الشعبويّة.. عندما تبحث المجتمعات عن الخلاص

تيل كيل عربي

كمال القصير - مفكّر مغربي

في تعريف الشعبويّة كلام كثير، لكني أكتفي بالقول إنها مرحلة فراغ وتيه اجتماعي ينتج عنها بروز قيادة سياسية تتجاوز قواعد الديمقراطية والمؤسسات، وتعمل على تجريف السياسة كمفهوم وممارسة. وعندما تصاب المجتمعات بالمرض، تعتل السياسة والسياسيون.

الحلول للأزمات الخانقة

يقول الشعبويّ: "سأعطيك البركة عوض تحسين حياتك المعيشية"، أو"سأحارب الفساد بأنواعه". وهنا ينبغي للعلم أنه لا يمتلك برنامجا أو خططا بديلة، ولا حتى البركة. هكذا إذن يتحدث السياسي الشعبوي العربي مخاطبا الناس، الذين يطالبون بالحلول لأزماتهم الخانقة.

معاداة التعددية سمة بارزة في الشخصية الشعبويّة، والإعلام سبب رئيسي في صناعة الشعبويّين. وفي إحدى حملات الرئيس السابق، دونالد ترامب، أعلن عن شعار: "سوف نجعل أمريكا أعظم"، وحين طُرحت عليه بعض الأسئلة المتعلقة بمخططاته، أجاب: "نحن ليس لدينا وقت للتفاصيل".

ولذلك، تجده عدوا كبيرا للصحفيين وأسئلتهم المحرجة. وإذا أردت محاكمة ترامب أمام القضاء، فالأمر يبدو من وجهة نظره محاكمة للشعب؛ لأنه يمثله في قناعته. والشعبويّون يقدمون أجوبة مختصرة جدا عن الأزمات، وهي تتلاءم مع الحالة النفسية العامة المختنقة، التي سئمت بطء الإنجاز السياسي والاقتصادي.

وجه غرابة الشعبويّة أنها، في كثير من الأحيان، تأتي بعد مرحلة ثورة عاقلة، بإرادة مجتمعية حرة وتضحيات كبيرة، ومنطق سليم رافض لفساد الأوضاع، فينقلب كل ذلك إلى حالة تيه عام، يختار فيها الناس أن يصبحوا غير عقلانيين في اختياراتهم السياسية. الشعبويّة ليست فقط من أعراض مرض الديمقراطية، بل هي من أكبر أعراض اعتلال المجتمعات نفسها، وتشوش إدراكها لما تتطلبه المرحلة في لحظة معينة.

الخلاص والمخلّص: في لحظات الفشل والإحباط، تفقد العملية السياسية جدواها ومصداقيتها في نظر الناس، وتبرز فكرة الخلاص، فتتوّرط المجتمعات في اختيارات راديكالية غير محسوبة، لا رفضا للواقع وأدواته فقط، بل تيها اجتماعيا، وهنا يظهر الشعبويّ المهدي المنتظر. وإذا وقع الناس في فخ الزعيم الشعبويّ، فسوف يقنعهم بلا شك أن رجال الأعمال حتى من الطبقة القديمة الفاسدة، هم أفضل من السياسيين والمناضلين والحقوقيين، الذين لم يلمسهم الفساد المالي والإداري. أما الرئيس الشعبويّ، فهو عاشق للإنجاز والنجاح، لكنه غالبا ما يفشل في تحقيقه.

إن المشكلة الأكبر التي تعقب التحولات والثورات هي أن المجتمعات لا تمتلك القدرة على الصبر طويلا، لإتاحة الفرص أمام الديمقراطيين والإصلاحيين لتجاوز الأزمات. فالناس يبحثون عن النتائج السريعة، ولا يهمهم دائما النزاهة الفردية، إذا ما صاحبها الفشل وبطء فاعلية النخب السياسية. وبهذا المعيار، يمكن تفسير الحالة التونسية. أما الحالة الليبية، فإنها قابلة لنشوء الشعبويّة مستقبلا، بسبب أزمة النخب السياسية المستفحلة.

وأقدم، في هذا السياق، ملاحظة تخص الأنظمة الملكية والوراثية، فهي أقل قابلية لنشوء الشعبويّة، لأن المشروعية أقوى لديها من مجرد الخطاب. وقناعات الناس حيالها مبنية وفق رؤية تاريخية وشرعية سياسية قديمة. أما في الأنظمة الجمهورية، فإن هامش بروز الشعبويّين سيبقى دائما مرتفعا جدا. وعندما يريد أي نظام ملكي التعامل مع المجتمع في لحظات الأزمات، فإن قنوات الاتصال تكون معروفة ومستقرة، كما أن الخطاب يكون أكثر وضوحا.

الحالة العربية

الشعبويّة في الغرب لا تقضي دائما على المؤسسات والسياسة، مثلما هو الحال بالنسبة للتجربة العربية للشعبويّة الوليدة والحديثة. وينبغي ألا نعتقد أن الشعبويّة العربية سوف تكون شبيهة بالحالة الغربية أو تقاس عليها.

إن استعادة مبادرات التغيير بعد انتشار موجة الشعبويّة، سوف يكون في حاجة إلى عامل الزمن. وعندما يثور الناس ويقدمون التضحيات والدماء، فإنهم لا يوصفون كونهم جيدين. وعندما ينسحبون يائسين من السياسيين، وعائدين إلى حياتهم الخاصة، مراهنين على صوت جديد فوق السياسيين الفاشلين، في نظرهم، ولو كلفهم ذلك مزيدا من التحمل والصبر، فلا ينبغي وصفهم كونهم ضحايا نظام التفاهة.

إن وصف الناس كونهم جيدين أو قبيحين لا أهمية له في حركة التاريخ واستعادة المبادرات، فالمجتمعات سوف تفاجئنا دائما بسلوكها غير المتوقع.

الزعيم الشعبويّ ينفرد بالحكم في المجال العربي، لكن رئيسا شعبويّا؛ مثل دونالد ترامب، لا يستطيع أن ينفرد بالحكم ضمن مجال مؤسسي؛ مثل الولايات المتحدة. وهذا يجعل مفهوم الشعبويّة مختلفا في تحديده بين المجالين. والسبب في كون المنطقة العربية لم تعد تنتج الزعامات الشعبويّة مرتبط بأسباب عديدة؛ مثل غياب وتراجع فكرة ودينامية تحدي الغرب، التي كانت تحفز وتنتج شخصيات معارضة للسياسات الغربية في المنطقة، وتحشد الناس حول هذا الأساس.

إن اشتعال الصراع العربي الإسرائيلي، سياسيا وثقافيا وعسكريا، كان سببا أساسيا في بروز قيادات شعبويّة تلتف حولها الجماهير. وهناك أمر أساسي أيضا، وهو أن تراجع بروز قيادات شعبوية دينية أو علمانية عربية، مرتبط بالضعف الذي أصاب الخطاب الإيديولوجي وقدرته على الإقناع. إن أي قائد شعبويّ محتمل في المستقبل سوف يحتاج إلى الإنجازات السياسية والاقتصادية، لا الأيديولوجية والخطابية التي لم تعد مقنعة.

ومن الصعب حاليا أن يمنحك الناس ثقتهم؛ لأنك تسب الغرب والاستكبار العالمي. ولا أظن أن المجتمع الإيراني مثلا يصدق الخطابات اليومية التي توجه ضد الغرب وأمريكا، فقد أصبحت تشبه الاطلاع على الجريدة عند إفطار الصباح الذي يستفتح به الناس يومهم.

إن الأضرار التي يسببها الخطاب الشعبويّ هائلة، خاصة أن السياسي الشعبويّ يستخدم الديمقراطية على طريقة الآخرين نفسها، للوصول إلى نتيجة معاكسة تماما، وهي اجتثات باقي الخصوم السياسيين. والفارق بين الشعبويّة العربية في الستينيات والشعبوية الحالية، هي أن شعبويّة جمال عبد الناصر لم تكن حمقاء، وإن كانت متهورة، في حين هناك شعبويّون في الوقت الحالي ليسوا متهورين ولا محرضين على العالم، لكنهم حمقى حقيقة.

إن نقطة القوة لدى الشعبويّ في كونه مجرد رافض للوضع القائم، وهو يتسرب بين ثنايا لحظة يأس مجتمعي من النخبة السياسية وممارساتها.

الشعبويّ يكره الذكاء السياسي، ويرى نفسه يساريا فوق اليسار، ومتدينا فوق الإسلاميين، وأكثر وطنية من القوميين. إن هزائم وانتكاسات الزعيم الشعبويّ، في نظره، نجاح تام، مادام باقيا في الحكم، ولم تتمكن التحولات والحروب من إزاحته عن كرسيه. والأخطر في شخصية الزعيم الشعبويّ هو أنه يُعدي الناس، فيصبحون يفسرون الأمور على طريقته وأسلوبه. إننا لم نر زعيما شعبويّا في المنطقة تؤاخذه الجماهير، بسبب فساده الاقتصادي والسياسي، وهو يعيد تفسير معايير النجاح والفشل في السياسة والاقتصاد والحرب.

أما في حالة الرئيس أردوغان، فإن توظيفه للخطاب الشعبويّ وتحديه للغرب، في مناسبات عديدة، فيعتبر حالة مقبولة لدى الأتراك وكثير من العرب في المنطقة، لسبب جوهري، وهو الإنجاز الاقتصادي الكبير الذي حققه. فإذا تحدث عن القدس والتاريخ والإسلام، فإن إنجازاته تمنحه المشروعية، وهو أمر لم يُتح للإسلام السياسي العربي. الشعبويّ يرى نفسه فوق الجميع، لأن الشعبويّة حالة نفسية، بالإضافة إلى كونها قناعة سياسية.

لقد كان في تجربة الإسلاميين في مصر، بعد الثورة، جانب من الشعبويّة، عندما كان الناس في عز الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يخلطون الأولويات، وينظمون التظاهرات الضخمة، حول قوافل الشهداء بالملايين لتحرير الأمة. إن المثقف لا يستطيع أن يكشف بسهولة، أو يشير إلى نجاحات في عمليات التغيير في التاريخ قادها زعماء شعبويّون، لكن عددا من الشعبويّين تحولوا إلى فاشلين محبوبين للجماهير.