الحقيقة موجعة، لكنها ضرورة للخروج من المأزق... والتركيز على جزء منها قد يتحول لتضليل، مهما كان اللون الذي يُصبغ به.
مناسبة هذا الكلام سياق النقاش الذي يدور في مواقع التواصل الاجتماعي، حول آخر تقرير صادر عن "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي"، ويتناول تنقيط الدول تجاه التنمية البشرية الموجهة لشعوبها.
أولا؛ وجب التأكيد على أن السجال حول ترتيب المغرب في التقرير، وهو الذي احتل الرتبة 120 خلف ثلاث دول من المنطقة المغاربية؛ وهي تواليا: الجزائر، وتونس، ثم ليبيا، يبقى نقاشا صحيا وضروريا يخرج بعض المغاربة من تحت مقصلة إعدام النقاش العمومي حول ما يهم مصائرهم.
في المقابل، يظهر أن منطلقات النقاش وردود الفعل تجاه التقرير في ما يهم المغرب اختارت الزاوية الخاطئة والضيقة، حين وقعت في فخ المقارنات، ووضع دول المنطقة فوق ميزان واحد، بكفة ليست موحدة من حيث تناسب كتلتها.
من أراد إظهار أنه "لا تنمية بشرية في المغرب لجأ إلى أرقام جيرانه" مفصولة عن كل الملاحظات التي أدرجت في التقرير؛ ومن بين أهمها، حسب ما جاء في تمهيده، أن "الأرقام الواردة في الجزء التحليلي من التقرير حيث ما ذكرت، هي تقديرات لمكتب تقرير التنمية البشرية، أو لمساهمين آخرين، وليست بالضرورة إحصاءات رسمية للبلد، أو المنطقة، أو الإقليم المعني، الذي يمكن أن يعتمد طرقا بديلة".
ويتابع التمهيد: "جميع الأرقام الواردة في الملحق الإحصائي مستمدة من مصادر رسمية. اتخذ مكتب تقرير التنمية البشرية جميع الاحتياطات المعقولة للتحقق من المعلومات الواردة في هذه المطبوعة. لكن المادة المنشورة توزع دون أي نوع من الضمانات، سواء صراحةً، أو ضمناً".
كما انتصر من اختار زاوية المقارنات مع الجوار لشعار جعل التقرير جبهة من "جبهات المواجهة"، ضد من يرتكز التقرير، بالأساس، على ما يصدر عنهم من معطيات وتصريحات رسمية تبقى درجات التحقق من صدقيتها، في عدد من الدول، بدون ضمانات، حتى من طرف المؤسسة الأممية التي تُصدر التقرير السنوي.
الفئة الثانية سلكت نفس النهج، وإن في الاتجاه المعاكس، من خلال تحقير مضمون التقرير، والسخرية من وضع المغرب في مؤشرات التنمية البشرية وتنزيلها خلف كل من الجزائر، التي تعيش على وقع طوابير الحصول على لقمة العيش، وتونس التي تقاوم إفلاس الدولة، وليبيا التي يلعلع الرصاص، إلى اليوم، فوق أرضها ورؤوس شعبها وبين جدران "اللا-دولة".
كل هذا دون أن تنتبه هذه الفئة الثانية إلى أن التقرير يعتمد، بالأساس، في حساب دليل التنمية، على ثلاثة أبعاء أساسية؛ وهو حسب التقرير ذاته، "دليل مركب يقيس متوسط الإنجازات في ثلاثة أبعاد أساسية للتنمية البشرية؛ هي: الحياة المديدة والصحية، والمعرفة، والمستوى المعيشي اللائق".
أي أن الدليل هو "باكيدج" لا يمكن فصل بعد من أبعاده الثلاثة عن الآخر، مهما كانت الأوضاع السياسية والأمنية فوق التراب؛ حيث يتم القياس وتحليل الأرقام المتحصلة والمتصلة بكل بُعدٍ. وعلى سبيل الذكر لا الحصر هنا، يمكن الإشارة إلى أن مؤشرات جودة التعليم في فلسطين والأراضي المحتلة أفضل من مؤشرات دول تنعم بالسلم والأمن والأمان.
كل ما سبق لا يجب معه القفز على عامل رئيسي يضاف للأبعاد الأساسية؛ وهو تعداد الساكنة مقارنة مع نصيب كل فرد منها، من الصحة والتعليم والثروة.
مع التأكيد على أن التقرير لا يأخذ، صراحة، بما هو ظاهر من مظاهر التحضر والعمران والبنى التحتية... وكل ما يمكن أن يدخل في خانة يسمح السياق بتلخيصها في الوصف الدارجي المغربي بـ"الفيترنا تاع الدولة"، وإن كانت الأواني التي توضع خلف زجاجها ليست للعرض فقط، بل مشتركة يستفيد منها أبناء الدار الواحدة، بالتساوي.
ومن أجل المزيد من الفهم، وجب العودة إلى أصل الحكاية، في كل ما يتعلق بسباق المسافات الطويلة الذي تتنافس الدول فوق مضماره للخروج من المأزق؛ وهي: "أهداف التنمية المستدامة 2030.. السبعة عشر هدفا لإنقاذ العالم".
خاصة منها الهدف الأول، الذي يطمح للقضاء على الفقر، والهدف الثالث الذي يصبو لاستفادة الجميع من الصحة الجيدة والرفاه، ثم الهدف الرابع الذي يحث على ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع، وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة للجميع، وأخيرا الهدف الثامن الذي ينشد العمل اللائق والنمو الاقتصادي.
والأكيد، أنه باعتراف المؤسسات الرسمية للدولة، من أعلى سلطة فيها؛ وهي الملكية، وصولا إلى الحلقات الأصغر، لا يزال المغاربة يعانون من الفقر الظاهر منه والمقنع، ولا يزالون يقاتلون للاستفادة من رعاية صحية جيدة ورفاه ينخرهما زحف الاستثمار بجشع في القطاع، وأن السواد الأعظم منهم فقد ثقته في التعليم العمومي، ونسبة كبيرة تجد صعوبة في الحصول على فرصة عمل، إن وجدت، تكون، في الغالب، غير لائقة، وتحت رحمة سطوة رأس المال، بأبشع تجلياته.
بخصوص التعليم، يمكن فقط هنا ذكر الأرقام الرسمية حول الهدر المدرسي، وبلسان الحكومة، في التقرير المالي والاقتصادي لمشروع قانون مالية 2024، فإن عدد المنقطعين عن الدراسة، في الموسم الدراسي 2021-2022، بالسلك الابتدائي، بلغ 76.233 تلميذا، و183.893 بالسلك الإعدادي الثانوي، و74.538 بالسلك الثانوي التأهيلي، مع الإشارة إلى أنه تم تسجيل النسبة الأعلى بالسلك الإعدادي بنسبة 55 في المائة.
نفس الأرقام أكدها وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، شكيب بنموسى، شهر يونيو من العام الماضي، حين صرح أن "الهدر المدرسي في الأسلاك التعليمية الثلاثة يصل إلى 5.3 في المائة؛ وهو ما يعني حوالي 331 ألف تلميذ وتلميذة ينقطعون، سنويا، عن الدراسة، بالوسطين القروي والحضري، على حد سواء".
أما في ما يخص التعليم العالي، سبق وأقر رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، خلال جلسة شهرية سابقة خصصت لطرح أسئلة شفوية حول: "حصيلة تنزيل إصلاح التعليم العالي"، أن "المؤسسات الجامعية ما زالت تحيط بها العديد من مظاهر المحدودية المرتبطة بالموارد المالية، ونقص الموارد البشرية، إضافة إلى التحديات الإستراتيجية والتنظيمية؛ كالهدر الجامعي".
وقال حينها، في معرض أجوبته عن أسئلة البرلمانيين، إن "الجامعة المغربية تعاني من تدني جودة البحث العلمي، سواء من حيث الميزانية المخصصة له، التي لا تتعدى 1.6 في المائة من الميزانية العامة، أو من حيث عدد الباحثين الذي لا يتعدى 1708 باحثين لكل مليون نسمة، بالإضافة إلى مستوى التأطير البيداغوجي، بمعدل أستاذ واحد لكل 120 طالبا، في كليات الاستقطاب المفتوح؛ أي أقل من المعدل العالمي".
أما فيما يخص الرعاية الصحية بالمغرب، فإن الحديث عن أعطابها، بالاستناد إلى التقارير الرسمية، لن يكفي مداد الافتراضي، الذي لا ينضب، لذكرها وحصرها، مع التنبيه إلى أن مشروع تعميم التغطية الصحية يواجه أعطابا يؤجل تفجيرها، من منطلق "ما تطرطقش ليا غير بين يدي وتجي فين ما بغات"... والتنبيه أيضا إلى أنها تحولت من غاية اجتماعية إلى مطمع عند المستثمرين الخواص في صحة المغاربة.
وبالانتقال إلى الهدف الأول من "أهداف التنمية المستدامة 2030"، الذي يطمح إلى القضاء على الجوع، والهدف الثامن الذي ينشد العمل اللائق والنمو الاقتصادي، وهما هدفان مترابطان، يكفي الاطلاع على تقارير بنك المغرب والمندوبية السامية للتخطيط والمجلس الأعلى للحسابات، للوقوف على حجم التفوتات الاجتماعية والاقتصادية التي تزيد هوتها بالمغرب.
مع العودة إلى كلام رئيس الحكومة، العام الماضي، تحت قبة البرلمان، حين قال إن "نسبة الطلبة الذين يغادرون الجامعة، دون الحصول على دبلوم، زادت عن 49 في المائة، في السنوات الماضية"، لافتا إلى "ارتفاع البطالة في صفوف طلبة كليات الاستقطاب المفتوح؛ حيث وصلت إلى 18.7 في المائة، و8.5 في كليات الاستقطاب المغلق". نسب حين تترجم إلى أرقام، فإنها تفزع.
ما يهم من كل ما سبق، أن جزء كبيرا من الدولة لا يكذب... ولكن جزء كبير أيضا من الذين يتحملون المسؤولية داخلها لا يعملون لتغيير الواقع، الذي لا يطال الكذب أرقامه ومؤشراته ونتائج تنزيل سياسته وبرامجه، إن تم تنزيلها كما يجب أصلا، ووضعت إدارتها وتدبيرها وميزانياته بعيدا عن من يبقي الدولة داخل دوامة إكراه الاعتراف باختلالات التنمية!
وما يهم أكثر هو إنقاذ مفهوم التنمية البشرية عند المغاربة، بعدما تم تشويهه وربطه بتوزيع "التريبورتورات" وضخ الأموال في أرصدة من حملوا شعارها، بأسماء جمعيات وشبكات حققت "التنمية" لذاواتهم على حساب من وجهت إليهم ولأجلهم.
وما يهم أكثر القطع مع أعطاب التنمية ومحاسبة من تسببوا فيها وهم مستمرون في تكرار الجُرم، دون إعادة تمثيل جرائمهم أمام ضحاياهم.
تقرير التنمية البشرية الصادر عن "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" ليس سوى "مرآة لا تقلب الحقيقة... لكنها تعكس المعنى الأصلي".
والأصل دون قلب الحقيقة هو دفع الدولة لضبط السرعة فوق مدمار السباق نحو 2030؛ بحيث تنتقل من موقع الاعتراف بالاختلالات إلى موقع العمل على إصلاحها.
هنا يكمن الفرق في الاستفادة مما تعكسه المرآة ولا تقلب حقيقته... يجب أن توجع، دون أن تتحول لشظايا تشوه انعكاساتها وتُقلب حقيقتها.