د. كمال القصير - مفكّر مغربي
هذه وجهة نظر هادئة أطرحها حول الدولة المغربية، أمام المعارضين والمؤيدين، والمحبين والكارهين في المنطقة، لمزيد من دراسة هذا النموذج واستكشاف المعطيات الخاصة به.
إن هناك أشياء كثيرة وبالغة الأهمية عن المغرب لا يعرفها الجيل الحالي من المغاربة، أو بالأصح، لا يشعرون بها. وغيابها للأسف لا يساعد هذا الجيل على رؤية الأمور بشكل جيد.
وعي الجيل الحالي
أما السياسيون المنشغلون في عالم البزنس والمال، فقد تخلوا عن واجب إمداد وعي هذا الجيل بما يلزم من المعطيات والأفكار، لافتقارهم هم أنفسهم للمعرفة بتاريخ الدولة أو ما ينبغي أن تسير عليه في المستقبل. بينما يبقى المثقف آخر من يستشار في مسار الدولة أو متطلبات وعي الجيل الحالي.
إن مغاربة القرن الواحد والعشرين ينبغي أن يعرفوا أننا خرجنا من قرنين؛ هما الثامن عشر والتاسع عشر، من التفكك والتيه والجهل المجتمعي والسياسي، إلى القرن العشرين وما بعده من الاستقرار واستعادة التوازن وتوحيد الخارطة السياسية.
لكن حاسة التاريخ باتت ضعيفة بين الناس، وبات حضور أبسط معطياته الأولية مفتقدا بالنسبة للأكثرية. وإن دولة قادمة من عمق التاريخ ينبغي ألا يكون التاريخ آخر اهتمامات وأولويات نخبتها السياسية، وأضعف أدواتها في بناء الجيل الحالي. والكثيرون لا يستوعبون الأمور حين يشاهدون معالم التاريخ في كل مكان؛ حيث تتناثر قصصه، حيثما التفتنا في المدن والقرى.
المغرب دولة قديمة ضمن محيط بالغ التغيير، وكونها دولة قد عمرت منذ قرون عديدة، فهذا يدل على أن لديها مقومات الاستمرار، فقوانين التاريخ لا تحابي أحدا.
إن مسألة القدم توفر قاعدة مرجعية في التعامل مع الأزمات والتحولات. وعنصر القدم أساسي بالنظر إلى المشكلات البنيوية المستعصية التي وصلت إليها دولة ما بعد الاستعمار، التي تفتقر إلى عنصري المرجعية والتراكم في إدارة السلطة.
الدولة العلوية لا تستحوذ على ذاكرة المغاربة ولا تلغي الآخر المختلف. وفي كثير من المدن المغربية، تجد شارعا يحمل اسم أحد المعارضين الكبار للنظام. فهناك شارع المهدي بن بركة، أحد الخصوم الذين احتفظت الدولة التي عارضها بقوة باسمه ورمزيته في الوعي المغربي المعاصر.
وإن كان هو قد فكر في التخلص من النظام، فإن حال الدول في التاريخ أنها تستعد لخصومها كما يستعدون هم لها. وفي الضفة المقابلة، يوجد شارع محمد بن عبد الكريم الخطابي رجل الريف المعروف.
إن المغرب لا يقضي على الذاكرة مهما اختلف معها. وهل من السهل أن نتخيل شارعا في مصر يحمل اسم محمد مرسي، أو في الجزائر يحمل اسم عباسي مدني، أو في العراق يحمل اسم صدام حسين، أو في سوريا وتونس وباقي المنطقة؟
إن هذه ليست جزئيات، فالدول التي تخيفها الذاكرة دول ضعيفة وحاقدة. وقلما أن يحدث في المنطقة أن تتوب دولة عما اعتبرته تجاوزات سابقة في حق الكثيرين من خصومها، مثلما فعل المغرب، عندما قرر تعويض من تضرر من تلك الممارسات.
لقد ساهمت الدولة في تعليم اليسار والإسلاميين المعارضين السابقين كيفية إدارة السلطة، بعد دخولهم في دائرتها. وأدى ذلك مع مرور الوقت إلى اتساع طبقة الممارسين للعمل السلطوي، بعد أن كانوا مجرد معارضين حالمين.
الدولة المغربية نموذج أساسي في إدارة المؤسسة العسكرية والأمنية، وجعلها مؤسسة محترفة والنأي بها عن السياسة والاقتصاد والوعي المجتمعي العام. وخبرة الدولة العلوية قديمة في هذا المجال، منذ أن واجه السلطان سيدي محمد بن عبد الله مشكلة جيش عبيد البخاري، الموروث من زمن مولاي إسماعيل، وتحكمه في السلاطين. كان عدده في مرحلة معينة يفوق مائة ألف، وقد تمكن السلطان بسبب الشرعية وحجم الإجماع حوله، من تشتيت ذلك الجيش الذي كان يعتبر إحدى مشكلات المغرب الضخمة لفترة طويلة، تشتيتا فظيعا، في منطقة غرب المغرب، على قبائل بني حسن. وهو أمر ربما لا يعرفه أبناء تلك المنطقة.
إن هذا الأمر ليس مجرد قرارات سياسية، فقد حولت الدولة العلوية نظر المغاربة للجيش إلى وعي اجتماعي، فالمواطن المغربي لا يتخيل تدخل الجيش في السياسة والاقتصاد.
الخلط بين العسكري والمدني
إن هذا النوع من الوعي أساسي في منطقة لا تتوقف معاناتها جراء الخلط بين العسكري والمدني. ولأن هذا الوعي مترسخ لدى المغاربة، فقد أصبح عاديا، والمغاربة لا يعرفون أكثر من اسمين أو ثلاثة لضباط كبار. ولذلك، فإن الجيل الحالي لا ينتبه إلى أهمية هذا المعطى، وهو يشاهد ما تقاسيه شعوب المنطقة من ويلات تدخل الجيوش في حياتها العامة والخاصة. إن ما يعتقده المغاربة عاديا، يراه السودانيون والتونسيون والمصريون والسوريون والجزائريون مشكلة ضخمة. وتبذل في سبيل حلها الشعوب العربية الغالي والنفيس.
إن حالة الاستبداد العسكري العربي لا يمكن الخروج منها من خلال مسار ديمقراطي انتخابي أو ثورة لحظية، بل عبر مسار تراكمي طويل الأمد، من محاولات تقليص نفوذ الجيوش وتدخلها في السياسة تدريجيا. وبدرجة متقدمة من الإجماع الشعبي، تجعل عمليات الانقلاب على المسارات الديمقراطية والسلمية بالغة التكلفة على الرغبات الانقلابية للجيوش في المنطقة. وقد سبق المغرب تركيا بعقود في إبعاد المؤسسة العسكرية عن السياسة والاقتصاد والتعليم، وإن كانت الديمقراطية التركية أكثر تقدما.
لابد للدارسين والباحثين في المنطقة أن يسألوا أنفسهم سؤالا بالغ الأهمية، لماذا تحملت الدولة المغربية الضغوطات الخارجية والإقليمية الهائلة، لتحمي مرور تجربة الإسلاميين في هدوء، رغم كل المغريات المعروضة؟ ولماذا لم يتحمل غيرها تلك الضغوطات؟ ولماذا كان المغرب حالة فريدة في دعم قطر، عندما تم حصارها؟ لا شك أن الأمر يتعلق بسلوك متأصل في بنية الدولة.
ويُحسب للدولة العلوية هدوءها في واقع تدوس فيه كثير من الأنظمة في المنطقة على الملايين من الناس لا مجرد الألوف. لكن الإعلام العالمي يركز على نموذج الدوس على البشر، ولا يعير اهتماما لنموذج السلوك الهادئ لدولة لحظة الأزمات، لأن الدوس على الرقاب هو ما يصنع الحدث. ومع ذلك، يبدو المغرب بلد التناقضات. فإذا رأيته من الخارج، رأيت تأثيرا وامتدادا في جواره الإفريقي والأوروبي. وإذا نظرت إليه من الداخل، تساءلت كيف يمكن أن تجتمع صورة الخارج مع واقع المشكلات الاجتماعية والاقتصادية.
الدولة ناجحة في تشكيل الوعي المغربي من خلال مقاربة دينية، وهي الغالبة حول المذهب العقدي والفقهي. لكن دور الدولة في بناء الوعي السياسي المغربي هو الحلقة الأضعف ضمن خطة الوعي الجماعي؛ إذ باتت روافد الوعي السياسي المغربي متعددة ومتأثرة بفشل الطبقة السياسية، المفتقرة إلى التكوين الثقافي والتاريخي.
إن الدولة في حاجة إلى تقريب أهل الفكر، لا لحاجتها إلى مشورتهم فقط، فهذا أمر قد تستغني عنه وتعيش من دونه، لكنها في حاجة إلى تقريب المفكرين، لتصنع لدى الجيل الحالي والأجيال القادمة وعيا بأهمية هذه الفئة، ولتقول للناس إن الفكر والثقافة أساسيان لقيام واستمرار الدولة. والتجربة والنموذج الديني المغربي مهم لدراسته في المنطقة، لكن قدراته النظرية وإنتاجه لأفكار إصلاحية، يوازيه ضعف في القدرة على إنتاج المفكرين. إنه استثمار في الأفكار، لا في المفكرين. وسوف يكتب التاريخ أن المغرب في هذه المرحلة كان ضعيفا ثقافيا، من حيث أن أهل الفكر فيه هم الأدنى رتبة على الإطلاق.
ويُحسب للدولة المغربية أنها تحترم علماءها، فهي لا تخيف دعاة أو وعاظا، ولا يسجل عليها اعتداء أو سجن لعلماء الإسلام. وإنك كمغربي لا تستيقظ صباحا على أخبار سجن أو اعتقال فقيه.
التصرف كأمة
المغاربة لا يفكرون أو يتصرفون حاليا كأمة، وأمامهم وقت لبلوغ هذا الأمر المعلق على حسم ملفات عالقة. إن مفهوم الأمة المغربية كامن في الوعي التاريخي البعيد والقريب، لكنه في حاجة إلى تخليصه من ترسبات تمنع ظهوره بشكل أوضح. إن ضعفنا الثقافي وتواضع انضباطنا الاجتماعي، مقارنة بأمم أخرى؛ مثل اليابان مع الفارق، مازال يحول دون تشكل الأمة المغربية. وهو مفهوم فوق الدولة والمجتمع، ولم يتشكل حتى اللحظة في المنطقة العربية، والمغرب يعتبر قريبا، لأن دولته قديمة. لكنه لم يصل حتى اللحظة إلى صناعة الانضباط الصارم والتنظيم الاجتماعي بين أبنائه.
وتحمل الدولة المغربية شاءت أم أبت الجينات الإمبراطورية، رغم كل مشكلاتها السياسية والاقتصادية. وهي جينات موروثة بسبب طبيعة المسار التاريخي لتطور هذه المنطقة. لكن تلك الجينات تحتاج إلى الفاعلية، وتنتظر حدوث طفرة لتتشكل في لحظة معينة. والمغرب ليس حالة ديمقراطية متكاملة، وهو ليس استبدادا أبدا، لكنه حالة نموذجية لاستنساخ عدد من أدواتها وسلوكها في المنطقة؛ حيث توفر نموذجا عمليا لإمكانية التعايش بعيدا عن منطق الإلغاء العنيف.