إذا أردت الدخول لمدينة الدار البيضاء، عليك بتلاوة التعاويذ وقراءة اللطيف وأدعية الصباح والمساء كي تحفظك من كل شر وبليّة، وإن كنت تعلم مسبقا أنك ستقع في مطب ما بالرغم من كل شيء. أما إذا كنت من سكانها وللأسف، فما عليك سوى الانصياع لنظامها غير المنظم، والتكيف مع بشاعتها وقبحها وظلمها كذلك، خاصة وأن ظلم ذوي القربى أشد وطأة وثقلا من ظلم الأعادي. الدار البيضاء لعنة، بل إنها لعنة اللعنات. ففيها تذوب الأشياء وتتعايش على إيقاعها المتناقضات: الغنى الفاحش والفقر المدقع، الفيلات الكبيرة والمبيت في العراء، السيارات الفارهة والعربات المجرورة التي تعيدنا إلى العصر الوسيط وما قبله. هذا دون الحديث عن النشل والسرقة والنصب وفساد المسؤولين والجهل وارتفاع نسبة الجريمة والدعارة والحقد الطبقي والفوارق الشاسعة وغياب حس المدينة بمفهومها العصري، والتطاول على الملك العمومي والتلوث والضجيج والصراخ وغياب تام للمرافق الضرورية كالحدائق والشوارع الواسعة والساحات الفسيحة والمعمار الجميل.. والعديد العديد من المظاهر التي لا يسعني هذا المقام للتفصيل فيها.
ماذا لو قرر المسؤولون سواء المعينون منهم أو المنتخبون، ماذا لو قرروا الجلوس على مائدة العمل وليس الأكل، عفوا الحوار؟ ما الذي يمنعهم من الاعتكاف ووضع الأصبع على الجراح بغرض تضميدها خاصة وأن عمدة المدينة كان لها باعا سابقا في مهنة الطب، بل إنها جربت أن تكون وزيرة الصحة في أسبوع، ليتم طردها من الباب الضيق وإن بدا للعديد ليس طردا بقدر ما أنه حالة تنافي لا يمكن الجمع من خلالها بين عمادة المدينة ووزارة الصحة ـ رغم أن وزيرة لازالت تشغل المهمتين لحد الساعة ـ في بلد معطوب مريض عليل وجريح من كل جوانبه. وفي المقابل من كل ذلك أليست أم الوزارات على علم بما يحصل من نهب وفساد يبدأ من "الفرّاش" الصغير الذي يحتل الشارع العام، إلى "المسؤول" الكبير الذي يملك كتابا ناذرا عنوانه: كيف تصبح غنيا عند الجلوس في كرسي المسؤولية؟
وعلى ذكر المسؤولية، فالظاهر أن مسؤولي المدينة أصحاب البطون السمينة والخدود المنتفخة حد الانفجار، لا يتوانون في نيل حصتهم من المشاريع التي نطلع على ميزانياتها الضخمة لكن فور خروجها إلى أرض الواقع نترحم على صانع الحكمة الشهيرة :"تمخض الجبل فولد فأرا." وكيف أنه لو علم ما كان سيحصل هنا لقال :"تمخض الجبل دون أن يلد ولا فأرا." فكيف يُعقل أن بعض المسؤولين منذ نعومة أظافري وهم يجلسون في كراسي المسؤولية دون إيجاد حلول تذكر لأبسط المشاكل وأسهلها على الإطلاق، هذا دون الدعوة إلى النبش في ممتلكاتهم وثرواتهم وصفقاتهم المشبوهة ناهيك عن الوساطات والزبونية التي لا تحد بتاتا.
سيتفق كل الناس أن مدينتنا تعاني منذ زمن بعيد من معضلة اسمها الأشغال التي لا تنتهي، بيد أن المشكل يكمن في أنها حالما تنتهي حتى يتم ترقيعها مرة أخرى وهذا حال شارع مولاي يوسف الذي تم توسيعه على حساب أشجار عمرها يقاس بعشرات السنين، أشجار تتذكر مجد المدينة الضائع، وكي لا تبقى شاهدة على ما كنا وما أصبحنا نعيش عليه، فقد تقرر اجتثاثها عن بكرة أبيها. ولما تم الانتهاء منه تم إقفاله مرة أخرى وحفره ثم ترك اسفلته مرقعا كأنه تعرض لقصف بالقنابل العنقودية. أما نفق شارع الزرقطوني فحدث ولا حرج، إذ لا يعقل أن يتم طلاء جدرانه، وتغيير جزء من قضبانه الحديدية ثم وضع قطع القصدير على تلك الجدران في مدة تقاس بالشهور، علما أنه لو توفر فينا جانب من المسؤولية لتم الانتهاء منه في أقل من أسبوع فقط. ودعونا نتحدث عن شارع محمد السادس الذي يعتبر منفذا رئيسا نحو مركز المدينة، إذ لازال مقطوع جزء كبير منه، بينما انكمش حجمه بسبب خط مسار الترامواي. أما شارع القدس فلا داعي للنبش في تطور الأشغال فيه وطولها الممتد إلى أجل غير مسمى، وهذا طريق "أولاد زيان" الذي يكفي أن تذكر اسمه حتى تتبادر إلى مخيلتك نشالي محطته الشهيرة، وعبء الأفارقة جنوب الصحراء الذين استوطنوه مثلما استوطنوا جسره البشع حيث روائح البول النتنة وأشياء أخرى لا داعي لذكرها احتراما للقارئ.
أمام كل هذا، يأخذنا عجب شديد ونحن نرى نفس الوجوه التي عمّرت طويلا في مجلس المدينة من نائب أول إلى نائب لا درجة له، عمّروا إلى المستوى الذي بتنا نعتقد من خلاله أنهم ولدوا من أجل مهمة لا مهمة لها، وأنهم سينتهون وهم لازالوا يحملون نفس الصفة.. منطقيا لا يجب أن تأخذ المسؤولية أكثر من ولايتين، لكن شريطة أن تكون قد أبليت البلاء الحسن في الولاية الأولى، أما عندنا فالأمر عجيب غريب، إذ بإمكانك الترشح لولايات متتالية ونيل نفس الصفة أو أكثرها دون أن نجد بصمتك الإيجابية وليس الشخصية فيما توليت من أجله، الكل يعرف ذلك بطبيعة الحال، والكل يعلم أن لكل "مسؤول" زبانيته وأتباعه الذين يحشدون الناس بداية من فئة نقدية قيمتها 200 درهم، والله وحده يعلم سقفها خلال التصويت في الانتخابات، هكذا فالاختيار لا يتم عبر منطق الاستحقاق، وإنما منطق من يقدم أكثر يحصل على مقعد برلماني، مثلما يحصل على تمثيلية جد مؤثرة في مجلس المدينة: نفس الوجوه والمدينة تغرق.
ما الذي تفعله نبيلة الرميلي صاحبة الملف الأسود حين كانت مسؤولة في وزارة الصحة؟ أولا تنفي وجود رائحة جد كريهة تملأ سماء الدار البيضاء، بل إنها رائحة تنفذ إلى أنفي الآن وأنا أكتب هذا المقال.. ثانيا تتهرب من إعطاء تفسير مقنع على ظاهرة الأشغال والأوراش التي لا تنتهي، وعندما تنتهي فإنها تبدأ من جديد وهكذا دواليك.. ثالثا لم تقدم جوابا واضحة للبيضاويين حول مصير المشاريع الكبرى لعل أهمها تشييد محطة لتحلية مياه البحر، إضافة إلى مآل حديقة الحيوانات بعين السبع والمسرح الكبير وملعب الدار البيضاء وغياب شبه منعدم للمساحات الخضراء.. رابعا لم تتحدث عن الأسباب الغريبة لتوالد وتكاثر دور الصفيح وكأن وزارات الداخلية والتعمير والمجالس المنتخبة لا يعلموا بذلك بتاتا.. خامسا ألم تكلف نبيلة الرميلي عناء التجوال في ضواحي المدينة كي تنبش في ملف المصانع شبه العشوائية التي تزود المدينة بالأكياس البلاستيكية دون الحديث عن الروائح التي تتركها أما صمت مهول للجميع.. سادسا أمام الرميلي حلين بصفتها عمدة المدينة، إما الوفاء بالبرنامج الانتخابي لحزبها ومساءلة ومحاسبة "مسامر الميدة" الذي يحيطون بها، أو وضع مفتاح المدينة لمن يملك القدرة على تسييرها.. وأخيرا هل تمكنت فعلا من الحد من ظاهرة العربات المجرورة بالدواب، أم أن خرجتها السابقة كانت مجرد تمويه لا غير؟