في الجزء الثاني من الحوار مع المفكر الإسلامي التونسي، يواصل صلاح الدين الجورشي حديثه عن الاسلام التقدمي وعن حزب النهضة وما آل إليه. بالإضافة إلى تفصيله لموضوع الإرث والحريات الفردية والجنسية، من خلال توصيات لجنة الحريات الفردية والمساواة، التي كان عضوا بها.
الجزء (2): النهضة.. الإرث والحريات الجنسية
في نظرك، هل يصلح "الإسلاميون التقدميون" كنموذج للحكم؟
أولا يجب أن نشير إلى أن "الإسلاميون التقدميون" ليسوا جماعة الآن، وحول هذا الموضوع بالذات اختلفنا في عناصر كثيرة منها؛ علاقتنا بالسياسة. لكن بالمقابل هناك بعض العناصر ممن التحقوا بأحزاب سياسية أخرى، بعضهم في حركة النهضة. إذن الاختيار السياسي هو اختيار حر.
المجال السياسي هو القدرة على استقطاب الكثير من الأشخاص بما فيهم أشخاص تربوا في حضن الإسلاميين. لكن أنا ولحد الآن، ورغم ارتفاع سقف الحرية في تونس، ما زلت حذرا من العمل السياسي، لأن هذا الأخير، يمكن أن يبتلع الأشخاص ويفرض عليهم أولويات قد لا تكون ذات طابع حضاري أو فكري أو تغيير جذري.
أنا أشجع الأحزاب السياسية والتي هي شرط أساسي للنظام الديمقراطي، لكن لا أرغب في خوض تجربتها، وأفضل أن أبقى بعيدا عن الفضاءات والأطر الحزبية، التي ما تزال غير قادرة على خلق مسافة بين الانتماء السياسي والاجتماعي وبين الثقافي والفكري.
كيف ترى حزب النهضة اليوم، وما الاعتراضات التي تبديها كمتتبع ومتخصص للإسلام السياسي ؟
من الصعب الحديث عن تجربة حزب النهضة بشكل مقتضب. حركة النهضة حصلت داخلها تطورات كثيرة، جعلتها تستوعب جزءا من التحول السياسي الحاصل في تونس. فالحركة تجنبت الانزلاق نحو العنف، كما تجنبت منطق الوصاية على الآخرين. ثم حاولت بناء تحالفات حتى مع خصومها.
لكن النهضة ما تزال أمامها أشواطا عديدة لكي تحدث نقلة نوعية، فهي تتحرك داخليا في بيئة محافظة، ولم تستطع أن تقطع مع تشكلات وترسبات "الإخوان المسلمين".
لم تقم النهضة بنقد جذري لفكر الإخوان المسلمين، بل ما تزال تتعاطف معهم، لا سيما وأن الإخوان في مصر في مرحلة اضطهاد جديد. صحيح أن هذا طبيعي، حيث يمكن التعاطف معها مبدئيا وحقوقيا، لكن يجب عليها أن ترسخ المسافة بين القطيعة وبين المرجعية الفكرية.
وما وقع أخيرا داخل الحركة، يوحي بأن هناك تيارا يحاول تمييز نفسه عن الإسلام السياسي، لكن ما تزال وشائج فكرية وسياسية راسخة في أدبياتها ومرجعياتها، وبالحركات الكبرى، تطغى على ذلك.
كنت عضوا ضمن لجنة "الحريات الفردية والمساواة"، التي شكلها رئيس الجمهورية، إلى جانب عبد المجيد الشرفي وبشرى بلحاج.. لماذا أولا قبلت فكرة الانضمام ؟
قبلت عضوية اللجنة رغم اختلافي مع باقي عناصرها، لأني، أولا، لا أومن بالفراغ، بحيث يهمني أن أكون في أية مبادرة لتحسين الأوضاع. كما لا تنسى أنني سبق لي أن التحقت بعضوية رابطة حقوق الإنسان منذ 1982، وهي ليست جمعية فقط، بل هي علاقة فكرية وفلسفية. لذا أعتبر أن تجربتي الحقوقية منذ ذلك الوقت، عندما تم اختياري نائبا لرئيسها، ساعدتني كثيرا على إعادة بناء فكري ومراجعات تتعلق بمنظومة حقوقية متشعبة.
وبالتالي لجنة الحريات عندما شكلها رئيس الجمهورية وجدت نفسي على نفس المسار. ثم كذلك إعادة تأسيس الفرد، فهي تشغلني كثيرا. فللأسف نحن ما نزال نؤمن بوصاية الدولة والمجتمع على الأفراد، إذ أصبح الفرد يتمتع بحد أدنى من الاستقلالية عن الدولة وعن السوق العالمي. فبلادنا تحتاج الى مثل هاته المبادرات.
كيف خلصتم إلى تلك التوصيات، مثل المساواة في الإرث، التي قسمت تونس بين مؤيد ومعارض؟
يمكن أن أقول لك شيئا قد يبدو مفاجئا؛ وهو أن كل التوصيات التي خرجت بها اللجنة لا أتبناها بشكل كامل، لأن اللجنة هي عمل جماعي وليست بيانا سياسيا. لكن الجزء الأكبر من تلك التوصيات، ومجرد التفكير فيها، يساعد على تحرر الفرد. فالميراث مثلا الذي يراه البعض مقدسا، لا يمت بصلة لدائرة العقائد ولا العبادات، بل يندرج في دائرة المعاملات، وهي مجال واسع للتطور والتغير.
إذا حصل تطور اجتماعي، فبالضرورة التشريع ينسجم ويستجيب لذلك التطور، وإلا سيعيش المجتمع في ازدواجية.
ورغم أن المرأة في العالم العربي والإسلامي، أصبحت فاعلة في الانتاجية، فهي ما تزال محرومة من حقوقها. هناك إشكال حاصل لم نستطع أن نتحكم فيه، وهو العلاقة بين التشريع والتطور الاجتماعي؛ فإذا حصل تطور اجتماعي، فبالضرورة التشريع ينسجم ويستجيب لذلك التطور، وإلا سيعيش المجتمع في ازدواجية.
لهذا الجهد التحرري والتقدمي قبلت بالانخراط في اللجنة، رغم أني غير متوافق مع بعض مواقفها. وكما ترى فقد طالتني الألسن ونلت وابلا من الانتقادات.
ألا ترى أن قضية الإرث، رغم أنها دينية إلا أنها أضحت مترسخة اجتماعيا، ومن الصعب عزلها عن العرف الاجتماعي ؟
هذه من الأسئلة التي طرحتها على نفسي، والتي يدور النقاش حولها في تونس. في القرآن عشرات النصوص التي تعتبر قطعية في دلالاتها وفي معانيها، لكن ومع ذلك، بعض النصوص المرتبطة بالتشريع، توقف العمل بها بدون أن نسأل أنفسنا أو يجتهد فيها العلماء كثيرا.. كمسألة الحدود مثلا.
الموضوع ليس في كونه نصا من عدمه، بل هل هذا النص ما زال يستجيب لحالة المرأة والمجتمع التونسي أم لا؟
الموضوع ليس في كونه نصا من عدمه، بل هل هذا النص ما زال يستجيب لحالة المرأة والمجتمع التونسي أم لا؟ من خلال مطالعاتي وقراءاتي تبين لي أن المسافة تزداد اتساعا بين هذا النص، والذي أومن أنه قرآني، وبين تنزيله على أرض الواقع.
بين النص وعملية التنزيل تتموقع المعطيات الاقتصادية والاجتماعية، التي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار. أما إشكالية النص والواقع فستظل أزلية، ما دامت مرتبطة بفكرة الوحي.
وهل الخلل في النص أو في فهمه؟
ما لم نستطع أن نتجاوزه أو التقدم فيه هو هل فهمنا للنص، لمجرد كونه نصا، يصبح ملزما للتطبيق حتى ولو أن شروطه الاجتماعية والنفسية تغيرت؟ ومع ذلك في رأيي، أن حركة التاريخ تدفعنا، في تونس والمغرب وفي كل البلدان، إلى اللحظة التي سنكتشف فيها أن جوهر الدين هو القيم والجانب المفاهيمي والفسلفي فيه، أما الأحكام المجردة في القران، والتي لا تحتل سوى 5 بالمائة تقريبا، ليست هي الأساس.
الإسلام ليس نظاما شموليا يطبق في كل زمان ومكان.
الإسلام ليس نظاما شموليا يطبق في كل زمان ومكان، وهذا خطأ من يسمون بالسلفية. فالحركية التاريخية بينت ذلك، لأن الإسلام الحقيقي يكمن في فهم فلسفته، لكي نطور تشريعاتنا، لكي نجد أنفسنا في صلب العملية التغييرية في الكون.
ماذا عن توصيتكم في اللجنة بإعطاء حرية أكبر للحريات الفردية بما فيها الجنسية؟
هو من المواضيع الشائكة، وأنا شخصيا تعاملت معه بحذر، في ما يخص الحرية الجنسية، والذي يرتبط بالرأي العام في جانبه الأخلاقي. وعندما نتحدث عن حرية الفرد في جسده يجب أن نضع نوعا من الخطوط، قبل أن نتوسع فيه بشكل كبير. وذلك لأننا إذا رفعنا كل الضوابط ممكن أن يجعلنا ذلك نقفز على الواقع بمكوناته الاجتماعية والثقافية.
إذا رفعنا كل الضوابط ممكن أن يجعلنا ذلك نقفز على الواقع بمكوناته الاجتماعية والثقافية.
وفي تقديري في هذا الباب، اللجنة لامست بعض الجوانب التي تحتاج إلى نقاش، ولهذا قد تجد أن البعد الجنسي في التقرير أو ما يسمى بالحق في الجسد، من القضايا التي سيؤجل النظر فيها في التشريع التونسي، لأنها مسألة مقعدة ومرتبطة بمجموعة من السياقات والصراعات.
لكن من جهة أخرى، اللجنة حاولت النظر في قضية الحرية الجنسية من ناحية حقوقية بحثة، بمعنى أنها استحضرت المنظومة الحقوقية العالمية. موضوع الجنس هذا يستهلك الكثير من الطاقات، وداخل أي مجتمع يحصل تطور كبير بين الجنسين، لم يكن معمولا به أو مقبولا في فترات سابقة، ولهذا نحتاج إلى كثير من الوقت.
لكن اللجنة رفعت السقف، بالتطرق لقضية المثلية مثلا، وطالبتهم بمنح حرية في هذا الإطار ورفع العقوبات السجنية على ممارسيها؟
أنا كعضو في اللجنة، لم أكن متحمسا لرفع العقوبة النهائية السجنية، لكني كنت مع إنهاء الفحص الشرجي الذي دأبت عليه السلطات الأمنية، والذي أعتبره سلوكا عدوانيا ومهينا للكرامة.
كيف ذلك.. ما هو الإجراء الذي كان في السابق ؟
الفحص الشرجي يتم عندما يتهم شخص ما بممارسة المثلية، حيث يساق إلى مركز الأمن ليتم فحص شرجه، فيتولى الأمنيون أنفسهم هذه العملية وليس الأطباء. يقومون بتعرية الشخص ويتأكدون من وقوع إيلاج أو بقايا مني داخل شرج أحدهما. هذه الطريقة مهينة جدا ولا يمكن قبولها أو إدراجها في المنظومة العقابية. وفي اللجنة طالبنا بإنهاء هذه الطريقة.
الموضوع الثاني أنه في القانون التونسي في الفصل 230، يسمح بإيقاف أي شخص حوله شبهة ممارسة المثلية، فيعتقل ويحكم عليه لمدة 6 أشهر في السجن.
لماذا اعترضت ؟
هنا أرى أن قضية وضع مثلي في السجن، تثير كثيرا من الجدل، وهي ليست وسيلة لتربية الفرد، لكن المشكل أن الرأي العام في تونس، بحسب ما لاحظت، لا يتقبلون فكرة العقوبة. كما أننا لا نجد، على مستوى النخب والرأي العام، مناقشة كيف يصبح الشخص مثليا وما هي ظروفه.
بالمقابل، هاجمنا خصوم اللجنة بسبب طرحنا، وادعوا أننا نقوم بنشر الإباحية والفساد، ونفتح الباب لزواج المثليين، وهذا غير صحيح ولا أساس له من الصحة، وربما تحركه بعض المناوشات والصراعات الأيديولوجية والسياسية.
انتهى .
اقرأ أيضا: الجزء (1).. الجورشي: فكرة التنظيم لدى الإسلاميين تقتل الفكر.. ويجب أن نبحث عن علمانيتنا الخاصة