كشف الوكيل العام للملك، رئيس النيابة العامة، الحسن الداكي، بمناسبة الندوة الدولية المنظمة حول موضوع: "العقوبات البديلة للعقوبات السالبة للحرية وعدالة الأحداث"، المنظمة بالرباط، من 28 إلى 30 يونيو، بشراكة مع جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، وبدعم من منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف"، أن اللجوء العام إلى عقوبة السجن يتصاعد، دون إمكانية البرهنة على أن ذلك ينتج عنه تحسن في مؤشرات الأمن والسكينة العامة، وفقا للدراسات والتقارير الدولية الصادرة عن الهيئات الأممية؛ كمكتب الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة والمخدرات، واللجنة الدولية للعدالة الجنائية والوقاية من الجريمة.
وتابع الداكي أن ملايين السجناء حاليا في العالم يتوزعون ما بين معتقلين احتياطيين ومدانين نهائيين"، لافتا إلى أن الأرقام التي لا زالت تسجل سنويا، ترسم خطا تصاعديا في معظم البلدان؛ كانعكاس مواز للدينامية الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية التي يعرفها عالم اليوم، إلى جانب ارتفاع الكثافة السكانية ومعدلات الجريمة.
وأضاف رئيس النيابة العامة أنه بالنظر إلى آثار السجن الوخيمة عموما، والتي تغرق الدول والأفراد في أعباء مختلفة؛ منها ما هو مادي واقتصادي، ومنها ما هو اجتماعي وأسري، فإن هذه الآثار تكون أكثر شدة، إذا انصب سلب الحرية على "طفل متورط في ارتكاب جرم"، مشيرا إلى أن إصلاح الأحداث ورعاية مصلحتهم الفضلى يقتضي أن يكون تدبير الاعتقال أبعد ما أمكن عن عدالة الأحداث.
ولفت الداكي إلى أن بدائل الاعتقال الاحتياطي والتدابير البديلة للعقوبات السالبة للحرية تحتل اليوم مكانة متميزة في تنفيذ السياسة الجنائية المعاصرة، خاصة وأنها أصبحت محل توافق حقوقي دولي ومطلبا قضائيا عمليا، من شأن إدراجها في التشريعات الوطنية وتفعيلها على الوجه المطلوب أن يسهم في تخفيف وطئ العقوبات الحبسية قصيرة المدة وآثارها السلبية، لا سيما تلك المرتبطة بتفاقم مشكلة الاكتظاظ السجني الذي أضحى ظاهرة عامة تشهدها العديد من النظم العقابية.
وتابع أن حتمية هذا النقاش تزداد عندما يتعلق الأمر بأحداث دون سن المسؤولية؛ حيث تقضي فلسفة عدالة الأحداث اعتبار جميع الأطفال في تماس مع القانون، سواء كانوا ضحايا أو جانحين أو في وضعية صعبة أطفالا محتاجين للحماية، وهم على اختلاف أوضاعهم يعتبرون ضحايا عوامل وظروف شخصية واجتماعية ساقتهم إلى التماس مع القانون، وينبغي لآليات العدالة أن تتقصى مصلحتهم الفضلى عند اختيار التدبير الأنسب لهم.
وأكد أن الإيداع بالمؤسسات وسلب الحرية يجب أن يكون آخر ملاذ يتم اللجوء إليه، مؤكدا أنه على نظم العدالة توخي أنجع السبل لتكييف الإجراء القانوني مع الظروف الخاصة للطفل، والحرص أولا وأخيرا، على إبقائه في كنف أسرته ووسطه الطبيعي.
واعتبر الداكي أن خيار البدائل بالنسبة للأطفال هو أكثر إلحاحا؛ إذ يضعنا أمام رهان تحقيق المصلحة والإصلاح والتأهيل والإدماج، دون اللجوء إلى سلب الحرية، وذلك باعتماد آليات معترف بها دوليا؛ كالعدالة التصالحية، ونظام تحويل العقوبة، وبدائل أخرى أثبتت فعاليتها؛ كالعمل لفائدة المنفعة العامة أو التدابير الرقابية الخاصة بالأحداث.
وقال رئيس النيابة العامة إن موضوع بدائل العقوبات السالبة للحرية بشكل عام، لم يغب عن النقاش الوطني ذي الصلة بإصلاح منظومة العدالة وآلياتها ببلادنا؛ حيث أفضت التشخيصات الدقيقة التي أجريت في عدة محطات كبرى، أبرزها الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، إلى ترسيخ القناعة بتبني إصلاح جذري عميق يستشرف مستقبلا يواكب التوجهات الحديثة للسياسة الجنائية، الرامية في جزء مهم منها إلى تنويع رد الفعل العقابي تجاه الجريمة، من خلال سن خيارات تشريعية بديلة ومتنوعة، تمكن من تفادي وتجاوز سلب الحرية واعتماد تدابير بديلة، سواء قبل المحاكمة أو خلال النطق بالعقوبة أو في مرحلة تنفيذها.
واستشهد الداكي في هذا السياق بما أكده الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، في 20 غشت 2009، الذي حدد المجالات ذات الأسبقية لإصلاح منظومة العدالة، والتي من بينها تحديث المنظومة القانونية، لاسيما ما يتعلق بضمان شروط المحاكمة العادلة وبدائل العقوبات والطرق القضائية البديلة؛ حيث قال: "وهو ما يتطلب نهج سياسة جنائية جديدة، تقوم على مراجعة وملاءمة القانون والمسطرة الجنائية، ومواكبتهما للتطورات، بإحداث مرصد وطني للإجرام، وذلك في تناسق مع مواصلة تأهيل المؤسسات الإصلاحية والسجنية. وبالموازاة مع ذلك، يتعين تطوير الطرق القضائية البديلة؛ كالوساطة والتحكيم والصلح، والأخذ بالعقوبات البديلة، وإعادة النظر في قضاء القرب".
وتابع أنه إذا كان الرهان مطروحا منذ مدة على عاتق الهيئات القضائية في مجال تقييم مدى تفعيلها لبدائل التدابير السالبة للحرية المتاحة قانونا، فإن التسليم بهذا المعطى لا ينبغي أن يحجب حاجة كل الدول، ومنها المملكة المغربية، إلى إطار تشريعي متكامل يعزز صلاحيات أجهزة العدالة الجنائية، عبر تنويع التدابير البديلة وتوسيع هامش تطبيقها، حتى نتمكن من بلوغ الأهداف العامة المرجوة بقدر كبير من الفعالية.
وأشاد بمشروع قانون العقوبات البديلة الذي أحاله وزير العدل على مكونات السلطة القضائية، في إطار تعزيز التعاون والتنسيق بين سلطات الدولة، قصد إثراء النقاش بشأنه، قبل تقديمه للمسطرة التشريعية، وهو مشروع طموح يروم تحديث الترسانة التشريعية الوطنية بغية ملاءمتها مع المعايير المعتمدة دوليا، وتعزيز عمل السلطات القضائية ومؤسسات العدالة الجنائية لتحقيق مكافحة ناجعة لأنواع محددة من السلوك الإجرامي، وفق مقاربات مندمجة ومتكاملة.
واعتبر الداكي أنه من شأن اعتماد هذا المشروع أن يوفر بدائل للعقوبات السالبة للحرية في مرحلة النطق بالحكم، وهو ما سيتيح للهيئات القضائية هامشا أرحبا في تقدير مدى إعمال العقوبة الحبسية من عدمه، بحسب ظروف القضية وملابساتها، كما سيشكل دعما إضافيا للجهود التي تبذلها اليوم النيابات العامة وقضاة التحقيق من أجل ترشيد الاعتقال الاحتياطي".
كما لفت إلى أنه سبق لرئاسة النيابة العامة في تقاريرها السنوية، الصادرة منذ سنة 2017، أن دعت إلى التعجيل باعتماد العقوبات البديلة، خاصة الخيارات المطروحة حاليا، والتي تشمل العمل لأجل المنفعة العامة والغرامات اليومية والمراقبة الإلكترونية وتقييد بعض الحقوق والحريات، والتي ستكون بداية حسنة لانطلاق ورش تنفيذ العقوبات البديلة بحقل العدالة الجنائية على المستوى الوطني.