مثلما تحدث بنكيران عن "التحكم" اليوسفي قبله قال "جيوب المقاومة". وإن اختلف السياق السياسي والمنطلق الدستوري في تدبير الأمور ألا ترى أن الوقائع تتشابه
قلت الجواب في سؤالك. المقارنة بين حكومة عبد الرحمان اليوسفي وحكومة بنكيران هو تعسف لا مبرر له. خلال تلك الفترة كانت الدولة تسير بدستور وافق عليه الاتحاد لفتح تجربة التناوب التوافقي، لكنه كان ناقصاً، وكنا في سياق الانتقال إلى عهد جديد، واليوسفي كان همه وتفكيره حينها في البلاد وليس في الحزب، وهذا لم يمنعه من الصراع داخل الحكومة، وعندما قال جملته الشهيرة "جيوب المقاومة" لم يكن يتضرع بها للتنصل من مسؤولية مقاومتها، ولا يمكن اطلاقاً مقارنة التجربتين.
إذن، لا يمكن أبدا وصف حكومة بنكيران بـ"التناوب الثاني"، لأن هذا لعب بكلمات لا تعكس الحقيقة، ووصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة كان في سياق جهوي ودولي خاص.
*دافعت خلال هذا الحوار عن التأويل الديمقراطي للدستور. انطلاقا من قناعتك هذه، هل اعفاء بنكيران من مهمة تشكيل الحكومة دستوري؟
أعتبر أن كل ما جرى منذ إعلان نتائج الانتخابات وإلى تشكيل الحكومة، شيء لا يمت إلى الممارسة الديمقراطية السليمة بصلة. المفاوضات كانت خارج السياق الديمقراطي، وأتأسف لذلك، لأن البلاد دفعت ثمناً كبيراً لأجل نتائج هزيلة جداً، في سياق تم فيه إنزال زعماء وأحزاب جدد.
قرارات واختيارات الكاتب الأول للاتحاد إدريس لشكر كانت جزء من المسار الذي ذكرت
أنت تطلب مني أن أحمله شيئاً أكبر منه بكثير. لا أعتقد أن أحداً كان يملك قراره في هذه الحكاية، لذلك فإن الانتخابات التي كانت لحظة سياسية عادية أفضت بفعل فاعل إلى وضع سياسي مأزوم .
*هل تتوقع أن تصمد هذه الحكومة أمام ما ينتظرها من تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية
لن تكون الحكومة في حجم التحديات الكبرى للبلاد وهذا ليس سراً، يمكن أن تستمر طيلة ولايتها، لن تضيف للبلاد سوى خمس سنوات بيضاء أخرى.
هذه الحكومة وبالرصيد المعنوي الذي تملكه عند الناس لن تستطيع تقديم أي شيء، والأكيد سوف تقوم جهة أو جهات أخرى بمحاولة تحقيق بعض الانتظارات، أي سوف نضع الديمقراطية بين قوسين، والإيحاء بأن هذا هو الحل مغامرة. المغرب لم يسبق له منذ تدشينه للنضال من أجل الديمقراطية أن كان بين هذين الخيارين،(حكومة عاجزة منبثقة من صناديق الاقتراع،أو تدبير مباشر للشأن العام خارج الشرعية الانتخابية) وهذا أمر خطيراً جداً.
في سياق حديثنا عن جهات أخرى تحقق الانتظارات نتابع أن وزارات السيادة اتسعت دائرتها بتعيين أسماء تكنوقراط على رأس عدد من القطاعات. هل نتجه تدريجيا نحو القطع من تدبير سياسيين للقطاعات الحكومية الكبرى؟
العملية برمتها تدخل في صميم اللعب على خيارين. الأول إجراء انتخابات "سليمة" لإفراز المؤسسات . والثاني، الاعتماد على ما يسمى"الفعالية والحكامة الجيدة"، وهي بالضرورة من دائرة أخرى غير دائرة الدورة الديمقراطية، لأنها هذه الأخيرة في التوصيف الرسمي غارقة في أمراضها وأعطابها. أرى أن المجال الأول أصبحنا نشهره من أجل الترويج الإعلامي للديموقراطية ، لكن الثاني أصبح هو الخيار الذي تنهجه الدولة منذ سنوات وليس مرتبطاً فقط بتركيبة الحكومة الحالية.
عندما بدأت التدخلات في تشكيل خريطة الأحزاب والمؤسسات وفق منظور لا يعترف باستقلاليتها، دخلنا في الدوامة التي نعيشها اليوم، والتدخل في تعيين وزير واحد فقط خارج دائرة الدورة الديمقراطية مخل بالأسس الدستورية والقانونية للعملية السياسية برمتها.
*مفهوم "حزب الدولة" يثير الجدل دائما في المغرب، وكثيرون يصفون الأصالة والمعاصرة بهذه العبارة.إلياس العماري قدم استقالته من قيادة حزبه وتراجع عنها، لكن تابعنا دخول حزبه في متاهة ظهرت بشكل واضح خلال تدبيره للانتخابات الجزئية كما برزت استقالات جماعية منه، وصراع بين قياداته. أمام هذا الوضع هل انتهت ظاهرة "حزب الدولة" كما يوصف؟
نحن نمارس الآن تمريناً أحمق. فأنت تطلب مني أن أتجاهل كل ما أعرف، وأتحدث عن الأصالة والمعاصرة وكأنه حزب حقيقي. بتعبير بسيط بل وساذج، جميع من ينتمون للحزب محكومون بالبذرة الأولى التي خرجوا منها، وكلهم اليوم عيونهم وقلوبهم متعلقة بالقوة التي سوف تأخذ مكان الحزب الذي سيخرجون منه بنفس الطريقة التي دخلوه بها. هل تريد منهم أن يظهروا تشبثهم الدائم بهذا الحزب وهم يعرفون أنه انتهى، يجب عليهم أن يرسلوا إشارات للقوة الجديدة التي سوف تنبثق من أنقاضه. ما أسس بطريقة فوقية مآله الزوال.
*يعني نحن اليوم أمام تبادل للأدوار بين "البام" و"الأحرار"
هذه كلها ملهاة تدعو إلى الامتعاض. لهذا أرى أن هذا الوضع هو جزء من العطب الكبير الذي نعيشه.
خلاصة ما وقع في الريف، هو أن الدولة لم تنجح في تأسيس وساطة حقيقية تفضي إلى حوار عميق
*كيف ترى تدبير الدولة لحراك الريف
للأسف كانت هناك اختلالات كبيرة منذ البداية، وخاصة فترة الصمت الطويل وكأن أخبار الريف لم تكن تصلهم، ثم المعالجة الساذجة وغير السليمة التي بدأت بها الحكومة السابقة، وتلتها في ذلك الحكومة الجديدة بإعلان الحراك حركة انفصالية، قبل أن تعود أحزاب الحكومة للتشديد على طابعه الاجتماعي في جلسة برلمانية، بعد ذلك ظهر العجز الكبير للتنظيمات السياسية في قيامها بدور ولو صغير في إطار الوساطة، وأخيراً تخبط الدولة في عدد من الإجراءات ومنها المعالجة الأمنية للملف والمحاكمات. كل هذا نضيفه إلى نوع من عدم الشعور بدقة الموقف في الريف، وعدم استحضار الخصوصية السياسية والثقافية لهذه المنطقة، وما يمكن أن ينتج عن بعض الأحداث من عودة مؤلمة للجراح القديمة .
خلاصة ما وقع في الريف، هو أن الدولة لم تنجح في تأسيس وساطة حقيقية تفضي إلى حوار عميق، وتجاوز عدداً من الاختلالات التي عرفتها المشاريع في المنطقة.
وأود أن أعود هنا إلى ما بدأه الملك في المنطقة منذ زلزال الحسيمة، عندما فتحت صفحة جديدة بين الدولة وأبناء المنطقة، وكان لذلك صدى إيجابي، لكن وعوض الاستفادة من هذا الوضع والذهاب بعيداً في ترسيخ أسس هذه المصالحة، اعتبر الكثيرون أن الصفحة قد طويت وعادوا بالمنطقة إلى النسيان
منطقة الريف والحسيمة خصوصاً، صمتت لعقود خلال فترة حكم الحسن الثاني، وكان صمتها نابعاً من الخوف ومن الإحساس بالجبروت الذي عصف بالمنطقة خلال ذلك العهد، لكن اليوم وبشكل مفارق عندما بدأ العهد الجديد بخلق نوع من الانفتاح، انفجر الريف شعبياً لأول مرة، وهذا الأمر يجب أن يدفعنا إلى التساؤل عن ما حدث؟ وإلى العمل بقوة على منع كل تخريب للمشروع الكبير الذي دشن للنهوض بالمنطقة والمصالحة معها.
الآن هناك ضرورة للقيام بأمرين أساسيين، الأول هو التهدئة المرتبطة باعتبار الحركة في عمقها اجتماعية ومتزعميها ليسوا مجرمين بل شباباً عبروا عن رأي عام وعن مطالب مشروعة، لذلك من العبث أن يستمر اعتقالهم ومحاكمتهم، حركة الريف سلمية ومواطنة .الأمر الثاني، هو أن يباشر بطريقة جدية فتح حوار واسع لمعالجة قضايا الريف قبل أن تصبح شيئاً يلغم مستقبل المنطقة.
شباط قبل مؤتمر حزبه خاض معركة الكل للكل. كيف ترى مسار الرجل ومسؤوليته في ما وصل إليه حزب الاستقلال؟
لا أعير أي اهتمام لما قاله ويقوله شباط، لأنني مقتنع أنه إحدى صنائع سياسة التدخل في شؤون الأحزاب السياسية. كل ما أتمناه هو أن ينتصر حزب الاستقلال على الانزلاق الذي تعرض له، وأن يعود إلى دوره الحقيقي الذي قام به دائما في المجتمع. المغرب في حاجة لوجود حزب الاستقلال ولتعافي أحزاب اليسار، لأن فكرة تشطيب هذه التنظيمات كما هي فكرة مدمرة.وفكرة إعادة هيكلتها بالتدخل في شؤونها فكرة أكثر تدميراً.
لماذا حدث في مشاريع الريف ما حدث والحال أن الملك بنفسه كان وراء إطلاق المشاريع؟
ما رأيك في ما أصبح يعرف بـ"الزلزال السياسي" والأسماء التي عصف بها، وهل يمكن القول أن ما وقع هو فعلا ربط للمسؤولية بالمحاسبة؟
من المؤكد أن ما حصل يدعو الجميع إلى التفكير والتأمل وإلى حوار واسع للخروج من منطق التنفيس والتصفيق الأعمى وحتى الشماتة، لقد عشنا من خلال هذا الحدث لحظة سياسية مليئة بالأسئلة.
لماذا حدث في مشاريع الريف ما حدث والحال أن الملك بنفسه كان وراء إطلاق المشاريع؟
هل "الفعالية والحكامة الجيدة" مجرد أسطورة؟
هل يوجد الخلل في المقاربة أم في إعداد المشاريع أم في التمويل والمتابعة؟؟
هل هذا الخلل الخطير يوجد فقط في مشاريع الحسيمة؟
وأين هو تقييم السياسات العمومية الذي نص عليها الدستور؟
هل المغرب الأخضر والمغرب الصناعي، والمغرب السياحي، والبنيات التحتية الكبرى والتنمية البشرية، كلها سليمة ومعافاة؟؟
"الحساب صابون" كما يقول المغاربة، لكن لكي يكون مطهراً، لابد أن يكون شاملاً وعادلاً وفي كل يوم، في النقاش العمومي وفي الإعلام وفي البرلمان وفي القضاء وفي صناديق الاقتراع.
في كل الأنظمة الديموقراطية فإن رئيس الحكومة مسؤول عن أعضاء حكومته، والدستور يسمح له باقتراح إقالتهم إذا أخلوا بواجباتهم، وفي حالة ما إذا اختلسوا أو بددوا أموالاً عمومية فإن المؤسسات المختصة تحيلهم على القضاء، وإذا انهوا ولايتهم ولم يفوا بالتزاماتهم أمام الناخبين أو لم يحققوا النتائج المنتظرة،ف إن صناديق الاقتراع تشطبهم من الحياة السياسية وأحياناً بصفة نهائية، وهذا في نهاية المطاف هو الربط بين المسؤولية والمحاسبة. الربط الذي يطمئن له المواطن وتطمئن له المؤسسات وتطمئن له الكفاءات الوطنية التي لا تخاف عندئذ من تحمل المسؤولية ولا تخاف من المحاسبة.