غاب عن مشروع قانون المالية للعام المقبل البعد السياسي وطغى هاجس الحفاظ على التوازنات المالية، في ظل عدم الشروع في تفعيل الإصلاح الجبائي والامتثال في بعض التدابير لضرورات أملتها الظرفية، بينما اختزل الجانب الاجتماعي في الدعم الزيادة في أجور الموظفين التي كانت ثمرة حوار اجتماعي، وهي الزيادة التي قد يمحوها التضخم المتراكم على مدى ثمانية أعوام. تلك أهم ملاحظات محمد الرهج، أستاذ المالية العمومية والخبير الجبائ في هذا الحوار.
هل حدث تغيير في مقاربة الحكومة لمشروع قانون المالية للعام المقبل؟
عندما ننظر إلى مشروع قانون مالية العام المقبل، نلاحظ أنه بقي حبيس التوازنات الماكرواقتصادية.هناك شبه كبير بين هذا المشروع وما سبقه، حيث يمكنك حذف اسم وزير الاقتصاد والمالية الذي وضعه وسنة سريانه كي تخلص إلى أنك توجد بإزاء نفس قوانين المالية منذ سنوات.
لقد كنا ننتظر أن يفعل ما اتفق عليه في مناظرة الجباية التي عقدت في ماي الماضي بالصخيرات، غير أننا نصاب بخيبة كبيرة عندما نقرأ مشروع قانون المالية، فلا إشارة إلى ما يمكن أن يشي بالبدء في الإصلاح الذي يفترض أن يكرس مبادئ من قبيل توسيع الوعاء وتحقيق هدف الإنصاف.
ونحن نرى أن مشروع قانون المالية لم يأت بأية إضافة، فقد اختفى منه البعد السياسي وطغى عليه الطابع التقني، حيث وضعه خبراء وزارة الاقتصاد والمالية، بهدف الحفاظ على التوازنات الماكرواقتصادية. نحن لا نرى أن الحكومة حاضرة في ذلك المشروع.
لكن هناك بعض الإجراءات التي ضمنت في مشروع قانون المالية والتي كانت من توصيات المناظرة؟
الإجراء الأبرز على هذا المستوى يتمثل في إعادة النظر في النظام التفضيلي الذي يسري على الشركات المكتسبة لصفة "القطب المالي للدار البيضاء" وعلى الشركات التي تزاول نشاطها بالمناطق الحرة للتصدير، حيث سيجري تطبيق سعر موحد للضربية على الشركات بنسبة 15 في المائة، غير أن هذا الإجراء لم يكن بقرار حكومي، بل جاء بطلب من الاتحاد الأوروبي، الذي كان يلوح بضم المغرب إلى اللائحة السوداء.
زد على ذلك، التدبيرين اللذين ضمنا في مشروع قانون المالية، بعد ملاحظة والي بنك المغرب،عبد اللطيف الجواهري حول تراجع وتيرة الودائع في البنوك، حيث اتخذ قرار أول خاص بالأشخاص الذاتيين الذي يسوون وضعيتهم الضريبة بطريقة طوعية، حيث يتم إعفاؤهم من الفحص الجبائي المتعلق بتقييم مجموع دخولهم، وذلك مقابل أداء مساهمة إبرائية بنسبة 5 في المائة من مبلغ الموجودات المودعة لدى مؤسسات الائتمان، كما اتخذ قرار ثاني يقضي باعتماد عملية التسوية التلقائية للممتلكات والأموال المنشأة بالخارج مقابل مساهمة إبرائية تفضي إلى إعفاء الأشخاص المعنيين من الغرامات الناجمة عن مخالفة قانون الصرف. هذان قراران جاءا بإيحاء من تصريحات والي بنك المغرب حول الودائع و شيوع التعامل بـ"الكاش".
كما أن صندوق دعم المقاولات الصغرى، الذي سيخصص له ستة ملايير درهم على مدى ثلاثة أعوام، جاء بطلب من الملك محمد السادس في خطاب افتتاح الدورة البرلمانية الحالية، حيث توالت الاجتماعات مباشرة بعد الخطاب من أجل تسهيل تمويل المقاولات الصغرى والشباب من حاملي المشاريع.
غير أن وزير الاقتصاد والمالية،محمد بنشعبون أكد على أن هذين الإجراءين، يندرجان ضمن هاجس بث الثقة؟
العفو الجبائي الذي قررته الحكومة والموعود به مغاربة يتوفرون على ودائع خارج المملكة أو أموال سائلة داخله غير مودعة في البنوك، والذي جاء به مشروع قانون المالية غبر مبرر، فالإدارة الجبائية تتوفر على جميع المعطيات حول من يتوفرون على ودائع خارج المملكة أو يتوفرون على أموال غير مصرح بها داخلها.
وعندما تتحدث عن الثقة فأنت تسعى إلى تبرير القرار، بعدما تجلى أن مغاربة يخافون من الإدارة الجبائية، وأضحوا يحوزون "الكاش"، الذي يبقى بعيدا عن البنوك.
وهذا التدبير الخاص بالعفو الجبائي، يهم التجار وأصحاب المهن الحرة، فمادام القانون يمنح للإدارة الجبائية الحق في الحجز على أموال مدرجة ضمن دين مستحق للدولة، يفضل البعض الإفلات من هذا التدبير وسحب أموالهم.
وأنت ترى أن والي بنك المغرب أبدى انشغاله من تراجع الودائع لدى الأبناك، في مقابل ارتفاع حجم "الكاش"، ما فرض اتخاذ التدبير الجديد القاضي بإيداع الأموال في البنوك مع أداء مساهمة إبرائية في حدود 5 في المائة وعفا الله عما سلف.
هذا عفو جبائي تستفيد منه فئات دون أخرى، بينما يأتي المدير الجديد للضرائب كي يتحدث عن الغش الجبائي ويتكلم عن شطط من قبل الإدارة في التعامل مع الملزمين. وهذا منطق غريب خاصة عندما يمنح عفو للتجار وأصحاب المهن الحرة.
تتحدثون عن توصيات مناظرة الجباية، ألا يشكل خفض الضريبة على الشركات الصناعية شروعا في تفعيل تلك التوصيات كما يؤكد وزير الاقتصاد والمالية؟
صحيح أنه تقرر خفض الضريبة على الشركات الصناعية التي تحقق ربحا يقل عن 100 مليون درهم، سعر ضريبة في حدود 28 في المائة عوض السعر العام المحدد في 31 في المائة. هذه توصية بسيطة جاءت في المناظرة، علما أن ما عبر عنه خلال ذلك الحدث يتمثل في خفض تلك الضريبة إلى 20 في المائة، بينما يطالب الاتحاد العام لمقاولات بتعميم سعر 28 في المائة على جميع القطاعات.
لا يجب أن تقدم بعض التدابير مثل تلك التي يفرضها الاتحاد الأوروبي، أو بعض التغييرات التقنية مثل تلك التي طالت الضريبة على القيمة المضافة الخاصة بالسيارات الاقتصادية، كي تقدمها على أنها بداية إصلاح الضريبة، علما أن مشروع قانون المالية لم يأت بتغييرات جوهرية في ما يتصل بالضريبة على القيمة المضافة والضريبة على الدخل، لأن الموظفين والأجراء لا يتوفرون على جماعات ضغط للدفاع عن مصالحهم.
تتحدث الحكومة عن نفقات الدعم والزيادة في أجور الموظفين باعتبارها مؤشرا على البعد الاجتماعي الذي تريد أن تسم به مشروع قانون المالية، بينما يتحدث وزير الاقتصاد والمالية عن الدستور الذي يكرس مبدأ التوازنات الماكرواقتصادية عندما سئل حول ما يمكن أن يلمس من ضعف في الاهتمام بالجانب الاجتماعي؟
إذا كان يتحدث عن الزيادة في أجور الموظفين باعتبارها تؤشر على البعد الاجتماعي في مشروع قانون المالية، فإنه يجب استحضار أن تلك الزيادة التي جاءت بعد مفاوضات طويلة مع النقابات، هي حق مكتسب لا محيد عن تضمينه في المشروع.
وعندما يتحدثون عن الزيادات الأخيرة في أجور الموظفين والتعويضات العائلية والزيادة في الحد الأدنى للأجور، فإنه يجب استحضار أن الأجور لم ترتفع منذ ثمانية أعوام، وبالتالي تراكم التضخم على مدى هذه السنوات، ما أفضى إلى تآكل القدرة الشرائية للمواطنين.
لاحظ أنه تم خفض دعم السكر وغاز البوتان والدقيق من 17 مليار درهم إلى 14 مليار درهم، فهل تسعى الحكومة إلى الشروع في إعادة النظر في الدعم رغم تأكيد وزير الاقتصاد والمالية على الحفاظ على سعر قنينة الغاز في حدود 40 درهم؟
إنهم يتحدثون عن التوازنات المالية عندما يتعلق الأمر بالنفقات الاجتماعية، بينما لا يثار ذلك الهاجس عندما يتعلق الأمر بالنفقات ذات الصلة بالأمن الذي خص عبر وزارتي الداخلية والدفاع الوطني بأكبر عدد من المناصب المالية والاعتمادات المالية. صحيح أن الأمن والطمأنينة مهمان، غير أنه يجب إيلاء القطاعات الأخرى نفس الاهتمام.
ماذا عن عدد الوظائف المحدثة في مشروع قانون مالية العام المقبل؟
لاحظ أن عدد المناصب المالية المتوقعة في مشروع قانون المالية سيتراجع إلى 23 ألف منصب، بعدما برمج في العام الحالي 25 ألف منصب شغل، علما أنه إذا حذفنا مناصب 9888 موظف سيحالون على التقاعد، فإن صافي المناصب سيكون في حدود 13 ألف منصب.
قد تحتج الحكومة بإحداث 15 ألف منصب شغل في إطار التعاقد، غير أن عدد المناصب المحدثة لا يسمن ولا يغني من جوع، مادام 350 ألف شاب يصلون إلى سوق الشغل سنويا بالمغرب.