في إطار التصالح مع الماضي الأسود للمغرب، تتسلح السينما المغربية هذه المرة بأدواتها لتعري تاريخا جثم على نفوس المغاربة لعقود. وبمهرجان الفيلم الوطني بطنجة، في دورته 19، كان لجمهور السينما فرصة "للتصالح" مع السينما ومع الماضي.
قدم المخرج المغربي، عز العرب العلوي لمحارزي، فيلمه الأخير "كيليكيس.. دوار البوم"، ضمن الأفلام المنافسة على جوائز المهرجان. وكما كان منتظرا من صاحب "أندرومان"، جلب العلوي إليه جمهورا واسعا من مهنيين وطلبة متعطشين لأفلام تقدر حبهم السينما.
في فيلمه "كيليكيس"، تناول عزب العرب العلوي قضية الاعتقال والاختطاف التي شهدها المغرب في فترات سابقة، بقالب درامي. ورغم أن الفيلم لا يحدد الزمن والمكان، ولا يحدد الأشخاص المسؤولين في جهاز الدولة عن تلك الانتهاكات، إلا أنه عالج موضوع الاختطاف الذي تمارسه الدولة وتحاول إخفاءه، ليس عن المنظمات الدولية فحسب، بل حتى على سكان المغرب أنفسهم. وفي ذلك إشارة إلى مراكز الاعتقال السرية التي عرفت في بسنوات الرصاص؛ كمعتقل "تزمامارت" أو "قلعة مكونة".
الكل معتقل.. ومعلق !
يحكي فيلم "كيليكيس" قصة "دوار البوم" الواقع بأحد المناطق النائية بالمغرب، والذي تتحول حياة ساكنيه إلى رعب وتوجس، بعدما تم إنشاء قلعة عسكرية مجاورة له، يتم داخلها احتجاز المعارضين السياسيين القادمين من مدن أخرى.
وتختلف هذه القلعة عن باقي المعاقل العسكرية، إذ يحرسها سجانون من أبناء المنطقة، لا يعرفون وجوه المساجين ولا أسماءهم، وكل ما في اعتقادهم أنهم مساجين "ملحدون ضد النظام وضد وطنهم"، وبالتالي يعيشون في حالة اضطراب وشكوك نفسية واجتماعية.
ويعيش دوار البوم، والمناطق المجاورة له على إيقاع الغموض الذي يعتريهم جراء اختفاء أبنائهم، والذي يجعلهم يشكون في وجودهم داخل القلعة. ويربط المخرج بين شخصيات الطرفين (القلعة والقرية) بعلاقات اجتماعية ورمزية؛ إذ تشكل شخصية الفقيه محورا أساسيا يلتجئ إليه الجميع، من أجل الاستثارة وطلب النصح، في مسائلهم الاجتماعية، وليست الدينية.
الفقيه الذي أدى دوره الممثل محمد رزين، لم يترك مقامه بعدما تحولت القلعة إلى معتقل سري، وظل يعيش مع ابنه، الذي يساعده في صناعة القصب وبيعه، والذي بدوره، أي الابن (أدى الدور أمين الناجي)، يعيش حياة غير مستقرة؛ حيث يعاقر الخمر وتربطه علاقة غرامية مع ابنة أحد حراس القلعة.
وتحاول ابنة الحارس هي الأخرى، أن تبحث لها عن سبيل لتعيد فتح مدرسة القرية، التي أغلقت بعد إنشاء القلعة وبعدما ذاع الخوف بين سكان القرية من المتعلمين العائدين من المدن الحضرية. وتحاول الابنة تعليم الأبناء وفتح المدرسة من جديد، لكن الخوف المستشري بين الأهالي حال دون ذلك.
لحظة نزع الوهم
قد تكون معاناة المعتقلين داخل الزنازين مألوفة في الواقع وفي السينما، لكن في الفيلم حاول المخرج أن يصور تأثير القلعة على سكان المنطقة ومحيطها، مما شكل معالجة جديدة في السينما المغربية، لا سيما المواضيع ذات "الحساسية السياسية".
يستمر الفقيه في أداء عمله الاعتيادي: يستمع إلى هموم الناس ويحاول التخفيف عنهم. لكنه في الان ذاته وباعتباره الفقيه الوحيد بالقرية، يقوم بتغسيل المتوفين من المعتقلين ودفنهم.. إلى أن يكتشف ذات يوم أن أحدهم، هو ابنه الغائب "المختفي"، والذي طالما كان يبحث عنه ولم يتصور أن يكون بجواره بالقلعة منذ عدة السنوات.
لحظة الصدمة او اكتشاف الحقيقة ستقلب الفيلم، ليتخذ مسارا جديدا نحو الانعتاق من ربقة الحصار والوهم، الذي عاشت تحته الشخصيات الرئيسية في الفيلم. ولم تكن الصدمة إلا تأكيدا لشكوك طالما ساورتهم، حول من هم الأخيار ومن هم الأشرار في من يتحكمون في القرار بالمغرب.
هذا الأمر، جعلهم يخططون لكيفية فضح غموض القلعة وكشف لائحة الأسماء المختطفة والمبحوث عنها من قبل ذويهم، (كما حصل مع سجن تازمامارت)، لإيصال الحقيقة إلى المنظمات الحقوقية حول السجون والاختطافات القسرية بالمغرب.
مؤثرات بصرية غير مؤثرة
استعان المخرج المغربي عز العرب العلوي بمؤثرات بصرية، لتصوير شكل القلعة وصعوبة الوصول إليها، لكن المبالغة في بعض المشاهد أثر في الفيلم، وبدت خيالية وأبعد تناسقا مع مشاهد وديكورات القرية والمحيط الجبلي بالمنطقة.
وقبل عرض الفيلم بالمهرجان، لم يكن "كيليكيس" بصيغته النهائية جاهزا، إذ صرح المخرج أنه انتهى من تعديل الفيلم قبل يوم من عرضه. وحسب المتتبعين لكواليس الفيلم، فقد تم تعديل بعض المؤثرات البصرية بالتقليل من بعض المشاهد ثلاثية الأبعاد، لا سيما تصوير عزلة القلعة، والجسر المعلق الذي يربط بينها وبين القرية، بعدما وجهت إلى المخرج بعض الملاحظات من قبل النقاد والسينمائيين.
ختم عز العرب العلوي فيلمه هذا برسالة ابن الفقيه المتوفى، الذي ترك ورقة على جسده، كتب فيها خطابا يوضح طبيعة اعتقالهم، ويبشر بالأمل والمستقبل، تحمل دلالات الربيع (أو الثورة)، حيث قال: "باستطاعتكم قطف كل الزهور، لكن لا يمكنكم منع زحف الربيع".