لن يسعفنا هذا المقام كما قلنا سابقا في عرض فلسفة أرسطو بالتفصيل، بل إن مفهوما واحدا يستدعي منا دراسات ودراسات، لأننا لسنا امام فلسفة عادية وإنما أمام نسق بقضه وقضيضه، لكن وبالرغم من ذلك سنضع الأصبع على أهم المباحث والمفاهيم التي جاء بها الرجل، ولعل من أبرزها مفهوم الميتافيزيقا الذي سيشكل محور مقالنا.
لماذا بالضبط هذا المفهوم دون غيره؟ لسبب بسيط يكمن في كونه أسال مداد جل الفلاسفة الذين أتوا قبل أرسطو، وثانيا للظروف الابستيمولوجية التي رافقت ظهوره. لدرجة أن الميتافيزيقا لبست العديد من المعارف والمباحث ولم تعد تقتصر على ما هو فلسفي فقط.
ومن المعلوم أن هذا المفهوم لم يتم نحثه من طرف أرسطو وإنما من طرف تلامذته وفي ذلك قصة مهمة.
أولا تتكون عبارة ميتافيزيقا من كلمتين وهما ta meta وتعني ما وراء ثم ta fusika وتدل على الطبيعة. يقال أدإن هذا المفهوم تم نحثه في القرن الثالث قبل الميلاد حينما عمل تلامذة أرسطو على تصنيف مخطوطاته وترتيبها، أما المعلم الأول فقد كانت بالنسبة إليه نوعا من الفلسفة الأولى أو الحكمة أو الثيولوجيا.
إلا أن الصدفة لعبت دورها في هذا الباب، لأن المصنفين الأوائل لمخطوطاته وجدوا هذا الكتاب بمثابة تتمة لكتاب الطبيعة أو الفيزياء، فاحتاروا في تصنيفه، إذ ليس من الفيزياء بشيء على غرار المنطق والأخلاق والسياسة. لكننا نجد فيه شيئا من الحكمة الممزوجة بالكوسمولوجيا والثيولوجيا، إضافة إلى أنه يعالج لما مواضيع غير ذات صلة بما ندركه في عالم الطبيعة.
وكنتيجة لهذه الحيرة التي تضاربت حولها قراءات وتفسيرات متعددة، تم في نهاية المطاف تصنيف هذا العمل تصنيفا زمنيا، فإذا جاء بعد كتاب الطبيعة آن لنا أن نسميه ب "ما وراء الطبيعة" أي الميتافيزيقا. علما أنه يعد كتابا عاديا وإنما مبحثا كتبت حوله آلاف الدراسات وما لا يعد وما لا يحصى من المقالات، بل إن الفلسفة في حد ذاتها أضحت ميتافيزيقا ولنا في ذلك شواهد كثيرة، سواء من خلال عناوين بعضها ولا أدل على ذلك كتاب ديكارت: تأملات ميتافيزيقية، وكتاب كانط أسس ميتافيزيقا الأخلاق.. أما الفلاسفة الذين حاولوا التخلص منها فقد سقطوا فيها من حيث لا يدرون، وهم كثر نذكر أهمهم كجون لوك وكانط وهيجل وشوبنهاور ونيتشه وفيتغنشتين وهايدغر.
وعلى المستوى الثالث أضحينا انفسنا أمام تسميات لصيقة بالميتافيزيقا وإن لم تكن تنتمي للفلسفة من قبيل ميتافيزيقا الحرب، وميتافيزيقا التجارب النووية، نفس الأمر يسري على السينما والشعر والطب والمعمار.
يتكون مؤلف الميتافيزيقا لأرسطو من 14 كتابا تم تصنيفها وفق عناوين بالحروف الإغريقية ككتاب ألفا وبيطا وغاما ودلتا.
نجد في بعضها توجيها ونقدا مباشرا للفلاسفة سواء قبل سقراط وهو مدار الكتاب الأول، أو نقد أفلاطون وهو مسار الكتابين الثالث عشر والرابع عشر، نقد شمل أقوالا عدة إلا أنه ركز كثيرا على تصور الفكرة التي جاء بها أفلاطون، معيبا عليه هذا التقسيم بين عالمين رغم أنه في الأصل عالم واحد تشترك فيه الفكرة والمادة.
كما نجد في جزء آخر منها تصورا حول الكوسمولوجيا وترتيب أفلاكها وعوالمها. ثم نعثر في جانب آخر على شرح مستفيض لمفهوم الوجود، أو بلغة أرسطو لمحاولة فهم الوجود من حيث ما هو وجود وما ينجم عن هذا الأمر من فهم وخلط وتمييز، أي العمل على دراسة الوجود ليس من خلال الموجود وهو مبحث تنفرد به الفيزياء، أي أن علم الوجود من حيث ما في الأعيان موضوع الفيزياء، بينما علم الوجود من حيث ما هو مجرد موضوع الميتافيزياء. وهو أمر نجد فيه تفصيلا في الكتاب الثامن أي كتاب إيطا.
وجد أرسطو صعوبة بليغة في وصف الميتافيزيقا، فتارة يعتبرها العلم الأسمى وتارة أخرى يراها أعلى العلوم، وفي مقام آخر يقول عنها أنها العالم الذي يدرس المبادئ والعلل الأولى والتي تعود بعدئذ إلى مفهوم أرسطو العمدة وهو المحرك الذي لا يتحرك.
أما في الكتاب الخامس من الميتافيزيقا، أي كتاب إبسيلون يعتبرها أرسطو بمثابة ثيولوجيا أو علم الإلهيات خاصة وأنها عنت بدراسة المحرك الذي لا يتحرك وفهم تأثيره على الأشياء دون أن يتأثر بها، وذلك باعتبارها السبب الأول لكل شيء دون أن يكون له سببا في وجوده أو تفاعله أو انفعاله.
إن هناك مجموعة من المواضيع التي حاول مؤلف: "الميتافيزيقا" أن يحيط بها، إلا أن تاريخ الفلسفة احتفظ بأبرزها، وهي مواضيع ستصبح بعدئذ مباحثا في حد ذاتها أو مباحثا مستقلة بمواضيعها ومناهجها، على غرار الأنطولوجيا والثيولوجيا وجزء كبير من اللوجيكا أو المنطق بلغتها المعاصرة.
أخيرا نكاد نقول أن فلسفة أرسطو لا يمكن تلخيصها في الميتافيزيقا فقط، وإنما هي فلسفة جامعة مانعة اهتمت بعلوم شتى بل وأسست بعضها وطورت البعض الآخر، صحيح أن هذا المقام لا يسمح لنا بالتدقيق والتفصيل في ما تركه لنا المعلم الأول من إرث لازال يتغنى به تاريخ البشرية لحد الساعة، خاصة وأنه لم يعتبر من عباقرة زمانه فقط، وغنما من عباقرة التاريخ برمته. هي دعوة إذن للمهتمين بهذا المجال إلى التعرف عن كتب على فيلسوف عظيم، لدرجة أن بعض الأبحاث لم تهتم بما كتب وإنما اهتمت فقط بتصنيف ما كتب.
وهذا إن دل على شيء، إنما يدل على قيمته الكبيرة. مرة أخرى أجدد الدعوة للقارئ كي يطلع ولو على جزء صغير من الإرث الكبير الذي تركه المعلم الأول، حينها سيتساءل بانبهار: أما كان لهذا الدماغ أن يرتاح ولو قليلا بسبب كل هذا الذي قال وكل هذا الذي فكر فيه؟ على العموم سيبقى أرسطو لوحده لحظة ومرحلة مفصلية ليس في الفكر الفلسفي فقط، وإنما في تاريخ الإنسانية برمتها.