"يوجد في فضاء الثعبان ما لا يوجد داخل القاعات والقنوات الرسمية".
"فضاء الثعبان" هو الاسم الذي تحمله قاعة فسيحة، بالطابق الأول لمقر الأمم المتحدة بجنيف. تتوسطها موائد من زجاج، حولها كراسٍ بنية، مريحة، لكنها مثل فخ يُسقط من جيوبك الكثير إن لم تنتبه وأنت جالس براحتك فوق جلدها الناعم.
غير بعيد عنها كراسي وموائد بسيطة في مظهرها لكن المؤخرات التي تجلس فوقها ليست كذلك.
قبل يومين، لمحت وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب آسيا والأمم المتحدة اللورد طارق أحمد، جالسا هناك، يتحلق حوله كثيرون، بعدما أنهى كلمته أمام الدورة 55 لمجلس حقوق الإنسان باسم المملكة المتحدة.
وزير الدولة البريطاني وبعد كلمته. جلس بين أحضان "مقام الثعبان". أمامه فنجان قهوة. لم يغادر قاعة الجلسات مباشرة نحو قاعة مقفلة. ولم يقصد مباشرة بعد الإنتهاء منها سيارة فارهة ولا محاطا بالكثير من "الحرس".
يوم الاثنين الفائت. جلستُ بالقرب من وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان. كان رفقة وفده. يلتقون كل من يطلب الحديث معهم. الأكيد أنه هو وغيره يعرفون جيدا أنهم يمكن أن يغرفوا من نهر "الثعبان" أكثر مما يمكن صيده من محيطات الجلسات والندوات الرسمية.
فانسا، فرنسي مسؤول عن مقصف "فضاء الثعبان"، سألته عن قيمة ما يدير داخله بيع المشروبات والمأكولات، بعدما جمعتنا أحاديث جانبية كثيرة.
كان جوابه: "يوم الاثنين (26 فبراير المنصرم) خلال افتتاح جلسة مجلس حقوق الإنسان، ركزت جيدا مع من قدمنا لهم خدماتنا. العشرات منهم يحملون صفة قادة الدول ومنهم الوزراء والمسؤولين والأمميين. هؤلاء زبناء فوق العادة، لكنهم أوفياء لهذا الفضاء".
يقول فانسا: "هنا يمكن أن تحصل على دكتورة الدولة في العلاقات الدولية والدبلوماسية والعلوم السياسة وعلم الاجتماع... يمكن أن تفهم توجهات وقرارات وثقافات الدول... تفهم إلى حد كبير كل الشعوب ومن يحكمها بدون مقدمات بيروقراطية... قدم لهم القهوة بلطف وسوف يتحدثون معك بعفوية... سوف تفهم الكثير".
بفنجان قهوة ووضع علم بلادك فوق الطاولة حيث تجلس. يمكن أن تستقطب من تؤثر فيهم لأجل وطنك... أطروحتك... تقريرك... وحتى قناعاتك تجاه ما يحرك ويحسم في مداخلة منظمة يمكن أن تَصرف الملايير على انتزاع كلمة منها أو موقف.
الملاحظ. هو أن كل البلدان التي أصيبت كرها ب"لعنة فرنسا" تاريخيا. يغيب حضورها هنا عند وسط وأطراف "الثعبان". بالإضافة إلى المسؤولين العرب ومن يحملون كُرها الإنتماء، بحكم النطق باللغة.
اشتغلت بمقر الأمم المتحدة بجنيف من قبل، وأنا الآن بين جدرانه. تحضر كل الأعلام بتواضع لحصد الغنائم الدبلوماسية، فوق الموائد الزجاجية، وتغيب تلك التي تتوهم أن "الهامش لا تأثير له". رغم أنه ليس هامشا أصلا. بل هو المحور.
"مدياني أشنو كتخربق"... "العلاقات والمكاسب بين الدول تُنسج بعيدا عما تحاول إقناعنا بأنه مهم!"
وزيرة خارجية جنوب إفريقيا ناليدي باندور، عبأت وأنجحت نشاطا لدولتها استهدفت من خلاله المغرب، من "فضاء الثعبان". كانت بثقل جسدها، ومنذ يوم الاثنين الماضي، مقيمة دائمة فيه، ويتحرك من يرافقها بين موائده دون كلل ولا ملل.
أعداء الوحدة الترابية للمملكة المغربية، رفقة ثلاثة، مكلفين بمهمة، من النرويج، إمرأة وشابين، عبؤوا لحضور ندواتهم وأنشطتهم من هنا. "فضاء الثعبان".
وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي، بدوره، وأمام الحصار والتعتيم الإعلامي الدولي على تواجده بدورة مجلس حقوق الإنسان، عبأ الصحافيين والمشاركين في دورة المجلس، لندوته الصحفية يوم الأربعاء 28 فبراير، من "الثعبان".
حالات كثيرة لا حصر لها. ذكرت من بينها ما يهمنا فقط.
هذا الفضاء يسقط عليه الحديث القائل "لا يلدغ المؤمن من الجحر مرتين" لمن يعرف قيمته. وإن أخذت الحديث على محمل الجد والحاجة، فإنك إذا لم تقتنع بقوة "جحر الثعبان الأممي" سوق تلدغ منه إن لم تكن مؤمنا بقوته وتأثيره، أكثر من مرة.
"فضاء الثعبان" فيه ومنه يمكن أن تصاغ التقارير. ويمكن أن تُنسف أخرى. ما نقلته هنا ليس سوى قطرة من سيل جارف لا يرحم.
اعتلاء المنصات مهم ليكون القرب من القرار في لحظات حاسمة قيمة مضافة، لكنها تبقى محددة بالزمان، أما المكان، فهو يوفر ما يمكن من عمق "هامشه" ضمان استمرارية الحضور دون ترفع.
يمكن دخول "جحر الثعبان" وهو متاح، وحسم أشياء كثيرة بفنجان قهوة، عوض صرف الملايير لاسترجاء رد الفعل عليها فقط. رغم أن فنجان قهوة اليوم بالعملة السويسرية أصبح يتطلب قيمة تفوق ما سبق، مع ذلك، يبقى الأقل كلفة.