أحمد مدياني: حكاية عزيز الذي يحلم لو كانت المدرسة "بومبا تاع المازوط"

أحمد مدياني

نهض عزيز من فراشه وهو يلعن خروجه من تحت دفئه الساعة السادسة صباحا، ويلعن أيضا، استمرار فرض ساعة إضافية على نمط حياة المغاربة من أمثاله.

عزيز مستخدم لدى إحدى محطات المحروقات. راتبه لا يسعفه لكي يضمن لطفلته البكر وطفله الصغير ولوج إحدى مدارس التعليم الخصوصي. أما ابنه الثالث لا فرصة عنده لولوج التعليم الأولي العمومي مجانا حيث يقطن، كما هو حال أخته وأخيه مع وقف التنفيذ.

لا يتذكر عزيز أسماء طفلته وابنيه كثيرا، لأنه لا يراهما حين يخرج للعمل، وحين يعود يجد زوجته قاتلت لينام الجميع قبل طرقه للباب... تعرف جيدا أنها ليست من "آل المن والسلوى".

اليوم الخميس، وعزيز قبل نومه وصلته رسالة عبر تطبيق "واتساب" تخبره أن زملاءه في العمل قرروا وقررن الدخول في إضراب ليوم واحد.

توقف عن العمل لمدة قصيرة، من أجل تحسين ظروف عملهم والرفع من أجورهم، ومساءلة مسؤولي الشركة التي تراكم الثروة من عرق جبينهم، والكثير من هدايا السوق الذي تتحكم في مؤشرات أسعاره.

إضراب لمحاولة الرفع من نصيبهم أو الفتات الذي يصل حساباتهم البنكية، بعد اقتطاع الضرائب وما يؤدونه من مساهمات لصناديق، يُقال إنها تضمن له ولزملائه حماية اجتماعية في حدها الأدنى للكرامة.

كان يؤمن بتلك الحماية التي يُقتطع كل شهر قسطا من راتبه لأجلها، وهو مطمئن، قبل أن يحمل على عجل لأول مرة، زوجته الدريسية لوضع طفلته البكر، وبعد ما وقع، كَفر بكل الشعارات ولم يعد يصدق الوصلات الإشهارية التي تبثها القنوات الرسمية.

قبل مغادرته لمنزله، بحثا عن وسيلة نقل بأقل سعر ممكن، توصله إلى حيث يعمل، خاطبته زوجته الدريسية: "خلي وراك شي 50 درهم فوق الطبلة..."

 عزيز: "خمسين درهم بزاف...!"

ردتها عليه بالقول: "كيلو بطاطا كيلو مطيشة فخض ديال الدجاج وقبطة تاع الربيع... وراه غادي يبقاو يتسالوك..."

وأضافت: "وراه غادي نخلي البنت والولد ناعسين... باقي القرايا ما بداتش... شهر حداش سلا... وما قراو حتى حرف..."

هنا تذكر عزيز أن طفلته وطفله يتركهما خلفه للبقاء في البيت ما استطاعت الأم إلى ذلك سبيلا. وإن لم تستطع، هو مؤمن كما غيره من الذين يحملون نفس اسمه الشخصي أن "الزنقة حتى هي ممكن تربي فحال حكومة بلاده وخاصة رئيسها".

قبل أن يركب عزيز "الطوبيس". رن هاتفه:

"ألو راه ما بقاش الإضراب اليوم..."

ظن الرجل أن كل المطالب تحققت بسرعة. تساءل في جوفه: "أواه قررنا نديرو الإضراب غير البارح... ليوم واحد... وبزربة الشركة غادي تحقق لينا مطالبنا..."

سأل زميله "النقابي" الذي اتصل به: "واش صافي المطالب تاعنا تحققت..."

أجابه: "لا بلاتي... راه الباطرون الكبير فاق مع الربعة الصباح... وتاصل بينا... وجمعنا... ووعدنا أنه كلشي غادي يتقاد... وراه صرف لينا شي براكة أفونص قبل راس الشهر... شفت النقابة شحال مزيانة... تشد بعدا باش تصرف قبل ما يسالي الشهر... راه شهر حداش طويل ياك..."

عزيز لا يعرف أنه من بين زملائه في العمل من يعرفون مسبقا بخطوة عقد "الباطرون" لاجتماع ما قبل ساعة الفجر... لكنهم كانوا منخرطين بدورهم في التعبئة للإضراب القصير الأمد عن العمل... ما طمأن "الباطرون" عند عزيز... أنه يسهل التحكم في نطاق الإضراب وتطوراته حين يكون في نطاق الملك الخاص ولا يمكن ضبطه خارجه...

صمت عزيز... تذكر أنه اليوم 23 في الشهر... يعرف جيدا أنه مبزز عليه "الباطرون" أداء أجورهم يوم 5 أو 6 ولا حتى 10 من الشهر... تذكر أنه ترك خلفه 50 درهما قوت نصف يوم فقط... كما تذكر أن اليوم الخميس... نعم الخميس...

صعد عزيز "الطوبيس" وسط ضجيج خافت يصدر بخجل من بين الكراسي على قلتها... الكل مشغول دون إنخراط في ما يشغلهم بمصير الابن والابنة والحفيدة والحفيد بلا تمدرس لأسابيع...

تعبت الجدة من مهمة تعويض هدر الزمن المدرسي... واشتكت الخالة من فرط حركة الجيل الصاعد... ولم تعد تقوى العمة على تلبية طلب ضرورة توفر "Wi-Fi" لضبط سرعات بنات وأبناء الأخ...

حتى الذين يحترفون "بزز منهم" حرفة حراسة "رأس الدرب"... أصبحوا بدورهم يشتكون...

يشتكون من مزاحمتهم بضجيج من يجب أن يحتويهم التمدرس و"تحصيل العلم"...

تمنى عزيز في لحظة ضجيج يجتاح جمجمته أن يصل مساء الخميس سريعا... أن يعود لمنزله دون أن يسأل ابنته وابنه عن أين ضاعت ساعات عمرهما... يرغب في أن يقتل النوم كل شيء وأي شيء...

تذكر في غفلة من الجميع أن اليوم الخميس... كما تذكر أنه في هذا اليوم "تُعلن القرارات الكبرى"... وصل مقر عمله...

قبل أن يصل قرأ متأخرا أن الشركة التي يعمل عندها لن تعاقب كما يجب بتهمة الاتفاق على تحديد سعر المحروقات... ابتسم ابتسامة المستسلم لقدره... يعرف أنه سيكون هو وغيره الضحية الأولى والأخيرة لأي قرار ضدها... من يُمسك بشريان ضخ دماء محاولات العيش له ولأسرته بكل بؤسها... يعتبره رقما من أرقام المضاربات في بورصة وهم توفير فرص الشغل...

عاد عزيز ليتذكر الخميس... يومٌ يمكن أن يكون غير ما مر من الأيام لأجل طفلته وطفله... استلف الراديو من زميل له اعتاد ضبطه على ما يحمل أخبار كرة القدم لا غير...

انتظر ما بعد منتصف اليوم... وضبط من جهته الموجة على من يحمل الأخبار الرسمية قبل الجميع...

وحين جاء وقت إعلان جديد ما ينتظره من أخبار عن مصير تمدرس طفلته وطفله، بعدما حسم "الباطرون" في شركته جديد مصير راتبه ومطالبه دون تغييرها في الصباح الباكر لنفس اليوم...

سمع عزيز صوتا تختلط بحته بهدير الجمال، يقول:

"تقرر تحديد التفاوض على مصير تعليم بناتكم وأبنائكم بداية الأسبوع القادم..."

حاول عزيز وهو يقف قرب إحدى مضخات المحروقات الابتسامة، دون أن يلاحظ زملاؤه في العمل ملامح وجهه... وحاول حساب عدد الساعات ما بين اليوم الخميس ويوم الاثنين القادم... صدم من طولها رغم أنه لا يملك ضمانات إنتهائها بإنهاء الضياع لجيل بأكمله...

لم تكن ابتسامة صراحة... بل سخرية من فكرة خطرت على باله...

رغبة مجنونة طرقت مخيلته في جزء من الثانية، باح بها له ولأجله فقط، كي لا يطرد من مصدر فتات رزق عائلته إن حاول فقط التلميح إليها...

قال مع نفسه:

"تخيل أبا عزيز... دبا كون كانت المدرسة حتى هي بومبا تاع المازوط فحال عندنا... المدارس راه كثار بزاف وبقعهم الأرضية فابور... كون راه الباطرون ما نعسش... باش ما يوقفش عداد جميع الدراهم... ماشي غير يفيق مع الربعة الصباح...؟!"