدي بنبركة وعلال الفاسي وعبد السلام ياسين.. وحتى الملك الحسن الثاني. أنت بحكم اشتغالك على سوسيولوجيا المقدس، أين تتداخل حدود المقدس بين المجال السياسي والديني ؟

بالمجتمع المغربي لا زال التداخل حاصلا بين حقل القداسة والسياسة والإجتماع في بؤر ثلاث كبرى؛ أولها إمارة المؤمنين بكل محدداتها الدستورية ووظائفها الدينية وطقوسها السياسية. ثم مجال مدونة الأسرة التي جاءت نتيجة توافق على حجم حضور المقدس في الأحوال الأسرية، من إرث وإجهاض وولاية... وحجم حضور الدنيوي والمدني والحقوقي فيها، من زواج وطلاق وشراكة مالية وعنف وترمل.

بهذا الخصوص لا يمكن إنكار دور حركة 20 فبراير والحركات النسائية والحقوقية المغربية، في تقليص دوائر القداسة لصالح اتساع دوائر الدنيوي في الحياة الاجتماعية و السياسية المغربية.

لماذا في نظرك تغيب في المغرب تلك الشخصية السياسية "الكاريزمية" كما يسميها ماكس فيبر؟

سوسيولوجيا، تحتاج الشخصية الكاريزماتية عموما إلى لدنية ( بفتح اللام و ضم الدال )خاصة، أي إلى مواهب أو ملامح شخصية نابعة من طبيعة الشخصية الفردية، قد تكون مقدرات عاطفية خاصة على جذب الناس نحوه، أو ملكات عقلية وعقلانية على التدبير والتخطيط والتسيير، أو مقدرات ذاتية مرتكزة على انتماء سلالي وعائلي... لكن هاته اللدنية الخاصة تحتاج إلى حدث كبير وسياق كي تنبثق وتظهر ومن ثم تثبت حقيقة لدنيتها تلك أمام عيون الناس. وبناء عليه ينجر هؤلاء بكل وثوق وطواعية ورهبة، وراء هاته الشخصية الكاريزماتية والتي مفروض فيها أن تحافظ على نجاحاتها وتغذي أكثر فأكثر الإعتقاد فيها وفي "كراماتها وبطولاتها" الرمزية والواقعية.

القيادات الحزبية والمدنية تختار طوعا وضعية "المريد والتابع الطوعي" لشخصية الملك.

في المجال السياسي المغربي الحالي، أضاع القادة السياسيون والنقابيون فرصة حدث الربيع العربي في صيغته المغربية، والذي كان سياقا يؤهل فرز الشخصية الكارزماتية. أضف إلى ذلك أن النسبة الغالبة في القيادات الحزبية والمدنية تختار طوعا وضعية "المريد والتابع الطوعي" لشخصية الملك، والذي لحدود الآن يظل الأكثر تمتعا بالثقة الكاريزماتية في أعين المغاربة.

اشتغلت في أبحاثك على الزوايا وعلاقتها بالمجتمع. ما هو دور الزوايا في عصرنا "عصر الحداثة" (إذا جاز الوصف)، وأي تأثير لها في الحياة الاجتماعية ؟

لقد فقدت الزوايا أدوارها الكبرى تحت ظل ضغط التحولات الاجتماعية الكبرى التي عرفها المجتمع المغربي. فالبناء الاجتماعي لم يعد يرتكز على الأركان الثلاث التي تحكمت في تاريخه، على الأقل منذ القرن السادس عشر وإلى حدود نهاية القرن التاسع عشر، أقصد ثلاثية المخزن و القبيلة و الزاوية. لقد خلخل الحدث الاستعماري هذا البناء، وتكرست هاته الخلخلة بعد ذلك.

الآن وتحت ظل تعولم العالم ستفقد جميع التنظيمات والطوائف الدينية التقليدية حضورها المركزي في المجتمع، الأمر الذي جعل الكثير من الباحثين يعتقدون ويقرون بأن أمر الدين والتنظيمات الدينية قد انتهى ومات. (الفيبيريون الجدد، نسبة إلى السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر الذي أعلن نزع الحداثة للطابع السحري و الديني عن العالم).

الزوايا تقهقرت وفقدت أدوارها التقليدية، لكنها لم تمت ولم تنتهي بل خضعت لتحولات، مثلها في ذلك مثل جميع التنظيمات الدينية التقليدية. فالزاوية البوتشيشية مثلا غيّرت جلدها لتصبح مجالا لاستقطاب المسلمين الجدد من داخل فضاء العولمة، وهو ما يدفعها بالتدريج لتتحول إلى زاوية معولمة.

الزاوية البوتشيشية مثلا، غيّرت جلدها لتصبح مجالا لاستقطاب المسلمين الجدد من داخل فضاء العولمة.

المتحولون دينيا أصبحت ظاهرة دينية جديدة وعالمية، وهي الآن تغذي التنظيمات الدينية وتضفي عليها طابع التعدد اللغوي والثقافي والإثني، الذي بدوره يؤثر على نوعية أنماط الإعتقاد الديني التي لم تعد ترتكز كثيرا على المعارف الدينية الثقيلة، بل على إعلان الانتماء العقدي الذي يتغذى بما تقترحه شبكات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث من عروض دينية.

الزاوية التيجانية هي الأخرى غيرت جلدها لتصبح فضاء للديبلوماسية الدينية، وهي تقدم نموذج المسلم "الحاج" المتعدد الأصول. المؤمن الحاج العابر للأوطان والدول أصبح أيضا الآن ظاهرة دينية جديدة. إذن يتعلق الأمر بتحولات عميقة  تعرفها التنظيمات الدينية داخل سياقات الحداثة وما بعدها.

الجزء (2): "محلل" الخطب الملكية "فلاح" يدافع عن العرش.