لطالما اعتبرتُ رواية "زوربا اليوناني" أعظم نص أدبي قرأت، قبل لقائي بالكاتب المغربي الكبير عبد الكريم جويطي: ذلك القارئ المدهش، الذي أثار انتباهي إلى هذا التقرير لكاتب "زوربا" نفسه الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس (1883-1957) وهو نص أدبي يمزج بين السيرة الذاتية الفكرية والتأمل الخالص الذي لا يخلو منه نص لكزانتزاكيس، علمت بعد القراءة الأولى أنني أمام تحفة أدبية خالصة تُنازع "زوربا" مكانتها.
ترجم الكتاب ترجمة أنيقة ممدوح عدوان وصدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع سنة 1961، ليعيد نشره المركز الثقافي العربي سنة 2017، في 636 صفحة من الحجم المتوسط.
كتب كزانتزاكيس هذا التقرير - وأهداه إلى جده الرسام "غريكو" - سنة 1956 خلال فترة مرضه الأخير، لتنشره زوجته هيلين سنة 1961، كأنه كان يمشي في الاتجاه المعاكس للموت: الصعود إلى البدايات عبر مزج الواقع بالخيال خلال طريق الحياة الحافلة لواحد من كبار أدباء القرن العشرين.
ولذلك، فلن تجد في هذا الكتاب سيرة كزانتزاكيس الذاتية كما هو متعارف عليه في كتب السير، بل "ستجد في هذه الصفحات الأثر الأحمر الذي خلفته قطرات من دمي، الأثر الذي يشير إلى رحلتي بين الناس والعواطف والأفكار" كما يعبر الكاتب في مقدمته.
لقد كان نيكوس يدرك أنه يكتب نصه الأخير، نصه النهائي المستحيل، "لأن هذا الأثر الدامي هو العلامة الوحيدة التي ستتبقى من عبوري إلى الأرض. فكل ما كتبته أو فعلته كان مكتوباً أو محققاً على الماء، وقد تلاشى." وبذلك يحاول هذا الكتاب أن يضع تصورا لجمال العالم من خلال الأشياء الأكثر بساطة: عجائب الحياة اليومية العادية، بعينيّ رجل عرف عمى الشباب وغطرسته، وعاش معاناة الموازنة بين رغبات منتصف العمر وروحه التواقة، وحكمة الشيخوخة في زمن الانتقال الصعب: النصف الأول من القرن العشرين، وذلك من خلال إعطاء الحياة تصورا مترابطا لم تمتلكه يوما في الواقع.
وفي ذلك التصوير تكمن جودة النص، فهذا رجل عاشق لحياة عاشها بتفاصيلها الأشد بساطة بسعادة واندهاش لانهائيين، يصف استعداده للموت بقوله: "أجمع أدواتي: النظر والشم واللمس والذوق والسمع والعقل. خيّم الظلام وانتهى عمل النهار. وأعود كخلد إلى بيتي، الأرض، ليس لأني تعبت وعجزت عن العمل، أنا لم أتعب، لكن الشمس قد غربت." يمكنك أن تتخيل الآن جمال تصوره عن الحياة.
ينسج النص علاقات وطيدة مع الأرض والحياة والبشر، في محطات سفر عمريّ طويل من كريت حيث خطا الكاتب أولى خطواته، إلى جبل أثوس وفلسطين وصحراء سيناء، مرورا بإيطاليا وروسيا... مبشرا بالحقيقة النهائية: الصعود الأبدي من أجل الخلاص.
يحكي كزانتزاكيس لقاءاته الفكرية بكل من بوذا وهوميروس وبيرجسون ونيتشه، الذين كان لهم أفدح الأثر في مجمل تصوره عن الوجود، مثلما يحكي عن لقاء حياته حين التقى بمثاله الأعلى: زوربا اليوناني الرجل الذي خلده في واحدة من روائع الأدب العالمي.
تمثل كتب نيكوس كزنتزاكيس، كلٌ على حدة، مدخلا لفهم فكره، لكن "تقرير إلى غريكو" هو ما يشبه جينيالوجيا لكل الأفكار والهواجس والقصص الصغيرة المنثورة في تلك الكتب، والتي لا يمكن أن تُفهم في سياقها العام دون قراءة هذا التقرير.
حين أنهيت قراءة هذا الكتاب تمنيت لو أنني لم أقرأه، ليتني لم أتعرف إلى عبد الكريم جويطي الذي أفسد عليّ متعة الاندهاش أمام أي كتاب بعد تقرير إلى غريكو!.