بالعودة إلى المراحل الجنسية الثلاث التي تحدث عنها في الجزء الأول من هذا الحوار، كيف يمكن أن نبسط للقارئ أنالمجتمع المغربي على أعتاب الدخول في المرحلة الجنسية الثالثة؟
السلوكات الجنسية اليومية.
*مثلاً؟
إقامة علاقات بين الشبان والشابات قبل الزواج. وهذه العلاقات في ظهور متنام وهي في تنامي كمي كذلك، يعني أن القول بانتظار الزواج لممارسة الجنس أصبح قولاً غير واقعي.
اليوم لا يمكن أن تقول للشاب أو الشابة لا تمارس الجنس حتى تتزوج، وكما نعلم سن البلوغ ما بين 12 و14 سنة، ومتوسط معدل الزواج في المغرب بالنسبة للفتاة هو 26 سنة وبالنسبة للشاب هو 32 سنة، يعني لا يمكن أن نطلب منهم الصوم عن المتعة الجنسية لمدة طويلة.
هذا الطلب أصبح صعباً بل مستحيلا. إذن هذه السلوكات الجنسية أصبحت متنامية كما قلت في السابق، الفرق بين سن أول علاقة جنسية وأول دخول في الزواج هناك فرق شاسع، وحسب دراسات قمنا بها، أول علاقة جنسية يمارسها الشباب والشابات اليوم تكون في سن 16 و17 سنة، وهذا المعطى مؤكد.
الحضور الكثيف للسلوكات الجنسية قبل الزواج وخارجها والمثلية كلها في الظهور والتنامي، وهذا السلوك سوف يصبح تدريجيا مصدراً لمعايير جنسية جديدة، وسوف يفرض نفسه كقيمة ومرجع، وكما نعلم المعايير لا تنزل من فوق بل تنشأ من داخل المجتمع، بل كلما كان سولك ما ساري المفعول ومعمما يصبح عاديا ومطبعا.
وأنا أرى أن المرحلة الثالثة دخلنها من حيث الفعل الجنسي، لكننا لا نعترف بها، ولازلنا نستمر في القول بأننا خاضعين للمعايير الدينية.
*هل يمكن أن نقول أننا نعيش "تحرراً حنسياً غير معلن"؟
بالطبع. ويمكن وصفه "لبررة" (الليبرالية) جنسية، والدولة مساهمة فيها طبعاً لأغراض معينة.
*(مقاطعاً) هنا الإشكال. الدولة مساهمة في هذا التحول واقعياً، الدليل على ذلك أصبحنا نسمع تصريحات من مسؤولين محسوبين على الصف "الإسلامي" ينادون بعدم معاقبة من يقيمون علاقات جنسية خارج إطار الزواج إن أغلقوا عليهم أبواب بيوتهم، لكن في الوقت ذات القوانين جامدة وتحتفظ بعقوبات تشهر من حين إلى آخر في وجه من يخالفها؟
طبعاً، لأن الدولة "حاصلة" بهذا التعبير. القوانين من حيث الشكل تخضع لما ورد في الدستور، وهو أن الإسلام مرجع مثله مثل حقوق الإنسان، والمغاربة لم يصلوا بعد إلى درجة من التربية والوعي لأخذ القيم الجنسية من مصدر آخر غير الإسلام، رغم أنه دستوريا يمكن لنا أن نستلهم من حقوق الإنسان كمرجع، كما قاموا بذلك مع مدونة الأسرة والقانون الجنائي.
ومع ذلك، أرى أن هذا الرهان صعب، لأنه إذا قامت الدولة بإصلاحات في هذا الاتجاه سوف تتهم بأنها "دولة كافرة" ونحن نعرف أن الإسلام أساس شرعية السلطة والملك، لذلك من الصعب القيام بهذا الإصلاح وأن نوقف التعامل بالإسلام كمرجع في حقل الجنس وحتى الأسرة، بل أرى أن هذا الأمر يشكل خطراً كبيراً.
*يعني أننا سوف نستمر في العيش داخل مجتمع من حيث السلوكات هناك نوع من "لبررة" الجنس أو "تعقلن" (علمانية) فعلي وقبول لممارسات جنسية، مقابل قوانين جامدة؟
مع الأسف نعم. في هذه المرحلة هناك هوة بين الفعل وبين المعيار والقانون، الفعل الجنسي شيء والقانون شيء آخر.
بعيداً عن مصطلح النفاق المجتمعي وما تطرقنا إليه سابقاً، الرهان العلمي للنظرية التي أسست لها، تفكك هذه التحولات في المجتمع وما سوف تقودنا إليه.
*ألا ترى أنه من الأمور التي تصعب المرور إلى المرحلة الجنسية الثالثة في المغرب هي تفكيك مجموعة من العادات والسلوكات في المجتمع المغربي، خاصة ما يتعلق بالمرأة وحقها في الجنس والاجهاض والمساواة مع الرجل، بل قد تقع رجة إن صح القول.
الرجة واقع وهي حاصلة اليوم في المجتمع المغربي.
*ما أقصده هو الانتقال من الممارسة اليومية المسكوت عنها إلى إعلانها.
الممارسة معلنة لكنها غير متبنات. حتى الاجهاض السري أجده اليوم يمارس بشكل شبه علني. المساواة بين الجنسين أصبحت مبداء دستورياً. والمقاربة الجندرية أصبحت مقاربة مؤسساتية وهذا رهان في طور الإنجاز.
المشكل هو أن انجاز كل هذا يواجه بإرث تاريخي ثقيل، وهذه معركة حاصلة ونخوضها يومياً، وربحها يتطلب وقتاً طويلاً.
ما هو طبيعي وعادي هو أن نصل إلى حرية جنسية، وأن تصبح كل علاقة جنسية رضائية بين راشدين مشروعة، وهذا الاتجاه محتم، لأنه اليوم هناك قناعة عند شرائح واسعة أنه إذا التقى شاب وفتاة وأرادا ممارسة الجنس خارج اطار الزواج دون ازعاج أحد من حقهما.
أو شابة حبلت بشكل غير إرادي واختارت أن تجهض من حقها. كذلك المرأة يجب أن تأخذ نفس حقوق الرجل.
في سياق متصل بما ذكرت، أود أن أشير إلى آخر مقال كتبته ونشر في موقع "مؤمنون بلا حدود"، قلت فيه إن عمل المرأة في البيت نفقة. لأن لا أساس اللامساواة هو أن قوامة الرجال، رغم أن عمل المرأة في البيت قوامة في حد ذاتها، تسقط شعار الفقهاء الذي يقول بـ"الطاعة مقابل الإنفاق"، رغم أن النساء ينفقن من عملهن في البيت ورعايته، وهنا أمام مهمة يقوم بها الطرفين، واحد خارج البيت والآخر داخله.
إذن نحن في اتجاه الانتقال الذي أتحدث عنه، بصعوبة، لكن نتجه إليه حتماً.
*طيلة سنوات بحثك عن هل اشتغلت على سؤال: "لماذا الخوف من الجنس ونقاشه؟"
ليس هناك أي خوف من الجنس .
*لو لم يكن هناك خوف لما استمر الصمت عن نقاشه في البيت والشارع والمدرسة، نحن لازلنا نجيب الأطفال واليافعين حين يسألون عن المواضيع الجنسية بعبارات من قبيل "عيب" و"حشومة" و"حرام"...
أنت تتحدث عن الفعل الجنسي. وللإجابة عن سؤالك بشكل سريع، لا على مستوى الفعل أو الخطاب هناك نوع من الخوف، وبشكل بسيط أرى انطلاقاً من قناعة راسخة أن الأمر مرتبط بالخوف من الحرية.
الحرية هي أساس مجتمع سليم، ونحن لا نريد أن نصل إلى هذا المجتمع، لأنه هناك مصالح ومواقع مرتبطة باستمرار انعدامها.
التحدث عن الجنس بحرية وعن الفعل الجنسي بحرية ضرب لمواقع ومصالح وخوف من الحرية بالضبط (يضحك)، هذا هو الجواب البسيط، لكنه عميق وواضح ودقيق.
المجتمع إذا كان يريد الحرية والمساواة والعدل بالفعل لا يمكن أن يخاف من الجنس ويختبئ وراء الموانع والطابوهات والقمع.
*كل من يحارب نقاش الجنس خوفاً من الحرية يرفعون شعارات من قبيل أن هذا التوجه نحو المرحلة الانتقالية الثالثة ما هو إلى غلاف لـ"الانحلال الأخلاقي" واستراد لسلوكات "دخيلة" على المجتمع المغربي.
رفع شعار الأخلاق في وجه هذا التحول مسألة مهمة جداً يجب توضيحها. الحرية لا تعني انعدام الأخلاق، بل تعني القضاء على أخلاق معينة أبيسية.
إذا قطعنا مع الأخلاق كما يسوق لذلك، لا يعني أننا سوف نعيش في مجتمع منعدم الأخلاق بل سوف ندخل في أخرى جديدة مدنية دون خوف ولا ترهيب ولا قمع، بل عندما أقوم بشيء ما أقوم به عن قناعة، بل حتى عندما أصلي يجب أن أقوم بذلك على أساس الاقتناع وليس الخوف من عقاب، ونفس الشيء بالنسبة للممارسة الجنسية خارج إطار الزواج، وأقول أنني لن أمارس الجنس إلا بعد إبرام عقد وفاء متبادل في إطار أخلاق مدنية.
لا يمكن أن نستمر في قول "الأخلاق هكذا بوحدها"، يجب أن نضيف لها أنها أخلاق أبيسية دينية أو أخلاق مدنية تقوم على الضمير.
أعطيك مثالاً بسيطاً. في العلاقات الجنسية السائدة اليوم في المغرب بين الشباب، يقولون إنه إذا دخلنا فيها خارج إطار الزواج فإننا دخلنا اللاأخلاق، وبالتالي لماذا سوف أنتبه للأخلاق في ممارسة جنسية نراها كذلك ونستعمل العازل الجنسي الذي يعتبر سلوكا صحياً أخلاقياً كي لا أؤذي الآخر.
في الدول المدنية، العلاقة الجنسية خارج اطار الزواج فيها احترام دائم للأخلاق ووفاء متبادل وحفاظ على صحة الآخر، لأنه هناك حضور للضمير.
لهذا يجب أن نقول لمن يرفع شعار الأخلاق أن الحرية لا تعني الخروج من دائرتها، بل فقط تخلي عن نوع من الأخلاق بمنظورهم هم. ومن يقولون بمثل هذه الأخلاق نتابع أنهم يمارسون نفس السلوكات وينافقون أنفسهم.