أحمد مدياني: أوشفيتز عربية

أحمد مدياني
أحمد مدياني

"فوق هذه الأرض روح كل يهودي، أحرقه أدولف هتلر، تحمل لعنة تطارد العالم كله". كان هذا مطلع روبرتاج نشرته على موقع "تيلكيل عربي"، شهر يناير من العام 2019، بعد زيارة قمت بها إلى أحد أخطر معسكرات معتقلات ألمانيا النازية، إبان الحرب العالمية الثانية؛ حيث شيدت كبريات أفران الغاز التي روت لنا كتب التاريخ أنه تم حرق اليهود داخلها، وإبادة عشرات الآلاف منهم ما بين الجدران الخشيبة.

في شهر دجنبر عام 2018، وصلت إلى أوشفيتز؛ مدينة صغيرة تبعد عن كاتوفيتشي، إحدى كبريات مدن بولونيا (بولونيا)، بحوالي 120 كيلومترا، ولم أهتم حينها إن كنت أول صحفي مغربي وشمال إفريقي وعربي يلج معسكرات الموت، ويكتب عنها، ومازلت لا أهتم بذلك، كي لا يختلط الذاتي بالموضعي الذي يهم أولا وأخيرا.

وما يهم هنا، طرح سؤال صادم تجاه الذين ينكرون على الفلسطينيين صفة الإنسان!

نعم.

هناك من يحاول جعل عشرات الآلاف من الشهداء، وأغلبهم من النساء والأطفال والرضع وكبار السن، مجرد أرقام لا بشر، ومنع أو التشويش على أن يكون فعل إبادتهم، داخل خيم النازحين وفوق أسرة المستشفيات وداخل حجرات الملاجئ والمدارس، محط مساءلة جنائية دولية تفرض، على الأقل، الفعل في حدوده الدنيا، بإصدار مذكرة توقيف دولية في حق من يقف وراء جرائم الحرب؛ وعلى رأسهم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو.

إن الذين يحاولون طرح صناعة رأي عام، وإن بصيغة زائفة، يعرفون جيدا قيمة التأريخ، وقوته في التأثير على الحاضر وصناعة المستقبل. لأجل ذلك، اخترت أن يكون مطلع هذا الرأي الحديث عن تجربة المرور بمعسكرات أوشفيتز، التي تحولت إلى متحف كبير، أجزاء منه مفتوحة، وأخرى حكر على دخول اليهود إليها فقط.

هناك، يحفظون أصغر التفاصيل التي تختزل تفاصيل "المحرقة". صور وملابس ورسائل ووثائق، بل حتى عرض ما قيل لنا إنها بقايا عظام ورماد من قضوا نحبهم هناك.

نحن لم نعش تلك الحقبة كما نعيش اليوم نقلا مباشرا لإبادة الشعب الفلسطيني. ومع ذلك، مكرهون على تصديق الرواية كما وصلتنا، بل ممنوع علينا تكذيبها أو حتى التشكيك فيها، وفعل ذلك مجرمٌ بقوة القانون، فوق تراب أكثر من دولة حول العالم.

لذلك، أستغرب حد الاستنكار من الذين يملكون "الزعامة"، وهم منا، باقترافهم محاولة التشويش على موقف رفض إبادة إخواننا في غزة، وقتل آخرين بدم بارد في الضفة الغربية وجنوب لبنان.

مع تكرارهم لأسطوانة أن عملية السابع من أكتوبر "عمل إرهابي"، وليست فعل مقاومة ضد محتل، صنع أكبر معتقل مفتوح على السماء، يحتجز داخله ملايين الفلسطينيين، ويحرق حياتهم يوميا، بتقطير جرعات "غاز الموت" الذي يتجسد في أكثر من صورة وفعل.

أسطوانة لم يعد يصدقها حتى الذين يحترفون صناعة الأفلام البورنوغرافية!

حسب آخر الأرقام الرسمية، حصيلة الشهداء في قطاع غزة، خلال عام ونيف، تقارب 45 ألفا. وعدد الجرحى والمعطوبين يتجاوز 100 ألف، دون وجود معطيات دقيقة بخصوص الأسرى.

كل هؤلاء، عند من يوالون إسرائيل وتمثلاتها، وإن لم يكونوا منها ولن يكونوا أبدا، هم مجرد أرقام يجب أن يحرموا، الآن قبل غد، من تخليد ذكرى إبادتهم في المستقبل. أن يحرموا مما يشبه أوشفيتز عربية تحكي لأجيال المستقبل تفاصيل جرائم الحرب والمجازر التي تحدث منذ عقود، وليس قبل عام فقط.

أن لا تتحول اللازمة إلى "فوق هذه الأرض روح كل فلسطيني أبادته إسرائيل وحلفاؤها، لعنة سوف تطارد العالم كله".

وأقول لمن يقترفون تزييف الحاضر، وإن كنا من شهوده: حاولوا فقط التشكيك في تفاصيل "محرقة اليهود"، وليس إنكارها. حاولوا المطالبة بإعادة محاكمة من تسبب فيها، بعيدا عن محاكم العدل الدولية.

أنتم على يقين، قبل غيركم، أن موقفكم لن يدخل في خانة حرية الرأي، بل هو عندهم جريمة يعاقب عليها القانون، أفلا تعقلون؟!