مؤتمرات وندوات ولقاءات تنعقد بالمغرب وغيرها من دول العالم تناقش ماذا بعد داعش؟ سؤال طبيعي ومنطقي بعد الأخبار المتواردة من سوريا والعراق والتي تتحدث عن الهزائم العسكرية للتنظيم، وفقده لآخر جيوبه بالمنطقة.
هل انتهت داعش فعلا بفعل هذه الهزائم؟ من الصعب الحديث عن ذلك اليوم حتى على المستوى العسكري، فلا زال التنظيم يمتلك بعض الجيوب ولا يدرى ماذا يخطط وماذا يرتب للتعامل مع وضعه الجديد، فضلا عن انتقال كثير من عملياته وقياداته وجنوده لليبيا، حيث يستغل التنظيم حالة الفوضى واللادولة لاتخاذ المنطقة بديلا عن سوريا والعراق، مع استمرار الخطر الدائم الذي تمثله الذئاب المنفردة خاصة بأوربا والعالم الغربي عموما.
لكن حتى لو سلمنا بفرضية نهاية داعش عسكريا، هل يعني ذلك أن نتنهد ارتياحا وفرحا بنهاية الإرهاب، وأن نستبشر بعالم جديد لا إرهاب فيه ولا تفجيرات ولا اعتداءات؟
من الصعب المجازفة ذلك، لأن إيديولوجيا الإرهاب لا زالت قائمة ولم تمت، المصانع الفكرية التي قدمت منتوج داعش لا زالت تشتغل بحيوية ولم تغلق بعد، العوامل المختلفة سواء الإيديولوجية منها أو السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتي أنتجت الجماعات المسلحة التي واجهت الأنظمة، ثم أنتجت القاعدة ثم داعش، لم يتغير منها شيء، وما زالت قادرة على إنتاج صور أخرى وتمظهرات جديدة للإرهاب.
الظاهرة الإرهابية أعقد من أن تهزم عسكريا، لا زالت كل العوامل المركبة التي أنتجتها قائمة وحاضرة، بل ليس من السر الحديث عن جهات مختلفة وقوى كبرى تستفيد من وجود الظاهرة وتقتات عليها، بل وتهندس صراعاتها الإقليمية والدولية بناء على وجود تنظيمات متطرفة وإرهابية.
العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي أنتجت التهميش والإحساس بالضياع، وأضعفت قيمة الانتماء والاعتزاز بالوطن، وعرضت هوية الأجيال الصاعدة للهشاشة مما جعلها سهلة الاستقطاب من طرف التنظيمات المتطرفة، كل هذه العوامل لم يتغير منها شيء، ولا عولجت بما يجعلنا مستبشرين بأجيال محبة لأوطانها، معتزة بانتمائها، لها من الحصانة والمناعة ما يجعلها عصية على أي تنظيم متطرف أو إرهابي؟ للأسف لا نرى من ذلك شيئا ولا في الأفق القريب ما يدفع على التفاؤل.
وأهم من ذلك كله، هل هزمنا الإرهاب فكرة وإيديولوجيا؟ هل قدمنا بديلا عن الخطاب المتطرف بشرط أن يكون بنفس قوة الجاذبية والتأثير؟ هل أصلحنا المناهج التعليمية بما يجفف الإرهاب من منابعه وجذوره؟ هل أسسنا لثقافة والتعايش والتسامح والاعتراف بالآخر؟ هل أنتجنا من البرامج الإعلامية ما يخفف حدة الميل للعنف في نفوس الناشئة والأجيال الصاعدة؟ هل أهلنا الأسرة لتقوم بدورها في الوقاية من العنف والتطرف؟
لم نقم بشيء من ذلك، ثم نتحدث عن نهاية داعش.
لعله من حسن حظنا في هذه الأيام أننا في الوقت الذي نعيش ما بعد داعش، نعيش أيضا ما بعد الوهابية، وهي فرصة للقضاء على أهم الإيديولوجيات التي أنتجت داعش وأبرزتها، ما تعيشه السعودية اليوم بغض النظر عن سياقاته ودوافعه السياسية، فهو الوقت المناسب من التخلص من أفكار وأدبيات واختيارات أفسدت العالم الإسلامي، وتسببت له في عدد من الخسائر والويلات.
لا يمكن القضاء على الإرهاب ما لم نقدم خطابا بديلا لخطابات الولاء والبراء، والاصطفاف الطائفي، ودار الحرب ودار الإسلام، والدولة الإسلامية، وأحلام الخلافة، وأوهام التمكين والاستعلاء والخيرية.
لا يمكن القضاء على الإرهاب ما لم نفتح ورشة الإصلاح الديني، ونعالج بكل جرأة ما أشكل من قضايا مرتبطة بالدين، ونفتح أبواب الاجتهاد، ونحارب التقليد والجمود، ونقدم للعالم قراءة تنويرية تصالح الدين مع العقل والعلم والمجتمع.
كل هذا وغيره مفاتيح للقضاء على الظاهرة، أو على الأقل الحد من آثارها وتداعياتها المدمرة، لكن دون ذلك سنجد أنفسنا أمام أجيال جديدة من الإرهاب، وسنضيع أوقاتا طويلة في تحليل الظاهرة والبحث عن طرق معالجتها، دون تحقيق أي تقدم في الواقع.
إلا أنه لابد من التنبه لأمر مهم متعلق بهذا الخطاب البديل، وهو ما يتعلق بشكله وأسلوبه، فإن من أهم ما جعل الخطاب الداعشي مغريا وقادرا على الاستقطاب، هو بساطته لغة ومضمونا، وهو ما جعله يقدم حلولا جاهزة لذوي التعليم الضعيف والمتوسط، فحينما نقدم بديلا معقدا بلغة عصية على الفهم، أو لا يفهمها إلا المختص، فمن الطبيعي ألا تجد قبولا عند كثير من الشباب الباحث عن حلول سريعة بلغة بسيطة.
أنسنة الدين هي أهم ورشة في مشوار الإصلاح، لكن استيعاب هذه الثقافة الإنسية، والتشبع بها، وتنزيلها على الأرض، يحتاج إلى عقول واعية، وتوعية العقول وترقيتها لا يكون إلا عبر التعليم ومناهجه وبيداغوجياته.
إذن، بدل أن نترنح فرحا بالانتصار على داعش وسحقها عسكريا، لا بد من تفكير جدي فيما يضمن القطيعة مع الظاهرة، فمن يدري ونحن اليوم نتحدث عن داعش، هل سنتحدث في سنوات قادمة عن ما بعد ما بعد داعش، لا آمل ذلك طبعا، لكن المؤشرات لا تبعث على التفاؤل.