حشود بشرية تحج إلى هنا كل ما حلت ذكرى المولد النبوي. تنصب الخيم، وتسافر من مناطق الغرب ونواحي مكناس ضمن عائلات بأكملها. استنفار أمني وحواجز وطواقم طبية وأخرى تابعة للهلال الأحمر ترابط بالقرب من باب الضريح. الكل هنا يبحث عن الركض والوصول أولا "نحو بركة الشيخ الكامل"، ويبحثون سراً عن إحياء طقس أكل اللحم نيئا، وهو المعطى الذي يؤكده الطويل بن عيسى، أحد "المقدمين" لطائفة تضم 36 فرداً، كانت بصدد إحياء طقوسها في طريقها إلى داخل الضريح.
وخلف كل هذا نشاط تجاري، يدر على الواقفين خلفه أرباحاً وفيرة، مصدرها، ثمن إقامة من يقصدون الضريح اعتقاداً منهم أنه "يحمل الشفاء لدائهم"، بالإضافة إلى عطايا يحملها "الحجاج". يقول جلول، أحد مريدي "الشيخ الكامل" من منطقة "سوق الأربعاء"، إنهم يهدون عطاياهم لصندوق الضريح ولا يسألون عن مصيرها، "كل دوار أو مجموعة كتجيب الذبيحة، وكتجيب الهدية ديال الفلوس لصندوق الضريح، يمكن أن تبدأ بـ50 درهم وتصل إلى أكثر من مليون سنتيم، يقولون لنا إن أموالنا يذهب قسطاً منها إلى الأيتام، والقسط الآخر يدبرون به شؤون الضريح، حنا باغيين غير بركة الشرفاء، أما الأموال يتبرعو بها يقسموها يحرقوها لا يهم".
الطريق إلى الضريح
حواجز أمنية محكمة الإغلاق، يقف عند كل واحد منها رجل أمن يجاوره عنصر من القوات المساعدة، وبين الحواجز مسار طويل في الوسط ممنوع على الغرباء، وللدخول إليه، تحتاج تأشيرة من "مقدم" الطائفة التي جاءت لإحياء العادة السنوية.
مهمة توثيق المشهد وفصوله ليست عملية سهلة، وكل غريب يمسك بهاتف داخل الممر إلى باب الضريح، يسأل عشرات المرات عن هويته، وتطلب منه بطاقة تعريفه الوطنية، أحد عناصر الأمن، فسر كل هذا التشدد لـ"تيل كيل عربي" بالقول: "القائمون على الضريح يرفضون توثيق ما يوجد في داخله، كما أن زواره تعرضوا في سنوات ماضية لاعتداءات من مجهولين، لذلك اتخذت السلطات الأمنية وباقي مصالح وزارة الداخلية إجراءات أمنية مشددة في محيط المسار إلى الضريح وداخله". نفس التفسير يؤكده بن عيسى رواني، مقدم إحدى الطوائف القادمة من منطقة الغرب نواحي مدينة سيدي قاسم.
أذكار وحركات تدمج بين الرقص و"الجذبة" وفنون الحلقة، تتشاركها النساء جنباً إلى جنب مع الرجال، منهن من تضع غطاء للرأس، وأخريات بدونه، واللباس الأبيض يوحدهم والأسود ممنوع.
"غير حيد تجاكيت الكحلة لي لابس واخة البرد، ممكن يضربك شي واحد فيهم"، نصيحة وجهها لنا أحد المرابطين قرب الحواجز الحديدية قبل التفاوض لدخول الممر إلى باب الضريح. لماذا الأسود غير مرغوب فيه هنا؟ الجواب عن السؤال جاء على لسان شاب في العشرين من عمره، اسمه مروان الطويل، حافي القدمين يلهث من فرط القفز، قال لـ"تيل كيل عربي" إن "هذا حال، كين لي يعرفو وكين لي ما يعرفوش. حنا فينا الشوكة، وما يمكنش تعرف أنت أشنو كيدير فينا الكحل، راه ممكن تطلقنا على عتروس كحل نفرسوه وهو حي".
مروان يصف ما يشعرون به أمام من يلبس الأسود بـ"الحال"، ويضيف "فاش تيكون الحال كتكون فيه بوحدك، وأنت ما كتعلمش الغيب، وتقدر هديك لي لابسة لحكل تمشي تفرسها وأنت ما تشعرش براسك، خاصة من المواشي".
أكثر من حاجز للوصل إلى باب الضريح، وعلى طول آخر ممر إليه ترابط 6 فرق من أفراد الهلال الأحمر، كل مجموعة تضم 5 عناصر مجهزين بأدوات التدخل السريع والإسعاف، تستنفر المجموعات أطقمها كلما اقتربت مجموعة من الطوائف القادمة لزيارة الضريح، تخوفاً من وقوع اصابات وتدافع خلال "طقس الركض نحو باب الشيخ الكامل"، ويوضح الشاب مروان، أن هذا الطقس وبتنسيق مع مصالح الأمن أصبح متحكماً فيه إلى حد ما بتسيير من "المقدمين"، لكن هذا لا يمنع حسب روايته، من وقوع حوادث من حين إلى آخر، خلال تتبع "تيل كيل عربي" للمشهد لم تسجل أي حادثة، باستثناء وقوع عدد من النسوة مغشيات عليهن من فرط "الجذبة والتحيار" على طول المسار الذي يوصل إلى "باب البركة".
طقوس سرية
معروف على التابعين لضريح "الشيخ الكامل"، أكل اللحم نيئاً، وعن أصول هذه العادة، يروي المقدم الطويل بنعيسى، أنها مرتبطة بقصة وقعت لشيخهم، وهي أن "شخصا اسمه بروال، كان خادما عند الشيخ الكامل، ويوما طلب الإذن منه للذهاب عند عائلته، فأخبره الشيخ أنه عند عودته، إذا وجده مبتسما فهو من أهل الجنة وإذا وجده عابسا فهو من أهل النار، وعندما عاد بروال وجد الشيخ الكامل مبتسماً، هنا قامت القيامة بالأفراح، وهنك من أكل الصبار ومن افترس اللحم". كيف افترس اللحم؟ يسأل "تيل كيل عربي" "المقدم" الطويل، ليجيب: "كانوا يأخذون بقدرة الله الغنم أحياء ويفتقون بطونها ثم يأكلون لحمها نيئاً". وعن استمرار هذا الطقس، قال الطويل، إنه بدأ يقل، لكنه لم ينكر استمراره "باقين كبار السن"، وعن الشباب "كينين ولكن قلال، هد الصغار دبا حط ليهم معزة ولا خروف يخلو فيه غير المصارن والشحمة".
وعن شعورهم وهم يأكلون اللحم نيئاً، يصف "المقدم" الطويل ذلك بعبارة "ما كيشعرو بوالو كيغيبو".
أحد العارفين بشؤون الضريح، يكشف لـ"تيل كيل عربي" استمرار هذا الطقس في السر، ويوضح أن "الذبيحة أصبحت تقام اليوم داخل المذبح في الصباح الباكر، ويمنع توثيقها، ولا يمكن خلالها منع من اعتاد هذا الطقس، هناك من بدأه في سن صغيرة جداً، ويقول لك إن حجه للضريح لا يكتمل بدون إحيائه، كما أن بعض الطوائف التي تخيم بالقرب من مكانه، تذبح قرابينها، وتحيي هذا الطقس بعيداً عن الغرباء".
بدورها، قالت طامو، وهي من مريدات "الشيخ الكامل"، لـ"تيل كيل عربي"، إن أكل اللحم نيئا ورثوه عن أجدادهم. وتقول في شهادتها للموقع: "أنا وعيت على أمي تأكل اللحم خضر والأب ديالي بدوره، وكانت عندهم البركة، لدرجة أن والدي كان يشافي الزحافة !"
"البركة والتجارة"
دخل "تيل كيل عربي" إلى الضريح بعد مفاوضات مع القائمين على الضريح ورجال الأمن والسلطات المحلية، شريطة عدم توثيق ما يحدث في الداخل بالصوت والصورة. ازدحام شديد بالقرب من مكان مرقد "الشيخ الكامل"، وعناصر الأمن بالزي المدني تحيط بنا من كل جانب، وفي كل مرة يطلقون التحذير من إخراج الهاتف، ولو للرد على اتصال وارد.
في بهو الضريح، افترش العشرات من زواره الأرض، عند زاوية مقابلة للباب الرئيس مباشرة. ماذا يفعل كل هؤلاء هنا؟ وهل هم زوار بمناسبة ذكرى المولد النبوي؟
مصدر "تيل كيل عربي" من العارفين بأسرار وشؤون الضريح، أوضح أن مجموعة منهم تنتظر دورها لأيام للحصول على غرفة داخله، وكل زاوية فيه للكراء، تبدأ قيمة الإقامة من 50 إلى 500 درهم لليلة الواحدة، حسب المصدر ذاته، وتصل إلى 1000 درهم لليلة الواحدة، إذا أردت الحصول على غرفة خاصة بك. وعن سبب انفاق كل هذا المال، يوضح المصدر ذاته، أن هؤلاء "يبحثون عن الشفاء من أمراضهم، لكل واحد منهم غايته، لكن أغلبهم يعتقدون أن شرفاء وورثة الشيخ الكامل قادرون على إعادة زرع الحياة في أعضائهم الميتة، لذلك تلاحظون وجود مجموعة من الأشخاص الذي يعانون من الإعاقة أو صعوبات في الحركة بسبب المرض".
"واخة يكون القرطاس نجيو كل عام للشيخ الكامل، هذه عمرة تركها لنا جدودنا، واليوم ينفق علينا أبناؤنا لنأتي ونقضي ليالي الزيارة، وسوف نترك لهم بدورهم هذا الإرث". الحديث هنا لجلول القادم من نواحي سيدي قاسم، والذي تحدث بنبرة الواثق من عدم موت طقوسهم لأنهم مؤمنون بـ"صحتها"، ومن وجهة نظرهم، "تقربهم إلى الله، وسوف تكون شفيعة لهم يوم الوقوف بين يديه".