في سياق التحاليل المتعددة التي تناولت علاقة التنشئة الفكرية بارتفاع منسوب العنف داخل المجتمع المغربي، وكذا دور المثقف في تقييد هذا السلوك أو تقويضه، يندرج تصور الكاتب والروائي عبد الكريم الجويطي الذي بسطه عبر حوار خص به "تيل كيل عربي"؛ قارب من خلاله دور الثقافة في مواجهة التطرف وإشاعة قيمتي التسامح والتعايش.
صاحب رواية "المغاربة" الشهيرة، يتحدث في هذا الحوار المجرى معه على هامش فعاليات مهرجان كناوة بالصويرة عن استحالة القضاء على العنف، ويرى بديلا عن ذلك العمل على ترويضه، اعتبارا لكونه جزءًا من طبيعة الفرد التي جبل عليها، بعدها يعود الجويطي إلى التاريخ حيث يرصد تطور سلوك العنف داخل المجتمع المغربي.
الكاتب يعرج ضمن الحوار أيضا على تقييم التدرج الديمقراطي في المغرب ويبسط ما يراه حلا لإنضاج تلك الديمقراطية.
اعتبرت، في الندوة التي شاركت فيها على هامش مهرجان كناوة و المخصصة لموضوع العنف، أن الثقافة مروضة لسلوك العنف بدل كونها سلاحا للقضاء عليه، كيف ذلك؟
ركزت على ذلك لاعتقادي أن العنف متأصل في السلوك الإنساني، فقد اضطر الإنسان منذ الجماعات البدائية الأولى إلى استعماله قصد البقاء، وكان الأقوى ينتصر دائما في الأخير، فبدون عنف سينتهي الإنسان كالعديد من الكائنات الحية.
إن هذا السلوك إذن، هو معطى إنساني، والمطلوب هو تدخل الثقافة لترويضه وعقلنته، ولعل دليل ذلك أن الإنسان لا يمارس العنف ضد الآخر فقط، بل يمارسه ضد نفسه أيضا، ويتجلى ذلك في وجود ظاهرة الانتحار مثلا أو إقدام الأشخاص على تحطيم ذواتهم عبر المخدرات أو نزوعهم إلى باقي الأشكال المازوشية.
فالثقافة مشتقة من فعل ثقف الشيء أي سيجه وضبطه، فهي إذن وسلية تعلم الإنسان العنيف بطبعه أن يكون متسامحا ومتعايشا، ومن بين أهم أسباب ولادة العنف عندي رغبة الإنسان المستمرة في جعل الآخر صورة مطابقة له ولتمثلاته ولأفكاره.
كيف تقيم دور المثقف المغربي اليوم في مواجهة التطرف وإشاعة ثقافة التسامح؟
لا شك أن المجتمعات تعبر عن نفسها من خلال النخبة المثقفة، فهي الأداة التي يمتلكها المجتمع لقول رأيه في القضايا المطروحة، ولهذا الفاعل دور كبير في تسييج العنف ومحاربة التطرف، هذا الدور يتأتى من كون المثقف يملك القدرة على الكلمة في مجتمع صامت لم تستطع تعبيراته الشعبية أن تواكب التحديات التي تفرضها أزمنة الحداثة، إنه صوت المجتمع، كلما كان قويا جريئا وعميقا كلما رأى المجتمع نفسه فيه، والمثقف المغربي ككل مثقفي العالم مطالب اليوم بتسجيل موقفه إزاء التحديات التي تعتري مجتمعه.
حين نكتب لا نكتب حسنات مجتمع معين لكنا نكتب المساوئ غالبا، لذا ركزت على هذا الجانب العنيف الذي نرى بعض مظاهره حتى في أبسط نقاش يمكن أن يدور بين متحدثين
للأسف اليوم نرى وجود إكراهات وصعوبات كثيرة تعرقل قيام المثقف بدوره كغياب فضاءات للنقاش العام في المغرب، وعدم منحه الكلمة وتحاشي الانصات له، حتى الجرائد التي كان يعبر عبرها المثقف عن رأيه باتت محدودة المقروئية، أضف إلى ذلك وسائل التواصل الاجتماعي التي اختلط فيها الحابل بالنابل وساهمت في جعل صوت المثقف خافتا وساوته بكثير ممن لم يقرؤوا كتابا واحدا في حياتهم.
هل ترى أي علاقة بين التطرف والتنشئة الدينية في المغرب؟
منابع التطرف ليست دينية فقط في نظري، فلا يجب أن نحمل الدين كل المسؤولية، طبعا الدين أمر مهم داخل المجتمعات، لذا يجب الانتباه إلى أن نظرة التعالي واعتقاد الحق المطلق ينتجان التطرف والعدوانية.
أعتقد أن عهد الفتوحات انتهى وانتهى معها فرض المعتقدات على الناس بالترهيب والعنف، فكل ما يمكن أن يفرزه مجتمع معين مطالب باحترام حق الاختلاف والتعدد والدين هو القيام بإصلاح جذري في المنظومة الدينية، ولحسن الحظ نجد داخل الدين الإسلامي مبادئ كثيرة تكرس احترام معتقد الآخر وتؤسس لثقافة القبول بالاختلاف.
ساءلت في روايتك "المغاربة" الذاكرة الجريحة والمعطوبة، هل يمكن القول إن تاريخ المغاربة موسوم بالعنف والقسوة؟
تاريخ المغرب كتاريخ العديد من الدول العريقة التي ارتفع فيها منسوب العنف بشكل كبير في فترة من الفترات، إذ كانت القبائل تحارب بعضها وعلاقتها مبنية على الإخضاع، كما وسمت علاقتها بالعنف، في مقابل ذلك كانت الدولة في معظم عمرها تفرض سلطتها بالإكراه والقوة، ولم تكن تبني سياستها على تنمية مجالية أو على تقديم خيار التساكن كخيار مربح لجميع المغاربة، وعيا بكون خيار الصراع خسارة للجميع.
الحصول على ديمقراطية حقيقية رهين بتوفر قاعدة اقتصادية قوية وعدالة اجتماعية، فمن يبيع صوته بمبلغ زهيد لا يمكن أن يعول عليه في بناء صرح ديمقراطي حقيقي
حين نكتب لا نكتب حسنات مجتمع معين لكنا نكتب المساوئ غالبا، لذا ركزت على هذا الجانب العنيف الذي نرى بعض مظاهره حتى في أبسط نقاش يمكن أن يدور بين متحدثين، فأحيانا نجنح إلى العنف اللفظي دون مبرر، وفي رأيي وجب تفهم أسباب تولد هذا العنف، في جميع الأحوال وكي لا نعيد التاريخ، ينبغي أن نفهمه ونتحدث عنه بكل وضوح وجرأة، لأننا حين نخرج التاريخ إلى النور نمنعه أن يعيد نفسه.
تحدثتم في غيرما مناسبة عن عدم اكتمال نضج الديمقراطية المغربية، لماذا؟
لأن الحصول على ديمقراطية حقيقية رهين بتوفر قاعدة اقتصادية قوية وعدالة اجتماعية، فمن يبيع صوته بمبلغ زهيد لا يمكن أن يعول عليه في بناء صرح ديمقراطي حقيقي، الأمر يتطلب قاعدة جماهيرية من المواطنين الواعين المتعففين عن الفتات، كما يلزم أيضا فئة متعلمة تمارس السياسة بوعي وحاملة لهم وطنها!
شخصيا أرى أن ديمقراطيتنا لم تنضج بعد، وحتى الأشواط التي قطعتها تجعل منها من المنظور الزمني ديمقراطية فتية، تحتاج بناءها بتراكم إيجابي لا بالخسارات والخيبات، والديمقراطية المغربية في نظري ستكبر بأحزاب قوية وبمجتمع مدني متراص وبمحاربة الفساد وكذا بإقرار مساواة حقيقية وعدالة اجتماعية ومجالية وببناء مواطن مغربي حقيقي.
ما السبيل في نظركم، لبلوغ مجتمع ديمقراطي تسوده القيم المثلى؟
يمكن أن نتفق حول انعدام وجود مدينة فاضلة، لكن بالإمكان تأسيس مجتمع يحترم الأفراد ويبنى على قيام الأفراد بالواجبات واحترام الحقوق، فبدون تحقيق مبدإ العدالة باعتبارها سلطة فوق كل السلط لا يمكن بناء مجتمع ديمقراطي.
ثانياً أضع شرطا لتحقيق ما ورد في تساؤلك سياسة قائمة على التوزيع العادل للثروات، فلا يمكن بناء مجتمع تسوده القيم الإيجابية وفئة ضيقة تحتكر ثروات البلد لأن ذلك هو صمام الأمان الحائل دون دخول الوطن في متاهات لا آخر لها.
ثالثا بناء تعليم قوي، قادر على زرع القيم النبيلة في نفوس الأجيال، إنه أيضا من الركائز الأساسية للحصول على مجتمع راق، ذلك أني مؤمن بفكرة بناء المجتمعات وتحديد قيمها داخل المدرسة، في مقابل ذلك ومع كامل الأسف نرى اليوم أن من بين الأشياء التي تثبط سير المغرب هو الحال الذي بلغه قطاع التعليم الذي يفترض أن يكون مشروعا مجتمعيا ومسؤولية يتحملها الجميع.
إذن، فالاشتغال على تلك الرهانات الثلاثة من شأنه إفراز مجتمع جيد وبيده أيضا جعل الديمقراطية المغربية بخير، غير أني أشير هنا إلى كون الديمقراطية ليست جنة أو خلاصا، فقد تكون أحيانا وبالا على الشعوب إذا توفرت شروطها، لكنها مجرد وسيلة من بين الوسائل التي تمتلكها المجتمعات قصد تطوير نفسها.