هادي معزوز
يحمل اليهود ندوبا وتحمل النازية مبالغة في تأويلها.. هل كُتب على اليهود الانتشار ثم الاستيطان فالانتشار الذي يعقبه توطن؟ وهل كُتب على النازية أن يتم المبالغة فيما اقترفوه وهم في أوج حرب تجمع بين الدفاع عن النفس، والانتقام من الذين نكلوا بهم غداة الحرب العالمية الأولى؟ هل كان حريا باليهود أن يحققوا الكينونة l’être على حساب كينونة آخرين؟ وهل كان النازيون سيمدون الورود لمن يصوبون أفتك الأسلحة ضدهم؟ تلك إذن أمّارة حدثين لا ينبغي قراءتهما بعين واحدة، بل توجب التمكن من عُدّة تضم معارف عِدّة، مثلما كان قمينا نزع معطف الانتماء وما أهونه.
كل شخص يدعي الملائكية والطهرانية توجب أن يعيد النظر في نفسه، هي طبيعة الإنسان الميّالة إلى التمكن، ومن يحمل على أكتافه شعارا غير هذا فليعلم أن الضعف هو من أثقل طبيعته وغمرها، لكن إذا اكتسب أو امتلك بعدئذ القوة الكافية كي ينقض، غير تباعا من خطابه فتحولت الكياسة إلى اقتحام، واستحال التمنع نشاطا مباحا لا قيود له..ولنا في ذلك أمثلة عدة لأشخاص صادمة حدائقهم الخلفية، مثلما لنا أيضا قصصا وعبرا، كقصة راعي أفلاطون، وأحدب زرادشت ومقابر رجال الدين والمذابح التي اقترفت في حق عشرات الآلاف من البشر بغرض السطوة السياسية والربح الاقتصادي.. هو ذا الإنسان إذن..!
بين إسرائيل وألمانيا النازية خيطا رفيعا، وبينهما أيضا مسافة وبونا شاسعا، يتجلى خيط الاتصال في تحويل الاضطهاد إلى قوة لا تبقي ولا تذر، وتتجسد الهوة السحيقة في انفصام خطاب إسرائيل الذي تقابله واقعية النازية وهم يقولون: إنها الحرب. هل كانت إسرائيل ستعود إلى أرضها بخطاب الوداعة؟ وهل كانت ألمانيا ستقيم الدنيا بكتابات غوته وشعر هلدرلين..؟لكن وفي المقابل من ذلك هل يستقيم مجد اليهود بالمذابح، وهل تُستعرض عضلات الألمان بالمحارق؟ إسرائيل تمثل فكرة ظلت صامتة هادرة، وحينما حانت الفترة المناسبة انقضت دون هوادة.. والنازية قرأت روح القرن العشرين جيدا فجسدته بما كان ينبغي القيام به.. إسرائيل تستغل مخيمات التعذيب الألمانية استعطافا للرأي العام الدولي ونيل تضامنهم اللامشروط.. بينما عملت النازية على تعرية الخطاب المضمر، متصرفة بطبيعة الإنسان الحقيقية.. يبدي الفيلسوف الكبير هايدغر ميولا نحو النازية خاصة في الدفاتر السوداء..تبدي المفكرة حنا أرندت امتعاضا كبيرا فتهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، تهاجر وتتكلم على أشياء ثم تصمت على أخرى.. أينشتاين ضد قنبلة النازية النووية لحظة صنعها.. أينشتاين مع القنبلة الأمريكية النووية لحظة إلقاءها..القنبلة الأولى كانت ستدمر العالم، القنبلة الثانية دمرته دون أن تعترف أو تتحمل مسؤوليتها لحد الساعة.. دمرته دفاعا عن النفس، وأبادت شعبا برمته من أجل التحضر.. يحدثنا جانكلفيتش في كتاب روح المقاومة على فظاعات النازية بمخيمات أوشفيتز.. يقرض محمود درويش شعرا يتحدث فيه عن فظاعات إسرائيل بالأراضي الفلسطينية.. عرب إسرائيل متوجّمون من أبارتهايد دولة لن تتخلص من التراتبية.. لا عرب إسرائيل يقرون بأنها قوة إقليمية لا مناص منها، يتعاملون معها سرا ويسبّونها علانية، أو يتعاملون معها علانية ويلعنونها سرا..ينكر العديد من المؤرخين المبالغة في محارق النازية، وكيف أنها مجرد حيلة غرضها التعاطف، مثلما يُقرُّ الكثير من المحللين قيام إسرائيل على تفضيل يهود أوربا واعتبارهم أنقى اليهود وأطهرهم.. يهود السودان غير معترف بهم لأن لونهم أسود.. يهود العالم منقسمون بين متعاطف مع إسرائيل ومناقض لها، لكن ما أكثر الذين يمسكون العصا من الوسط.. النازية قتلوا واغتصبوا في الحرب، بينما يسكت الجميع عما اقترفه الأمريكيون لحظة النزول الضخم بمنطقة النورموندي.. بل حتى الذين استقدمتهم الدول المستعمِرة للدفاع عنهم، عاثوا في الأرض فسادا ونالوا من غنائم وسرقوا من أشياء الآخرين أو ما تبقى لهم وهو فتات..
لا يصنع المجد السياسي بطريقة ناعمة، مثلما لا يمكن المزج بين الأخلاق والسياسة لأنها توليفة وتعويذة محظورة لا يملك حلها أحد..لهذا فإسرائيل مستعدة لأن تكون دولة أبارتهايد حين المس بامتيازاتها أو استقرارها.. مثلما أن الألمان كانوا مستعدين دوما لقتل كل من يقف أمام طموحهم في احتلال العالم وطرد القوى صاحبة الخطاب المزدوج..إسرائيل دولة شرقية تفكر بعقل غربي. بينما النازية دولة غربية تنتقد العقل الغربي بالسلاح وليس بالقلم.. لهذا لن نتفاجأ أمام خطاب إسرائيل المزدوج، مثلما لن نندهش ونحن ننصت إلى لغة هتلر المباشرة.. الغرب يصنع السلاح وينادي بالسلام.. النازية تصنع أثقل الأسلحة بغرض القضاء على دعاة السلامالوهميين.. إسرائيل تعد شعبها بالعودة إلى الأرض التي طردوا منها، لكنها تطرد أناسا آخرين من أرضهم التي وجد أجدادهم عليها..العالم منفصم حقا، لكنه وجب أن يكون كذلك لأنه محكوم من طرف الإنسان.. هذا الكائن الذي خرب كل شيء باسم العقل، ولا زال يخربه لحد الساعة باسم وهم المركزية لديه.. أفلم يحن موعد تجاوزه بعد؟