أحمد مدياني: الملك وجرأة التأسيس لفصل السلط

أحمد مدياني
أحمد مدياني

مع صدور بلاغ الديوان الملكي بشأن إحالة بعض تعديلات مدونة الأسرة على المجلس العلمي الأعلى، قصد طلب فتوى جماعية تَفصل في أمور لها علاقة بالدين الإسلامي، عادت الصور الجماعية للجنة تعديل المدونة للبروز بمواقع التواصل الاجتماعي، ترافقها رسائل مباشرة أو غير مباشرة تتحدث عن أن "العلماء كانوا مهمشين طيلة مسار التعديل... يقفون على الجانب..." ثم عاد القصر لينصفهم!

صور تفرض طرح السؤال التالي: هل فعلا كان أعضاء المجلس العلمي الأعلى مهمشين خلال رحلة التشاور حول التعديلات، أم نحن اليوم أمام درس جديد من دروس التأسيس لفصل السلط؟

أولا، يجب الاتفاق على كون أن مدونة الأسرة وثيقة مدنية تؤطر حياة المغاربة... تتضمن تشريعات وقوانين تهم الأسرة، وقد تم إنتاجها في سياق تطور التحولات التي طرأت على المجتمع، مثلما تجيب أيضا عن حاجياته النابعة من افرازات شعب ينمو داخله التعدد الفكري والعقائدي. مصادر صياغتها متعددة، ولو كان منبعها واحدا، لانقطع جريان نهرها.

ثانيا، بالضرورة، يجب استحضار أن مغاربة اليوم ليسوا هم مغاربة الأمس ولن يكونوا كذلك بعد 20 سنة. هذا هو قانون التطور. وأي جمود سواء كان كرها أو طواعية، فهو يعني مباشرة إعدام أي تقدم، مع ذلك يحدث التطور عاجلا أم آجلا بنفس المنطق، وبقوة تفاعلات الواقع وشروطه - بنيويا على الأقل - ما يحز في النفس هنا، أن الرافضين لوضع المغرب على سكة طفرة القوانين، يتفرجون يوميا على مآسي تجارب الجمود في الدول حيث فُرض بقوة الماضي أو سطوة السلاح، مع العلم أن قوة الواقع أقوى من إرادتهم.

وبما أننا نتحدث عن وثيقة مدنية، فإن مسار التشاور الذي اعتمد، تَوجب أن يكون كما هو عليه، ولا أعتقد أن أعضاء المجلس العلمي الأعلى كانوا مهمشين خلال جميع محطاته، ثم منحهم الملك محمد السادس كما ذهب البعض لوصف ذلك "ريمونتدا" ضد باقي مكونات المجتمع المغربي، بل العكس تماما، لأن العلماء لم يكونوا ليقبلوا برفع الصيغة النهائية لمقترحات التعديلات إلى القصر، دون التأشير عليها وختمها بموافقة تبقى هي الحجر الأساس لأي تحولات كبرى قد تطرأ على فحوى مدونة الأسرة في صيغها الدينية.

ولفهم أكثر لما تأسس عليه بلاغ الديوان الملكي دون الغرق في وهم الفهم لما قبله وما بعده، وجب التركيز على مضمون المنطلقات التي أطرت تدخل الملك بالصفة التي يخولها له الدستور وهي إمارة المؤمنين التي تعتبر الجامع حين يتعلق الأمر بالفصل في أمور الدين.

وجاء فيها أن "استصدار هذه الفتوى من الجهة الرسمية المكلفة بالإفتاء المشكلة من خيرة العلماء المغاربة، يضع حدا للتأويلات الدينية الفردية التي لا تراعي الواقع الاجتماعي وتطلبات العصر، ولا تستحضر التفسير المقاصدي للنصوص الدينية، وتعليل الأحكام وتغيرها بتغير المكان والأزمنة والأحوال".

هذا التوجيه الملكي، لم يخرج العلماء من التهميش كما دفع بذلك البعض، بل رفعهم لدرجة إضافية من التشريع، تؤكد أن النقاش الذي رافق صياغة المقترحات النهائية التي رفعت للقصر، اتسمت بالتدافع وبحدة إيجابية، تُترجم حجم التحديات التي وضعت بين يدي اللجنة المكلفة، لينتقل بعدئذ حسم الفصل في الأمور الدينية من درجة مشاركة أعضاء المجلس العلمي الأعلى بالتمثيلية إلى درجة إصدار فتوى جماعية.

امتياز لم يمنح لأي مؤسسة أخرى من المؤسسات الممثلة في صياغة تعديلات مدونة الأسرة، حيث انتهت مهمتها برفع الصيغة النهائية للقصر.

وما يؤكد ذلك، العودة لما أطر بلاغ الديوان الملكي، حين شدد على أن الإحالة على الفتوى يساير "القوة الاقتراحية والمطالب الاجتماعية المعبر عنها، وفق توفيقيات تجديدية، تستحضر مصلحة الأسرة، واستقرار العلاقات الزوجية، وديمومة السكينة والمحبة بين جميع مكوناتها".

أيضا، أن "هذه الإحالة الملكية تبرز أهمية فتح باب الاجتهاد في القضايا المستجدة المرتبطة بأحوال الأسرة المغربية، وفق مقاصد الشريعة الغراء، وفضائل الاعتدال والاجتهاد، عن طريق الفهم المتجدد لضوابطها ومقاصدها، بشكل يقدم حلولا راهنة لإشكالات معاصرة، تراعي الواقع والتوقع، وتبحث في أسبابه ونوازله".

أخيرا، أعتقد أن أهم ما يمكن استخلاصه من مسار تعديلات مدونة الأسرة، أن الملك محمد السادس، أسس اليوم لدرس جديد من دروس الفصل في التشريع، قوته تُستمد من قيمة الوثيقة المدنية التي يتم التشاور بشأن صيغتها النهائية. شقها المدني يبدو أنه حسم، أما شقها الديني فقد أحيل على طلب الفتوى الجماعية.

ودون مركب نقص، يجب الاعتراف بأن القصر مرة أخرى، هو من يملك جرأة التأسيس للفصل بين السلط، ليس لأنه يود احتكارها، بل لأن من يجب أن يقوموا بهذا الدور منشغلون منذ عقود وإلى اليوم، بغنائم الجمع بين السلط وسلط أخرى.