على هامش الدورة الثانية من "جامعة مغارب"، التي نظمها "مركز مغارب للدراسات في الاجتماع الإنساني" بين 3 و6 نونبر الجاري، تحت شعار "أولويات الإصلاح بين السياسي والثقافي"، التقت "تيلكيل عربي" بالمفكر والروائي سعيد بنسعيد العلوي، ودار الحديث حول الفكر الديني بالمغرب والدولة الإسلامية، وكذلك حول بنية العدالة والتنمية، وعلاقة سعد الدين العثماني بالسلطة.
ما المقصود بالاصلاح في السياق العربي والإسلامي ؟
ما ألاحظه هو أن البعض عندما يتحدث عن الإصلاح فإنهم لا يقصدون به ترميم ما هو موجود. الكل يقصد، دون وعي منهم، بالإصلاح بأنه تغيير. هذا الأمر قد يكون مرتبطا بمكونات الثقافة الإسلامية العربية العميقة. وفي ظل هذه الثقافة نعتقد أن الاصلاح يعني الرفض الشامل، فهناك تخوف من أننا إذا رفضنا الإصلاح بشكل شامل، فرفضنا يشمل الدين كذلك. في حين أن إصلاح ما هو موجود، تكمن فيه جوانب من الممكن قبولها.
في عصر النهضة العربية غلبت عليهم الثقافة الدينية، ولم يعتمد مفكروها على ما "صلح ممن سبق" فقط، بل أخذوا في تلك اللحظة من فكر الغرب، واقتبسوا منه وانفتحوا عليه. لذا نجد محمد عبدو عندما يقول أن الحاكم في الاسلام منصب مدني من جميع الوجوه، فإن قصده يعني الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي. وهذا المنصب المدني هو منصب لائكي (Laïque).
لسوء الحظ الذين ترجموا كلمة اللائكية ترجموها إلى العلمانية. ويقصد بهذه الكلمة أن نضع الكنيسة في جانب والدولة في جانب آخر. لكن هذا التعريف ليس معناه أن أحدهما أفضل من الآخر أو مسخر لخدمة الآخر، وليس معناه أيضا أنه تهجم أو تقليل من قيمة الدين، وإنما لكل مجاله. العيب الكبير في ما نسميه بـ"الاسلام السياسي" هو المزج الفضيع بينهما. السياسة مجالها البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعندما أخالفك الرأي سياسيا فهذا لا يعني أني أكفرك دينيا. من يقوم بهذا المزج يصبح متحدثا باسم الله تعالى.
عندما أخالفك الرأي سياسيا فهذا لا يعني أني أكفرك دينيا. من يقوم بهذا المزج يصبح متحدثا باسم الله تعالى.
هذه الفكرة تذكرنا بأطروحة سعد الدين العثماني القائلة بـ"التمييز" لا الفصل ؟
العثماني أتفق معه في قضايا لكن أختلف معه في أخرى. قد أتفق معه في تمييزه بين السياسي والديني، لا التمييز بين الدين والدولة. هذا صحيح لكن الاختلاف معه يكمن في أن مساحة الديني أمام السياسي ليست دائما بنفس الوضوح. والمطلوب أنه يجب أن نترك لها الوضوح الكافي. أنا أقدر العثماني، لكن أرى أنه سيراجع مواقفه بممارسة السلطة التنفيذية (Il va s'assagir par l'exercice du pouvoir exécutif)، وسيجد نفسه في مواجه داخلية مباشرة مع واقع السلطة.
نحن نحتاج أن نقتبس من الحداثة ما هو شمولي، وهو ما أسميه روح الحداثة. أنا مهموم بالفعل أكثر من التأمل في الفكر. وأرى أن الإسلام هو عمل داخل المجتمع وليس للخلوة والابتعاد. من يقوم بهذه الخلوة يقوم بالفصل بين الديني والسياسي بالمعنى السلبي. لا يمكن أن أتمسك بتاريخ الاسلام نفسه وأهمل أمرا خطيرا، وهو السياسي والفاعلية السايسية. والحال أن تاريخ الاسلام كله منذ نشأته فيه جانب سياسي، يأخذ بنطاق ما هو ديني، منذ وفاة النبي محمد (ص) إلى الآن.
في رأيك ما علاقة "الإسلام السياسي" بإقامة الدولة الإسلامية ؟
لا وجود في قاموسي لما يصطلح عليه بالدولة الإسلامية. أنا أعرف الدولة الحديثة أو الدولة الثيوقراطية (الدينية). وحزب العدالة والتنمية مثلا في المغرب ليس إسلاما سياسيا ولا نظيره التركي. الإسلام السياسي كما أعرفه هو كل حركة تسعى إلى الاستيلاء على الحكم خارج الطرق المشروعة. لا تؤمن بالبرلمان ولا بالأحزاب ولا بالدستور ولا بأي شي من الحداثة. تؤمن فقط بالاستيلاء على الحكم بالقوة، بإقامة الخلافة الثانية.
الدولة كما يعرفها أي طالب في العلوم السياسية، هي التي تكون لها حدود جغرافية معترف بها. ينبغي أن تكون لها حكومة فوقها تمارس السياسة عليها، وشعب وأحزاب وجنسية للمواطنين.. هذه هي سمات الدولة الحديثة. وفي العصر الحالي، إما أن تكون دولة حديثة بالمعنى الذي ذكرناه وإما لا تكون. لكن أصحاب الإسلام السياسي لا يؤمنون بالحدود الجغرافية، بل بدولة الإسلام الجامعة والموحدة للأقطار، ويؤمنون بحاكم وبخليفة واحد. كما يؤمنون بالمسلم والكافر وبالحاكمية لله، وليس بالوطن والمواطن.
العدالة والتنمية يمكن أن نشبهها بالحزب الديمقراطي المسيحي بألمانيا، أو هكذا سيصبح. ولذلك قلت أن العثماني سيتعلم رغما عنه من خوضه غمار السلطة التنفيذية؛ أي إما أنه سيصطدم بجدار السلطة ويتحول حزبه إلى حزب بشكل كلي، كما يظهر حاليا، وإما سينفجر ويختفي نهائيا. وأما محاولة ابتعاد حزبهم وطريقة تسييره عن حركة التوحيد والإصلاح، فإن هذا مصيرهم وليس لهم خيار آخر. وهذا ما أرجحه، فالعثماني يخبر جيدا "نفسية التحول" والتأقلم مع واقع جديد، وما يقع له يذكرني برائد الإصلاح بالمغرب الحجوي الثعالبي، الذي ذاق السلطة واستفاذ من تجربته في التجارة والتنقل. أنا أرى أن الحركات الإسلامية لها خياران اثنان لا ثالث لهما، إما أن تصبح حزبا سياسيا وإما أن تتحول إلى "إسلام سياسي" تقتل الناس ولا تعترف بالدولة، وهذا ما يؤكده منطق التاريخ وكل المؤشرات.
الحركات الإسلامية لها خياران اثنان لا ثالث لهما، إما أن تصبح حزبا سياسيا وإما أن تتحول إلى "إسلام سياسي" تقتل الناس ولا تعترف بالدولة.
رجوعا إلى التاريخ، كيف تصف الدولة التي عاشت مرحلة ما بعد الاستقلال؟
الدولة العربية عاشت في ما بعد الاستقلال مراحل استبداد، خصوصا في البلدان التي عرفت انقلابات عسكرية. فقد كانت تضع الناس بين خيارين: إما لقمة العيش أو الورقة الانتخابية، إما الخبز أو المشاركة السياسية، إما تحرير البلد أو منح حرية التعبير. فأصبحت الديمقراطية في درجة ثانية وثالثة، وعوض أن تبني دولة الحق ودولة المؤسسات، بنوا دولة الصوت الواحد والحزب الواحد والرأي الواحد.
في المغرب لا يمكن فصل المسار الشخصي لمحمد الخامس، ولا المسار الشخصي لولي العهد آنذاك الحسن الثاني (ليس ابنه فحسب بل مكمله وساعده)، ولا بما قاما به، عن تاريخ الحركة الوطنية المغربية. كان هناك تداخل بين المشروعين وتنسيق على مستوى العمل. العمل كان بغرض تأسيس دولة حديثة، دولة القانون وكتابة دستور، وتأسيس مجتمع حديث. وهنا نرجع إلى سبب الاستعمار (أو ما يسميه مالك بن نبي بالقابلية للاستعمار) وهو سيطرة الفكر الخرافي والتواكلي والغيبي. إذن تنامى في تلك الفترة إلى الجميع، أن تحرير الوطن سياسيا رهين بتحرير الفكر. وبما أنه توجد إما ملكية مطلقة وإما ملكية مقيدة (أي بالدستور)، فإن محمد الخامس اختار الملكية الدستورية.
لكن هل تحققت الدولة الوطنية ؟
الدولة الوطنية هي الدولة والمؤسسات الحديثة (برلمان وأحزاب..) وفصل بين السلط الثلاث.. هذه الدولة لم تكن موجودة. كان المخزن يحكم ببنياته العتيقة. لكن عندما انتقلنا من مرحلة السلطان إلى الملك، أي عندما حمل محمد الخامس صفة الملك وليس السلطان، أثنائها خرجنا من قاموس إلى قاموس. وعندما تم تعيين ولي العهد انتقلنا إلى دولة أخرى.
لكن لا بد أن نشير هنا أن تطور الدولة الحديثة يكون نتيجة صراع ومخاض سياسي، وشد وجدب. ما ساعد في تلك الفترة في بناء الدولة الوطنية هو أن الحركة الوطنية المغربية، استفادت من مشروع النهضة العربية، بما يهمها وما يصلح لها، أي ربطها الاسلام بالعقل وبالعلم وبالحرية، واعترافها بأن مشروع التنوير في فرنسا لا يتعارض مع الإسلام، بل يمكن تسخيره في هذا الاتجاه. لذا لم يكن مشروع الحركة الوطنية مشروعا سلفيا بالمعنى الكارثي الذي نعرفه حاليا، بل كانت فيه مضامين ليبرالية، وعرف بأنه سلفية ليبرالية. وكان الهم هو بناء الدولة الحديثة وبناء المجتمع المغربي.
لم يكن مشروع الحركة الوطنية مشروعا سلفيا بالمعنى الكارثي الذي نعرفه حاليا، بل كانت فيه مضامين ليبرالية، وعرف بأنه سلفية ليبرالية
تكلمت عن القابلية للاستعمار، ألا تلاحظ أننا نعيش مرحلة القابلية للعنف ؟
اكتسبنا هذه القابلية مما نعيشه حاليا، فنحن في مرحلة تتداخل فيها عدة عوامل، تؤطرها بشكل عام أزمة القيم. ولم نعد نفكر كما فكر إصلاحيو النهضة بنظرتهم إلى الغرب ككتلة واحدة، بل أصبحنا نتعامل مع الغرب، كأوروبا الشرقية شيء، والغربية شيء وأمريكا.. الخ. أصبحنا بدون وعي ننظر إلى اليابان وكوريا الجنوبية كنماذج للدول المتقدمة. ثم أيضا انتشار العولمة وقيمها؛ وكما أنها تهدد هويتنا، فهي تهدد الغربيين أنفسهم. والكل يتذكر ما قاله جاك شيراك مدافعا عن الاستثناء الثقافي، حينما قال أنه يمكن أن نتفاوض على أي شيء إلا الجانب الثقافي للبلد.
الآن الكل يعيش في عالم افتراضي يعكس حياتهم، أكثر من الواقع الحقيقي. ولم يعد هناك كاتب محدد، بل أصبح الكل كاتب، والكل يصنع القيم والكل يتكلم في الدين.. كل هذا استغله أصحاب "الاسلام السياسي" بشكل كبير. إذن صانع "القيم الجديدة" والعالم الجديد أضحى يسنّ بشكل تدريجي للعنف ويؤطره. ولفك الارتباط يجب أن يقع توضيح وفصل ثقافي، وهو ما أسميه بتخليص الدين من الشوائب.
لذا ألح على الفصل بين الدين والسياسة والفصل بين الدين والعلم، بحيث لا ننظر إلى القرآن مثلا، على أنه كتاب علم ونظريات علمية. نحن في حاجة إلى مراجعة أغلب الكتب التراثية الساحقة. كتب الفقه التي كتبت قبل الف عام لا علاقة لنا بها اليوم.
لكن ماذا عن التراث الذي يحوم حول القرآن والسنة؟
هنا يجب أن أشير أن القرآن والسنة ليسا تراثا. وباللغة الكانطية (نسبة إلى إيمانويل كانط) فإنهما متعاليان (Transcendental). التراث محايث، لكن لكي أقبل أن القرآن والسنة متعاليان يجب أن أكون مؤمنا، أي محددا داخل النسق الإيماني. أنا أنطلق من ازدواجية مفادها: الايمان بالله والنبوة.. وعلى مستوى السلوك العملي، أومن بالعقل وقدرته وبتأثيره. لكن أنا واع بهذه الازدواجية بين الايمان وبين العقل، إذ ما يوجد في القرآن كلام إلهي ووحي، وما تبث في السنة يكمل بعض ما جاء في القرآن.
ما هو تقييمك لعمل المؤسسات الدينية بالمغرب ؟
تأطير الحقل الديني بالمغرب يتم بالشكل الأدنى والضروري، والمنطقي الذي يسعى إلى الحفاظ على وحدة المجتمع. لكن الضعف في إدارة الشأن الديني بالمغرب يكمن في تكوين العلماء والقائمين عليه. العلماء الدينيين بالمغرب، يحتاجون إلى تكوين خاص ينسجم مع روح العصر. نحتاج إلى علماء لا يتقنون اللغات الأجنبية فقط، بل متخرج من العالِمية من شعب علمية. ولا نحتاج إلى هذا المستوى الضعيف الذي يمتاز به المرشدون الدينيون. عندما أذهب إلى المسجد أسمع للخطيب، أجده وكأنه يتحدث في سنة 1330 وليس في 2017، وكأننا منفصلين عن الواقع. والمسلمون بشكل عام متأخرون بما أسميه "التأخر المزدوج".
التأخر المزدوج على طريقة النقد المزدوج للخطيبي..؟
أميل إلى فكرة التأخر المزدوج، وأقصد بها أننا متأخرون عن ركب الحضارة الغربية، وما وصلت إليه الحداثة. وفي نفس الوقت متأخرون عن التقدم الذي شهده المسلمون في ما سمي بالعصر الذهبي. وبالمناسبة هذا العصر ليس محددا بفترة زمنية بل يظل مفتوحا. ولن نتحرر ونتقدم، إلا إذا تجاوزنا التأخر المزدوج.