في خضم التحديات الاقتصادية الراهنة والتحولات الجيوستراتيجية التي تعيد تشكيل أولويات الشراكات الإقليمية والدولية، كشف عمر حجيرة، كاتب الدولة لدى وزير الصناعة والتجارة مكلف بالتجارة الخارجية، يوم أمس الاثنين، بمجلس النواب، عن ملامح تحول جوهري في السياسة التجارية للمملكة، يمتد من مراجعة عميقة لاتفاقيات التبادل الحر، إلى تصحيح اختلالات حادة في العلاقات التجارية مع مصر، مرورا ببناء شراكة استراتيجية من الجيل الجديد مع موريتانيا.
وفي هذا السياق، يتضح أن المغرب لم يعد ينظر إلى اتفاقياته الاقتصادية بوصفها التزامات نهائية، بل أصبح يتعامل معها كأدوات قابلة للتعديل، تُخضع للمراجعة متى أخلّت بمبدأ الإنصاف المتبادل.
خلل تجاري صارخ مع مصر
وبلهجة صريحة غير معتادة، كشف حجيرة أن المبادلات التجارية بين المغرب ومصر تشهد اختلالا بنيويا بلغ مستوى مثيرا للقلق. فبينما كانت الصادرات المغربية نحو السوق المصرية تبلغ حوالي 2.6 مليار درهم، سنة 2016، هوت إلى 755 مليون درهم فقط، بحلول سنة 2024.
في المقابل، ارتفعت واردات المغرب من مصر، بشكل لافت، من 4 مليارات درهم إلى 12.5 مليار درهم، خلال الفترة نفسها، وهو ما أدى إلى تدهور نسبة تغطية الواردات بالصادرات من 66 في المائة إلى 6 في المائة فقط.
وسجل الوزير أن هذا التراجع الحاد كشف عن هشاشة واضحة في هيكلة العلاقات التجارية الثنائية، وعن غياب شروط المعاملة بالمثل التي من المفترض أن تُبنى عليها اتفاقيات التبادل الحر، وهو ما لا يعتبر استعراضا إحصائيا، بل دعوة صريحة لإعادة تقييم العلاقة الاقتصادية مع الجانب المصري على أسس جديدة تضع المصلحة المغربية في المقدمة.
من التزامات ثابتة إلى آليات مرنة
وانطلاقا من هذا الخلل، أعلنت الحكومة، على لسان حجيرة، عن شروعها في مراجعة معمقة لمجمل الاتفاقيات التجارية التي تجمع المغرب بدول المنطقة، وفي مقدمتها مصر. وتهدف المراجعة، التي تشمل اتفاقية التبادل الحر الثنائية، واتفاقية أكادير، ومنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، والاتفاق القاري الإفريقي (ZLECAF)، إلى تحديد المكاسب الحقيقية والانعكاسات السلبية لهذه الاتفاقيات، لا على الورق، بل من خلال تقييم أثرها الواقعي على النسيج الصناعي الوطني، وميزان المدفوعات، وقدرة المقاولات المغربية على النفاذ إلى الأسواق الخارجية.
وأبرز المسؤول الحكومي أن الوزارة بصدد إرساء آليات لتوطين الصادرات المغربية، وزيادة قدرة الإنتاج المحلي على اختراق الأسواق بشروط عادلة، مع تعزيز الحماية من ممارسات الإغراق والاستيراد غير المنصف.
"Fast Track".. الاختبار الجديد مع القاهرة
وفي خطوة عملية لتدارك الخلل، أعلن حجيرة عن إطلاق "مسار سريع" لتسهيل ولوج المنتجات المغربية إلى السوق المصرية، تحت مسمى "Fast Track"، وهو آلية إجرائية ولوجستيّة تهدف إلى تقليص العراقيل الإدارية والتقنية أمام الصادرات المغربية.
كما كشف عن اتفاق تم التوصل إليه، مؤخرا، مع الجانب المصري، يهم قطاع السيارات، وهو أحد أبرز مصادر القيمة المضافة الصناعية في المغرب.
ويقضي الاتفاق برفع عدد السيارات المغربية التي تدخل السوق المصرية من 400 وحدة سنويا إلى 3000 وحدة، سنة 2025، مع هدف لبلوغ 5000 وحدة، نهاية السنة، ثم 8000 وحدة، سنة 2026.
وتجدر الإشارة إلى أن القاهرة لم تصدر، إلى حدود الساعة، أي رد رسمي بشأن تفاصيل هذه المبادرة الجديدة، غير أن مسؤولين مصريين سبق أن أبدوا التزامهم، في مناسبات متعددة، بتعزيز التعاون الاقتصادي مع الرباط، دون أن يترجم ذلك في السابق إلى إجراءات ملموسة لمعالجة اختلال الميزان التجاري.
اتفاقية متقدمة مع موريتانيا
وفي سياق مختلف، أعلن الوزير عن انطلاق مشاورات مع الجانب الموريتاني للتوصل إلى اتفاقية تجارية وجمركية جديدة، توصف بكونها من "الجيل الجديد"، من حيث منهجها القائم على تشارك السياسات، ومرونة التدابير، وربط التجارة بالإنتاج المحلي بدلا من مجرد التبادل السلعي.
وبحسب المصدر نفسه، تهدف هذه الاتفاقية إلى تسهيل عبور السلع والخدمات بين البلدين، وتقديم دعم لوجستي وتقني لرجال الأعمال الموريتانيين لتوسيع حضورهم في السوق المغربية. كما تشمل المفاوضات ملفات حيوية؛ مثل التبادل في قطاع الصيد البحري، وتجارة المنتجات الزراعية والمواد الأولية، والنقل البري عبر معبر الكركرات، الذي يشكل شريانا استراتيجيا يربط المغرب بعمقه الإفريقي.
وأوضح حجيرة أن الرباط تسعى، من خلال هذه الاتفاقية، إلى خلق علاقة تجارية متوازنة مع نواكشوط، تعزز التكامل الاقتصادي الإقليمي، وتفتح آفاقا جديدة أمام الفاعلين الاقتصاديين من الجانبين، على عكس نماذج "التبادل غير المتكافئ" التي تطبع علاقات أخرى في المحيط العربي والإفريقي.
دروس التجربة
ويُعد التحول المغربي نحو مراجعة اتفاقيات التبادل الحر نتيجة مباشرة لتجارب سابقة أثبتت محدودية "الانفتاح غير المشروط". ففي العقدين الأخيرين، خاضت الرباط تجارب متعددة؛ كاتفاقية التجارة الحرة مع تركيا، أظهرت أن غياب آليات الرقابة والمراجعة الدورية يمكن أن يفضي إلى نتائج كارثية على الاقتصاد الوطني، بدءا من عجز الميزان التجاري، مرورا بإغلاق وحدات صناعية، وانتهاء بتقويض السيادة الإنتاجية.
واليوم، تُظهر أرقام الوزير أن المغرب بصدد تبني نهج جديد في مقاربة الاتفاقيات التجارية، يوازن بين الانفتاح والاستقلالية، ويمنح الأولوية للمصلحة الوطنية، دون الانجرار وراء شعارات السوق الحرة إن لم تكن عادلة.
وليست تصريحات حجيرة، أمام مجلس النواب، مجرد تأكيد لواقع مختلّ، بل تشي بتحول نوعي في فلسفة المغرب التجارية. ففي عالم يعاد فيه رسم خرائط التحالفات الاقتصادية وفق منطق المصالح، تسعى الرباط، اليوم، إلى تجاوز عقلية الانخراط الأعمى في التكتلات، واعتماد مبدأ السيادة المتوازنة في الشراكات التجارية.
وإذا ما تُرجمت هذه التصريحات إلى سياسات فعلية، فإن المملكة مقبلة على مرحلة جديدة من التمكين التجاري، تعيد فيها رسم بوصلتها الاقتصادية وفق شروطها، لا وفق إملاءات خارجية، ولو كانت مغلّفة باسم "التبادل الحر".