قبل الخوض في وجهات النظر وليس تصريف القرارات من داخل الصندوق أو خارجه، وجبت الإشارة إلى أنه من مهام الدولة الوطنية التي تواجه مخططات تقسيمها، وإن كان التقسيم يتجاوز الجغرافيا، أن تستثمر في الفهم الجماعي، لما يستهدفها، وليس توزيع فتات "الفهم" على قلة قليلة ترى في ما يصلها فرصة، من أجل إعادة اجتراره، ومراكمة الدهون على أطراف ساحات الأمان "Zone de confort".
حين قرر مؤسس وصاحب موقع "ويكيليكس"، جوليان أسانج، الاستثمار في الحصول على غطاء صحفي لنشر الوثائق التي حصل عليها من داخل مؤسسات الأمن العسكري والأمني والقومي والخارجية الأمريكية، توجه نحو كبريات الصحف في بريطانيا وأمريكا، وراهن على لعبة النشر في الأول، وفق مبدأ حماية المصادر وإخفاء الأسماء، قبل إطلاق "تسونامي" ما يتوفر عليه كما هو، دون تفكير من "خارج الصندوق" في ما سوف يترتب عليه الفعل، لأنه يفهم وفهم أن ما يخيف الدبلوماسية التي تبرر كل شيء وأي شي، وفق قواعد محددة تُحرم التفكير من خارج الصندوق.
وللذكر وليس الحصر، وقبل أن تتمكن مخابرات الولايات المتحدة الأمريكية من اختراق فريق أسانج، وتدمير قاعدة بيانات بثه لكل ما يتوفر عليه من معطيات، وضعت موظفة داخل وزارة الخارجية الأمريكية مصيرها مقابل مصير خروج عميل يشتغل لصالحها مباشرة من ليبيا.
"طارق"... ليبي دفع الموظفة الدبلوماسية الأمريكية رفيعة، وهي تحاول إخراجه دون اغتياله، ونجحت في ذلك، باحت وهي تتمحص ما يمكن أن يتسرب من وثائق، وتراجع ما نشر حول الحرب في أفغانستان:
"كنت أراجع الحرف قبل الكلمة... وأتوهم أنه ما أخطه وأنصح به وأقترحه لن يتسرب يوما ما للعموم... تحدث عن رؤساء دول... بتحفظ شديد... لم أكن أعتقد أن كلمة عابرة قد تشكل اليوم هاجس إشعال مناطق واستهداف أشخاص..."
الدرس من كل ما سبق، هو أن الدبلوماسية "لا يجب أن تتحرك أو تفكر أو تجتهد من خارج الصندوق".
وكم من "طارق ليبي" يتوهم أنه "بطل".
لا يهم...
ما يهم، هو من هم خارج المغرب قبل من هم داخله، هو هل فكر المبعوث الأممي، ستافان دي ميستورا، حين حط الرحال بعاصمة جنوب إفريقيا، بريتوريا، أنه سوف يسبق زمانه، ويحقق الاستثناء من خارج ما هو مسطر ومحدد بموجب قراري مجلس الأمن 2703 و2547؟
الأطراف الأربعة المعنية بالجلوس حول المائدة المستديرة لنقاش النزاع المفتعل حول قضية الصحراء؛ هم المغرب صاحب الحق فوق التراب، والجزائر التي تطمح لأن تنعتق من عقدة ماض لا يتحمل المغاربة وزره، وجبهة انفصالية تواصل الاستفادة من إرث استرزاق الغرب من الاستعمرار وتفتيت دول الجنوب والشرق، ودول جارة هي موريتانيا تجد نفسها، بحكم منطق ضمان أمن حدودها، مجبرة، من حين إلى آخر، على ضمان التوازن في المواقف.
غير ذلك، يبقى السفر إلى أقصى جنوب القارة مغامرة لا غير، تشبه المغامرات التي لم يوفق فيها ستافان دي ميستورا في العراق وأفغانستان وجنوب لبنان وصومال والسودان... وغيرهم الكثير...
وكلها مناطق عاشت وتعيش خطر التشتيت والتقسيم وتصاعد نزعات الانفصال.
رُقعٌ مشتعلة، الكلمة الأولى والأخيرة فيها، بعد ما مر منها بمختلف ما حمله من قبعات أممية ودبلوماسية، لتجار السلاح والبشر وتسهيل الاستثمار في الفوضى.
وأمام كل ما سبق، مرة أخرى، يجب استحضار الشفقة على من يتوهم منا نحن المغاربة، أن ستافان دي ميستورا شد الرحال إلى حيث يمارس نادي "صن داونز" الجنوب الإفريقي كرويا، لإقناع العالم بأنه هذا اللاعب محليا يمكن أن يحقق المعجزة دوليا، والأكيد أنه يعرف دون غيره أن المحلي يبقى محليا، والمغرب وإن اختلف المغاربة في ما بينهم حول تدبير شؤونه، يحتكمون إلى الأمة، وليس لحسم ما يحدد مصيره بمنطق نزوات الفرد.
وكذلك كان سيكون الحال لو لم يكن للفرد ومن يدور في فلكه القرار الأول والأخير كرويا، وسوف يأتي ما بعده بالتحليل وليس "النية".
ستافان دي ميستورا، من الممكن أن يكون بدوره، بالتحليل البسيط، استحضر "النية" وهو يطير إلى جنوب إفريقيا، للبحث عن "وهم الضغط" الذي تم به إقناع بعض المغاربة هنا، قبل سفره، أنه سوف يأتي بالفتح في الملف من هناك.
الأكيد، اليوم، أن الدبلوماسية المغربية، وعلى علة قلة تواصلها، تعرف من قبل بجدول أعماله، لكنها لم تتواصل بشأنه، وهذا خطأ يحسب عليها، مثل أخطاء كثيرة. دبلوماسية تنتظر من الصحافة المغربية الحقيقية أن تستمر في بؤس نقل ما هو جاهز فقط، وليس مرافقة ما يمكن تصحيح مسار الوصول إليه، بالانتقاد على طول طريق الوصول، وليس "التطبال" أو النواح، حين تقع الفأس فوق الرأس، أو انفجار "القعدة" تحت الأقدام.
أخيرا... قبل ما هو سياسي واجتماعي وتاريخي وثقافي... محاولة خارج الصندوق عند ستافان دي ميستورا ليست متاحة له... لماذا...؟
لأنه لم يملك من قبل حيث مر... أجوبة عنها ولا يملكها اليوم بالتأكيد...
لأجل ذلك، يُفترض أن يعود إلى داخل الصندوق، وإلا سوف يفقد "طارق"، الذي كان سيحرقه جوليان أسانج، غطاءه الديبلوماسي، ولن تجد بعده لا الولايات المتحدة الأمريكية، ولا روسيا أيضا، ما يمكن أن يدبر به هامش هربه من ليبيا لما يفوق انخراطه "لأجل ما يفوق مستوى الدولة" سياسيا ودبلوماسيا...
وما هو خارج السياسي والدبلوماسي، ورغم كل ما يمكن اعتباره انتكاسة داخل وطن اسمه المغرب، يمكن أن يصل المغاربة من أقصى اليسار الحقيقي إلى أقصاه على اليمين دون استرزاق، لمستويات لا يمكن انتظار نتائجها، لأجل وحدتهم الترابية.
حينها لا يعرف من يدبرون هذا الملف بوهم تقارير مراكز الدراسات، ومن يدورون في فلك الوزراء ومن يرأسهم، أن القناعات لا تُباع ولا تُشترى.
تحول يمكن أن يترجم بعنف فوق أكثر من رقع فوق الكرة الأرضية برمتها، عنف ينبع من الممارسة الديمقراطية التي تضغط حين يتطلب الموقف ذلك، حين يُناضل المغربي والمغربية لأجل الوطن بصدق، من أول جبهة تدافع عن حوزة ترابه، وليس من يَقتات لأجل حفنة منه كما يروج القلة القليلة لذاك.
هي أشياء لا تشترى... ولكن هل الداخل المغربي يرى... وهل الخارج مقتنع كما نحن نرى؟