حين تعيد قراءة بلاغ الخارجية الجزائرية، أكثر من مرة، تخرج بخلاصة واحدة؛ وهي أنه "نص موجه للاستهلاك الداخلي أكثر منه للتسويق الخارجي".
الغرض منه ترسيخ كذبة أن المملكة المغربية عدو للجزائر وشعبها. مقطع من مقاطع أسطوانة رسمية مشروخة تعزف بألحان "الحقيقة الغائبة"، أو لنقل المغيبة عن الجزائريين.
لأن من خط البلاغ يعلم، بيقين، قبل غيره، أن كل المعطيات والوقائع، التي سبقت صياغته ونشره، تدحض رواية السلطات الحاكمة في الجزائر، حين ألفت قصة من وحي الخيال، عنوانها: "مصادرة مقرات تمثيلياتها الدبلوماسية بالمغرب".
لأجل كل هذا، وبنقاش هادئ، ودون شحن، من حق الشعب الجزائري أن يسمع الحقيقة كاملة؛ لأنه أولا وأخيرا، يبقى هو المعني بقراءة أصل الحكاية وتفاصيلها.
في البداية، يتحدث بلاغ وزارة الخارجية الجزائرية عما وصفه بـ"تفعيل مسطرة نزع الملكية لعقارات تعود ملكيتها للدولة الجزائرية في الرباط". ووصفت هذا "الإجراء" بأنه "استفزازي" و"عدائي".
حين يقرأ المواطن الجزائري ما جاء في بلاغ وزارة خارجيته، سوف يفهم منه أن "كل مباني التمثيلية الدبلومسية في المغرب مستباحة اليوم". وهنا مكمن الخطر في التحول الذي يطرأ على أساليب زرع بذور العداوة.
ويعلم الملتحقون الجدد بسنة أولى دراسات سياسية ودبلوماسية ودولية أن المقرات الدبلوماسية لا تستباح، حتى في حالات الحرب.
إذن، هل "استباح" المغرب لنفسه كل مقرات الجزائر الدبلومسية فوق تراب المملكة؟
الجواب: لا.
ما هي الحقيقة إذن؟
الحقيقة أن مباني السفارة وإقامة سفارة الجزائر السابقة بالرباط غير معنية بأي إجراء.
بل إن السفارة ومقر إقامة السفارة الجزائرية السابقة في الرباط، واللذين منحت السلطات المغربية، مجانا، البقعة الأرضية لإقامتهما، لم يكونا موضوع أي "مصادرة".
بل أكثر من ذلك، وحسب ما هو متوفر من معطيات موثوقة، تحظى البنايات الدبلوماسية الجزائرية في المغرب بالاحترام والحماية من قبل الدولة المغربية.
دون إسقاط عامل مهم ومحدد في مبادئ التعامل بالمثل، الذي تتقنه السلطات الجزائرية، بشكل جيد، مع كافة دول العالم، باستثناء المغرب؛ وهو أن "الاحترام والحماية" مستمران، حتى في ظل غياب الامتيازات والحصانات، عقب قطع العلاقات الدبلوماسية، بشكل أحادي الجانب، من طرف الجزائر.
وللمزيد من التوضيح، بخصوص عدم صحة "صيغة الجمع وعبارة المصادرة"، فإن مبنى واحد فقط شكل موضوع محادثات مع السلطات الجزائرية. ويتعلق الأمر بمبنى غير مستخدم، وهو مجاور، بشكل مباشر، لمقر وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج.
عبارة أخرى وردت في بلاغ وزارة الخارجية الجزائرية تتحدث عن "مشروع"؛ أي وكأننا أمام حدث طارئ وقع ساعات، أو لنقل أيام وأسابيع فقط. وتم إطلاع السلطات في الجارة الشرقية به، على عجل، ويجب أن تقبل بالأمر الواقع. والحال ليس كذلك إطلاقا.
وجاء حرفيا في البلاغ: "مرحلة تصعيدية جديدة في سلوكاتها الاستفزازية والعدائية تجاه الجزائر، على شاكلة ما تم تسجيله، مؤخرا، من مشروع، بهدف مصادرة لمقرات تابعة لسفارة الجزائر بدولة المغرب".
المؤكد أنه ليس "مشروعا تم تسجيله حديثا"؛ لأن السلطات الجزائرية، ومنذ أكثر من عامين، كانت على اطلاع، وفق ما تنص عليه القوانين، بتفاصيل المشروع، بل ومنخرطة، بشكل وثيق ومسبق في جميع مراحله.
كما أن الدولة المغربية تتوفر على مراسلات رسمية بهذا الخصوص؛ أولها مراسلة صادرة، شهر يناير من العام 2022، أبلغت من خلالها وزارة الشؤون الخارجية المغربية السلطات الجزائرية بقرار نزع ملكية مبنى واحد، وليس مبانٍ.
مراسلة أعقبها استقبال القنصل العام للجزائر بالدار البيضاء بالوزارة في الرباط، حول هذا الموضوع، ما لا يقل عن 4 مرات. كما تم بعث 8 مراسلات رسمية إلى السلطات الجزائرية، التي ردت بما لا يقل عن 5 مراسلات رسمية.
إذن، هل تستقيم أوصاف "التصعيد والاستفزاز، وأن الأمر يتعلق بمشروع حديث"، أمام سبق؟
هل أسقط من صاغوا البلاغ من ذاكرتهم أن السلطات الجزائرية تجاوبت، في مراسلتين لها، مع العرض المغربي، للحصول على المبنى، بشكل ودي.
وأجاب الجانب المغربي بمراسلة رسمية، بعدما طرح على السلطات الجزائرية أن "تقييما للممتلكات في طور الإنجاز، وأنه سيتم الكشف عن خلاصاته، بمجرد الانتهاء. مع الإشارة إلى أن إخلاء المباني ونقل محتوياتها سيتم في احترام للأعراف الدبلوماسية، بمجرد تفعيل عملية البيع، على النحو الواجب".
هل يعرف الجزائريون أن سلطات بلادهم سبق لها ونزعت ملكية مقر إقامة سفير البعثة المغربية، من أجل المنفعة العامة، بالمنطقة التي توجد بالقرب من مقر "قصر الشعب"؟
دون أن تعتبر المملكة أن هذا الإجراء يدخل في خانة ما يصر حكام الجزائر على تسويق أنه "تصعيد وصراع واستفزاز واستهداف".
وزارة الخارجية الجزائرية ختمت بلاغها بالقول إنها "ستلجأ للأمم المتحدة ضد المغرب، لتعطيل مسطرة قانونية".
ونذكر أنها مسطرة سلطات الجزائر على اطلاع عليها، منذ أزيد من عامين، وتؤكد المراسلات والاجتماعات مع قنصلها انخراطها فيها، ومتابعتها لكافة تفاصيلها ومراحل تنزيلها.
ولأن السلطات في الجزائر "مقتعنة"، هكذا فجأة، بأن هذا الإجراء "استفزاز واستهداف"، أمامها فرصة لا تعوض ليكون ملف مرافعتها داخل أروقة الأمم المتحدة قويا وصلبا، ويحشد دعما أوسع لمطمع إحراجها للمغرب أمام المجتمع الدولي.
بشرط أن تستطيع إقناع سويسرا التي تحتضن مدينتها جنيف مقر "UN"، وهي بدورها دولة معنية بنزع ملكية عقارها الدبلوماسي بالرباط.
وليكون ملف ترافعها ببعد "إفريقي صلب"، مطالبة، أيضا، بإقناع كوت ديفوار للالتحاق بركب روايتها، فهي معنية، أيضا، بمشروع التوسعة.
بل يمكن للسلطات الجزائرية أن تطلب من وزارة الشؤون الخارجية المغربية لائحة بجنسيات كل المباني الدبلوماسية التي يشملها قرار نزع الملكية، في إطار مشروع توسيع بنايتها، قصد توسيع قاعدة الجمهور الذي سيتفرج على جعجعة دوران طاحونة حجرية بلا "إسمنت دبلوماسي".