في الوقت الذي يسعى عرابو "صفقة القرن" إلى شراء راحة الضمير بقوة الاقتصاد وإغراء المال، يدعو المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي إلى ضرورة اعتراف الدولة، التي تعلي من شأن جوهرها الصهيونية، بما اقترفته في حق الفلسطينيين من تطهير عرقي خطط له الآباء المؤسسون والقبول بعودة اللاجئين والاحتكام للديمقراطية.
"المسألة الفلسطينية هي القضية البسيطة والمرعبة لتطهير فلسطين من سكانها الأصليين، وهي جريمة ضد الإنسانية، أرادت إسرائيل إنكارها وجعل العالم ينساها. إن استردادها من النسيان واجب علينا". تلك خلاصة أعمال المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي، الذي اضطر لمغادرة بلده، بعدما نبذ شعبيا وأكاديميا.
الحقيقة رغم النبذ
صدح بحقيقة مفادها أن الفلسطينيين تعرضوا للتطهير العرقي في 1948، معتبرا أنه يتوجب على إسرائيل، إذا ما خلصت نيتها في تحقيق السلام، الاعتراف بما اقترفته في حق الفلسطينيين والقطع مع التوجه الصهيوني للدولة، ولم يكف عن التحذير من عمليات "ترانسفير جديد" بعد اتفاقية أوسلو المفيدة في تصوره لإسرائيل.
يؤيد حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال وينادي بعودة اللاجئين، ولم يكتف بالدعوة لذلك، بل أطلق مؤتمرا حول عودة اللاجئين الفلسطينيين المهجرين في 1948، ودعا إلى مقاطعة المؤسسات التعليمية الإسرائيلية، معتبرا أن الضغط الخارجي يمكن أن يساعد على وضع حد لأسوأ احتلال في تاريخ البشرية.
هرب أبواه من الاضطهاد الناري، وحلا بفلسطين في 1930، حيث رأى النور في 1954. لم يستسلم للرواية الإسرائيلية حول ظروف تأسيس دولتهم، وهو ما كشفه عنه عبر رسالة الدكتوراه حول بريطانيا والصراع العربي الإسرائيلي، التي أشرف عليها المؤرخ العربي ألبرت حوراني.
عندما شرع في الحديث عن التطهير العرقي الذي تعرض له الفلسطينيون، تعرض لمضايقات سياسية وأكاديمية، وصلت إلى درجة مطالبته بالاستقالة من جامعة حيفا التي كان يدرس بها، قبل أن يختار الرحيل إلى إنجلترا.
يقول "أصبح من الصعب جدا علي أن أعيش في إسرائيل(..)، لقد تمت مقاطعتي في الجامعة، وظهرت محاولات لفصلي من وظيفتي، وأصبحت مكالمات التهديد يومية. لم يتم إظهاري كعنصر تهديد للمجتمع الإسرائيلي، ولكن شعبي اعتقد أنني ربما أكون مجنونا أو بعيدا عن الواقع. وبعض الإسرائيليين اعتقدوا أنني مرتزق لخدمة العرب".
قنبلة في كتاب
واجه الأكاذيب الصهيونية بالكثير من القوة والشجاعة، ولم يكن يملك سوى حقائق تاريخية، لم ترض حراس المعبد في إسرائيل، الذي لم يرق لهم زعزعته للرواية الرسمية التي روجت لها الحركة الصهيونية، التي كانت تؤكد على أن مغادرة الفلسطينيين لقراهم، كانت من الآثار الجانبية للحرب.
إيلان بابي من المؤرخين الجدد في إسرائيل، صدر له في 2006 كتاب "التطهير العرقي في فلسطين"، كتاب كان له مفعول القنبلة في إسرائيل، فقد بنى أطروحته على أن ماحدث في 1948، لم يكن من الآثار الجانبية للحرب، بل جاء تطبيقا لمخطط تطهير عرقي مخطط له عن سبق إصرار وترصد.
سعى الكثير من الباحثين الذين أدرجوا ضمن "المؤرخين الجدد" إلى دحض الرواية الإسرائيلية الرسمية، عبر التأكيد على أن التشديد على هاجس التهجير القسري للفلسطينيين لدى القادة الصهاينة الذين أرادوا تأسيس كيان إسرائيل على حساب السكان الأصليين.
غير أنه في الوقت، الذي شدد مؤرخون، ضمن ذلك التيار الأكاديمي، على أن التهجير لم يأت نتيجة خطة مسبقة، مؤكدين، في بعض الأحيان، على هجرة الفلسطينيين، جاءت استجابة لدعوات الأنظمة العربية، وذهب إيلان بابي إلى أن ما لاقاه الفلسطينيون في 1948 جاء تطبيقا لخطة للتطهير العرقي معدة سلفا.
تطهير عرقي.. متواصل
ينقض إيلان بابي وصف "النكبة"، الذي يعتبر التشديد عليه نوعا من السعي إلى عدم تحميل المسؤولية للحركة الصهيونية، فهو يرتكز في فضحه للتطهير العرقي على وثائق جرى إخراجها من دائرة السرية بعد خمسين عاما على ما حدث في 1948.
تلك وثائق سهلت لأيلان بابي على الوقوف على الوسائل التي اعتمدتها الحركة الصهيونية من أجل طرد الفلسطينيين من أرضهم، وقد ساعدته الوثيقة التاريخية على إيراد أسماء الذين تولوا تنفيذ مخطط التطهير والتعرف على أسماء القرى والبلدان التي ذبح أهلها.
يؤكد على أن التطهير العرقي رعته المليشيات التي قادها ديفيد بن غوريون الذي قال في مذكراته: "إني مع الطرد الإجباري، ولا أرى أي شيء غير أخلاقي فيه".
هذه القناعة لدى بن غوريون، وجدت ترجمتها عبر خطة "داليت"، التي استدعت تقسيم فلسطين إلى 12 منطقة، مع توجيه أوامر للمسلحين الصهاينة بنشر جو من الخوف ومحاصرة وقصف القسري وإضرام النار في المنازل وتهجير السكان الأصليين وقتل كل حامل للسلاح أو من يستطيع حمل السلاح، بل إن التعليمات شددت على وضع الألغام تحت أنقاض المنازل، من أجل قطع دابر كل من يحاول العودة إلى منزله.
وكان من نتائج تلك الخطة، كما يوضح إيلان بابي، احتلال 200 قرية فلسطينية وتهجير 250 ألف فلسطينية بين التاسع من أبريل وماي 1948، بل إن المؤرخ يشير إلى أن مليشيات الصهاينة، أمعنت في تطبيق خطة التطهير العرقي، عبر المضي في القتل في 531 قرية ومدينة بين قرار التقسيم وماي 1948.
يؤكد بابي، الذي ينشط بمعية مفكرين عالميين كبار من أمثال نعوم تشومسكي، من أجل دحض الرواية الإسرائيليين الغالبة بقوة الدعم السياسي والإعلامي، على أن خططا أخرى نفذت من أجل القضاء على الفلسطينيين الذي لم يرعبهم التهديد، وذلك عبر مصادرة الأراضي ونهج سياسة التمييز العنصري.
ويكشف عن تواطؤ سلطات الانتداب البريطاني، التي غضت الطرف عما كان يقترفه الصهاينة، بينما كان عليها حماية السكان، فقد سحب الانتداب البريطاني الذي كان يتوفر على قوات يصل عددها إلى 75 ألف بفلسطين، الشرطة ورفض الاستعانة بقوات أممية، و لجأ إلى نزع سلاح الفلسطينيين.
ينادي إيلان بابي بالعيش المشترك بين اليهود والعرب، معتبرا أن ذلك يمكن أن يتجسد عبر الاحتكام للديمقراطية، وهو شرط تتنكر له إسرائيل. ففي "أكبر سجن على الأرض"، الذي أصدره بمناسبة مرور 50 عاما على حرب 1967، يكشف أن الصهيونية حالة بنيوية، وليس معطي عابرا، حيث يركز على مواصلة التطهير العرقي بطريقة تدريجية، عبر التدابير الاستيطانية وفصل قطاع عزة عن الضفة الغربية وتشديد عمليات المراقبة، ذلك يثير غضب الفلسطينيين، الذي يمكن أن ينخرطوا في انتفاضة ثالثة.