يوم الاثنين 4 شتنبر، الساعة الثامنة والنصف صباحا، يصطف العشرات من الآباء والأمهات أمام مكتب مساحته صغيرة بمنافع كثيرة، لا تدل حالته على أنه سيحصد طيلة اليوم ما ينتجه عرق جبين المغاربة لأجل ما يجب أن يستفيد منه بناتهم وأبناؤهم مجانا.
يمسك بدفتر شيكاته، كان دوري بعده، تأخر كثيرا، بنبرة غضب يلعن ما يفرض علينا نحن آباء وأمهات أكثر من مليون طفل وطفلة العبودية عند جشع المدارس الخاصة. وقع أربع شيكات، ومع كل توقيع تتهجم ملامحه أكثر، مداد قلم حبره الجاف تضمن لطفله وطفلته مقعدا داخل فضاء تهيأ كل شروط فشل التعليم العمومي ليكون هو البديل عن سبق اكراه بعد الترصد.
غير بعيد عن المدرسة الخصوصية حيث يتم إفراغ الجيوب والحسابات البنكية، وقفت سيدة محجبة داخل مكتبة يظهر أنها ترددت كثيرا قبل أن تؤدي اجمالي ملء "حقيبة حمل أثقال طفلها". أتذكر المجموع بالضبط، كان 1249 درهما، نظرة خاطفة على المقررات الدراسية يظهر من غلافها أن الطفل في السنة الأولى إبتدائي، دون خجل وأمام الجميع، لأن الحاجة هنا تقتل الخجل، طلبت من صاحب المكتبة تخفيض السعر قليلا بالقول: "سي (ق) دير ليا شوية الروميز، راه والله ما عندي".
أجابها: "راه الروميز دايز ألالة". تنهدت، تفقدت ما هو أمامها من مقررات، اخترات اثنين منهم، ثم طلبت إرجاع واحد من الجزأين.
قررت شراء الجزء الأول والعودة لإقتناء الثاني منتصف السنة الدراسية. طلب رفضه صاحب المكتبة، وأخبرها أنه لا يمكن أن يبيع لها جزء دون الثاني. استسلمت السيدة للأمر الواقع، عادت لسيارتها وجلبت حقيبة يد بيضاء، أخرجت ما قيمته ألف درهم، وأرجعت مقرر "Cahier d'activités" بجزأيه، وأمام كل هذا لم يسأل صاحب المكتبة عن تحصيل ال49 درهما المتبقية، بعدما وضع يديه فوق رأسه ممسكا بالآلة الحاسبة وهو يردد "الله يكون في عونكم وعونا معاكم".
علماء، مهندسون، مثقفون، فنانون، تقنيون، أساتذة... تخرجوا دون الحاجة لصرف أسرهم لهذه الثروة على تعليمهم. كانت الدراسة تقتصر على أربع مقررات ودفاتر على الأكثر. نحن من الدول القلائل التي يحرص فيها "تجار الأزمات" على إطالتها كما هو حاصل في التعليم عندنا. المقررات والدفاتر والواجبات المدرسية التقليدية انقرضت في دول مستويات التعليم عندها تفوق المتوسط حين تقييم نتائجها
قبل هذا المشهد المؤلم، لمن يتقاسم نفس الهم مع ضحايا الدخول المدرسي. صادفت سيدة أخرى بسيطة، كانت مستخدمة لدى محل بيع الخبز والحلويات القريب من حيث أقطن، سبق وسألتها عن أجرتها الشهرية، لا تتجاوز 2700 درهم. سألتها باستغراب بعدما لمحت أنها تمسك بورقة اللوازم الدراسية يعلوها "لوغو" مدرسة من مدارس التعليم الخصوصي بالمنطقة، سألتها باستغراب: "(ن) واش كتقري ولدك في البريفي؟!"
أجابت بعد ما تنهدت: "أش غا ندير أخويا أحمد، راه جاب الله عونتني واحد السيدة كتقدا من عندنا، سجلتو في مدرسة أخرى حنينة في الثمن... راك عارف التوقيت تاع مدرسة ما يمكنش يبقى يخرج ليا وسط النهار، ما عنديش لي قابلو ليا".
هذه حالات أكيد أنها تتشابه مع مئات الآلاف من الحالات الأخرى لأمهات وآباء وأولياء أمور فرض عليهن وعليهم تذوق السم في العسل.
والأكيد أن 90 في المائة من هذه الفئة، لم تقرأ عنوان بنموسى: "هذه السنة مفصلية لتحقيق تحوّل المدرسة العمومية". ولن تصدق شعار: "من أجل مدرسة عمومية ذات جودة للجميع" الذي اختارته الوزارة واجهة للدخول المدرسي.
ما يصدق المغاربة هو ما يعيشونه في الواقع، وتؤكده أرقام التقارير البعيدة عن "زوق باش تبيع". بيع وهم أنه هناك إرادة حقيقية لإصلاح حقيقي يخرج التعليم العمومي غرفة الإنعاش التي طال مكوته فيها، منذ إحداث "اللجنة العليا لإصلاح التعليم" بعد الإستقلال وتحديدا عام 1957، مع رفع شعار: "التعريب، التوحيد، المغربة، التعميم".
شعار نال منه فقراء وبسطاء المغاربة، القسط الأوفر، فيما نالت منه النخبة وبناتها وأبناؤها وجه عملته الأخرى.
ظل التعليم العمومي رهين مخططات كانت ولاتزال حبرا على ورق صرفت وتصرف عليه ملايير الدارهم. وكما يقال عند المغاربة: "مالو طاح... حيت خرج من الخيمة مايل".
لم تعمر "لجنة إصلاح التعليم" أكثر من عام واحد، لتأتي بعدها عام 1958 "اللجنة الملكية لإصلاح التعليم" وتنسخ كل ما جاءت به الأولى، ثم لجنة أخرى عام 1959، ثم مناظرة عن التعليم غيرت سياسته عام 1964 تلته أخرى عام 1970 وثالثة بعد عشر سنوات... كلها محطات تناقضت قراراتها وبرامجها ومخططاتها وسياسياتها في ما جاء فيها، حتى أن وعي التلاميذ في مراحل أولية من حياتهم الدراسية، اختار أن يصفوا ويصفن أنفسهم بأنهم "فئران تجارب". وصف انتقل من جيل إلى آخر في التعليم العمومي عن قناعة.
وفي خضم وشم القناعة بوصف "فئران التجارب" تجاه التعليم العمومي، ومحاولات الخلاص منه عند الأسر المغربية، جاءت توصية البنك الدولي عام 1995 وأقنعت من يقررون في مصائر المغاربة بضرورة التخلي تدريجيا عن مجانية التعليم. وكذلك كان. ليس عبر قرارات مباشرة تفرض مقابلا على التعليم العمومي، بل بتدمير الأخير عبر حقن عروقه بجرعات سم "قطرة... قطرة".
ولم ينفع معه لا "الاستعجالي" ولا "المتأني" في تسويق وهم أنه يمكن فعلا، أن يصلح لصالح من يدفعون الضرائب دون الاستفادة من عائداتها على حياتهم اليومية والمعيشية والتعليمية!
لنعد للسيدة البسيطة، المستخدمة بالمخبزة. لماذا اضطرت لتسجيل طفلها في التعليم الخصوصي؟ بالنسبة لها، لا يمكن أن تضبط ساعات عملها مع مواعيد دخوله وخروجه من المدرسة المتفرقة على طول اليوم. هذه النقطة لوحدها تعتبر باب الجحيم عند مئات الآلاف من الأسر.
لا يمكن لأب وأم فرض عليهما العمل معا لتوفير قوت العيش، أن يتابع أطفالهما الدراسة في التعليم العمومي بتوقيته المعتمد منذ عقود. كما لا توفر المدارس العمومية ما يسد هذه الحاجة. كل ظروف التعليم العمومي تدخل المغاربة لنفق باتجاه واحد دون القدرة على العودة، نحو اكراه اختيار التعليم الخصوصي، مع الإشارة إلى اعتماد الإدارات والمؤسسات الخاصة والعمومية للتوقيت المستمر. قرار اعتمد بدوره منذ عقود دون أن يتغير الحال بالنسبة لاستعمال الزمن المدرسي.
دون إغفال ضعف البنى التحتية للمدارس وافتقادها لمقومات التحصيل الدراسي والعلمي رغم الجهود التي يبدله من يمسكون بجمر تعليم أبناء وبنات المغاربة ويحاولون ويحاولن كسر القاعدة بالاستثناء.
يوم 16 أكتوبر من العام 2014، صرح رئيس الحكومة الأسبق والأمين العام - العائد - لحزب العدالة والتنمية عبد الإله ابن كيران بالقول: "حان الوقت لكي ترفع الدولة يدها عن مجموعة من القطاعات الخدماتية، مثل الصحة والتعليم، فلا يجب أن تشرف على كل شيء، بل ينبغي أن يقتصر دورها على منح يد العون للقطاع الخاص الراغب في الإشراف على هذه الخدمات".
ما جاء به ابن كيران ليست قناعته وحده، بل نمط تفكير يشاركه فيه كثيرون يمسكون بالقرار داخل الدولة وفروع تدبير وسيير وإدارة قطاعاتها المركزية واللامركزية.
عند هؤلاء التعليم ليس حقا، بل استثمار، وعند آخرين ينتمون إلى طائفتهم وسيلة من وسائل الصراع الطبقي وأداة من أدوات التحكم في تأمين حاضرهم ومستقبلهم بعدم إنتاج ما يضر بشعار: "مصلحتنا أولا والباق إلى الجحيم".
إذا ما قلبنا في ملفات الأصول التجارية لمدارس التعليم الخصوصي في المغرب، سنجد آلاف المسؤولين إما يملكونها أو مساهمين في رؤس مالها أو يستثمرون فيها من وراء ستار.
هم، هنا، يضربون عشرات العصافير بحجر واحد وليس عصفورين فقط. لا تزعجهم تقارير الأمم المتحدة و"اليونسكو" والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرهم من المؤسسات الدولية، بخصوص وضعية التعليم في المغرب خاصة العمومي.
لماذا؟! لأن كل مؤشر سلبي في سلم ترتيب التعليم بالمغرب يساوي عندهم رقما إضافيا إيجابيا في حساباتهم البنكية، وأرقام بالملايين "إيجابية" في حربهم على بقاء مستوى تعليم المغاربة كما هو، ولما لا يتقهقر أكثر. "كلشي رباح عندهم".
شهر غشت من العام الجاري، أصدرت "المجموعة الموضوعاتية المكلفة بالتحضير للجلسة السنوية الخاصة بمناقشة السياسات العمومية وتقييمها"، تقريرا يفصل في حجم الفجوة ما بين التعليم العمومي والخصوصي، تقارير لا تترجم أهدافها على أرض الواقع، وتبقى مجرد آلة دعائية لا غير لصالح مدارس "شي gاوري ميت" (عبارة يستعملها المغاربة بتهكم، لوصف المدارس الخصوصية التي تزين واجهاتها بأسماء أجناب رحلوا).
مع ذلك، يجب ذكر أبرز ما جاء في التقرير، وهو أن "تفوق تلامذة التعليم الخاص على تلامذة التعليم العمومي بلغ في المتوسط 30 نقطة في السنة السادسة من التعليم الابتدائي، و60 نقطة في السنة الثالثة من التعليم الإعدادي".
وفي ما يخص تعلم اللغة الأجنبية الأولى في المغرب، رصد التقرير أن حجم الفجوة بلغ "82 نقطة في اللغة الفرنسية، في ما كان الفارق في المادة نفسها 33 نقطة فقط عام 2016 على مستوى السنة الأولى من التعليم الثانوي التأهيلي". ما يعني أنه خلال 7 سنوات اتسعت الفجوة بين التعليم الخصوصي والعمومي في تعلم اللغة الفرنسية بوقع 49 نقطة.
كل التقارير الدولية التي لا حاجة لذكرها هنا تضع المغرب في رتب متأخرة حين يتعلق الأمر بالتعليم والصحة. ضحايا هذه الرتب المتأخرة مغاربة يؤدون الضرائب مقابل خدمات تلامس الصفر.
ويعانون من قياس الاستثناء على أساس القاعدة. بمجرد أن يصعد اسم تلميذ أو تلميذة في بورصة نقط شهادة البكالوريا من التعليم العمومي، يتم التطبيل له على أساس أنه القاعدة. لكن واقع الأخيرة صراحة هو أن نسبة الهدر المدرسي في التعليم العمومي الثانوي الإعدادي والتأهيلي تقارب 60 في المائة.
وفي المجمل، حسب معطيات رسمية نشرتها وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، شهر ماي من العام الجاري، بلغ عدد المنقطعين عن الدراسة بالمغرب 334 ألف و664 برسم الموسم الدراسي 2022/2021.
كل واحد من هؤلاء هو أو هي ضحية منظومة.
خلاصة كل ما سبق محاولة الجواب عن سؤال رئيسي وأساسي: وسط طاحونة التعليم بالمغرب.. ما فائدة الدولة؟!
الجواب اليقين الظاهر في واقعنا، هو أن المغاربة البسطاء ومتوسطي الدخل منهم، يؤدون ما أمامهم وخلفهم من ضرائب ورسوم حياة، لأجل أن يستفيد المترفون والمتحكمون في مصائرهم ومستقبل بناتهم وأبنائهم، من عائداتها وغنائمها وما تنتجه سياساتهم عن سبق اصرار وترصد لصالح إبقاء وضع التعليم العمومي في المغرب على ما هو عليه حتى إشعار آخر، لا يشبه ما سبقه من شعارات ظلت حبرا على ورق، كلفت الكثير من خزائن الدولة وجيوب من ينتمون إليها دون حقوق مشرعة هي من حق المغاربة دون التجح عليهم بالاستفادة منها!