قال الوكيل العام للملك، رئيس النيابة العامة، مولاي الحسن الداكي، إن "الرفع من مستوى العدالة الجنائية ببلادنا وتجويد آلياتها يعتبر من بين أحد أهم الأهداف التي نسعى إليها جميعا من خلال هذه اللقاءات التواصلية، وهذا ما يعكس الرغبة التي تحدونا جميعا من أجل استعراض وضعية العدالة الجنائية ببلادنا والبحث عن أحسن الأساليب لتجويد الأبحاث الجنائية المرتبطة بها وتطوير آلياتها وتعزيز مرتكزاتها القائمة على تأهيل المكلفين بإنجازها من ضباط الشرطة القضائية والمشرفين عليها من قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق لتحقيق عدالة قوامها الفعالية وجودة الأداء".
وأضاف في كلمته بمناسبة تنظيم سلسلة دورات تكوينية لفائدة المسؤولين القضائيين على النيابات العامة وقضاة التحقيق ومسؤولي الشرطة القضائية، حول موضوع: (العدالة الجنائية وآليات تجويدها بين متطلبات تحقيق النجاعة وتعزيز القيم والأخلاقيات المهنية)، صباح اليوم الأربعاء، أن "الرهان الذي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تثمين وترصيد المكتسبات من جهة، وتشخيص مكامن الضعف وتحديد الإكراهات التي تعترض القائمين عليها والسعي لإيجاد الحلول المناسبة لها من جهة ثانية. هذه الغاية هي التي تجمعنا اليوم في هذا اللقاء التواصلي المهني والذي يشكل فضاء للتفكير الجماعي في شأن كل ما يتصل بمجال العدالة الجنائية".
وتابع: "لا يخفى عليكم أن البحث الجنائي يعد من المداخل الأساسية لإرساء قواعد المحاكمة العادلة التي يشكل وجوب احترمها مبدأً كونيا ودستوريا راسخاً، كما يعد آليةً تمكن الضحايا والمشتكين من بسط تظلماتهم وشكاياتهم تكريساً لتيسير الولوج إلى العدالة باعتباره من الحقوق الدستورية المكفولة للأفراد، وفي هذا الإطار فكلما حرص الشخص المكلف بالبحث الجنائي على حسن استقبال المشتكين والضحايا والتواصل معهم، وكلما سعى إلى احترام الضمانات المخولة للأطراف ومراعاة الشكليات والضوابط الإجرائية الناظمة لإنجاز الأبحاث، كلما ساهم ذلك في تعزيز ضمانات شروط المحاكمة الجنائية وأدى إلى الرفع من منسوب ثقة المتقاضين في عدالتهم".
وأوضح أنه "من هذا المنطلق يقع على عاتق المكلفين بإنجاز الأبحاث الجنائية والمشرفين عليها الحرص على ضمان تمتع المشتبه فيهم بكافة الضمانات التي خولها لهم القانون، من قبيل إشعارهم بالأفعال المنسوبة إليهم، والحق في التزام الصمت، والحق في المساعدة القانونية، والحق في مؤازرة الدفاع، واحترام مدة الوضع في الحراسة النظرية وضوابط تمديدها والاستفادة من التغذية واحترام الكرامة الإنسانية، وما إلى ذلك من الضوابط المؤطرة للبحث الجنائي، على اعتبار أن الإخلال بهذه الحقوق يشكل أساسا للدفوع الشكلية التي قد يثيرها الدفاع أثناء المحاكمة فضلاً عما تشكله من مساس بالضمانات الأساسية لشروط المحاكمة العادلة، وهو ما قد يترتب عنه التصريح ببطلان المحاضر أو الإجراء المعيب، علماً أن هذه الإخلالات قد تكون في بعض الأحيان مدخلا لتقديم تظلمات أو شكايات أمام القضاء الوطني أو بلاغات فردية أمام المؤسسات والهيئات الدولية المعنية بحقوق الانسان مع ما قد ينجم عن ذلك من تداعيات سلبيات على صورة العدالة ببلادنا على الرغم من المجهودات الجبارة التي يتم بذلها في سبيل تكريس حماية الحقوق والحريات وتفعيل شروط المحاكمة العادلة وفق ما ينص عليه دستور المملكة والمواثيق الدولية ذات الصلة بالموضوع".
وأبرز أن "كل هذه الانشغالات تبرر بشكل جلي الأهمية القصوى التي يحظى بها البحث الجنائي باعتباره من المقومات الأساسية للعدالة الجنائية وأحد المؤشرات التي يَرْكَنْ إليها كل متتبع لها ، وهذا ما يقتضي منا جميعاً القيام بعملية تقييم لواقع إنجاز الأبحاث الجنائية تعتمد على تشخيص دقيق لهذا الواقع يمكن من خلاله ترصيد المكتسبات والممارسات الجيدة، و في نفس الوقت رصد الصعوبات التي قد تعيق إنجازها بالشكل المطلوب، ومن دون شك فأنتم من خيرة المسؤولين الساهرين على إنفاذ القانون، لكم من التجارب والممارسة المهنية ما يكفي لبلورة تصورات وأفكار قادرة على إيجاد الحلول للإشكاليات القانونية والواقعية واقتراح الحلول الكفيلة لتجاوزها والرفع من نجاعة عدالتنا".
وشدد على أن "أهمية البحث الجنائي تبرز من خلال الحجية التي أضفاها المشرع المغربي على محاضر الشرطة القضائية لا سيما في الجنح بمقتضى المادة 290 من قانون المسطرة الجنائية، وأمام هذه القيمة القانونية التي أحاط بها المشرع عمل ضابط الشرطة، فإن ذلك يقتضي إبراز دور المحقق الذي ينبغي أن يتمثل في تجميع كافة المعطيات الضرورية للبحث واستخلاص الأدلة المفيدة من مسرح الجريمة بشكل احترافي وإدارة عملية الاستماع لأطراف القضية بمهنية عالية، وأن يعمل على إبراز مجهوده الشخصي في كل ما قام به من إجراءات من أجل إظهار الحقيقة، بما يُمكن من إنجاز محضر قانوني يمكن للعدالة أن تركن إليه كوسيلة إثبات للوقائع المعروضة عليها من جهة، وبالشكل الذي يجعل ذلك المحضر يعكس مستوى المؤهلات العلمية والمهنية التي يتسم بها ضابط الشرطة القضائية الباحث وذلك حتى يتأتى اعتماده من طرف كل ضابط للشرطة قضائية خلال ممارسته لمهامه كمحضر نموذجي يمكن الاستئناس به في الأبحاث التي يقوم بها".
وأورد أنه "أمام ما باتت تعرفه الجريمة من طابع عابر للحدود مستغلة في ذلك الطفرة الهائلة التي عرفها العالم في مجال التكنولوجيا والاتصال والذي أفرز بروز أشكال مستحدثة من الجرائم، فإن ذلك أصبح يقتضي لزاماً تطوير مهارات وقدرات الأشخاص المكلفين بإنجاز الأبحاث الجنائية والمشرفين عليها من خلال اعتمادهم للوسائل العلمية والتكنولوجية الحديثة لفك ألغاز الجريمة وملاحقة المجرمين واعتماد الخبرات التقنية والعلمية بمختلف أشكالها وتقوية مهاراتهم للتعامل مع الأدلة الرقمية وغيرها".
وأشار إلى أن "القضاء المغربي بدوره عرف تحولاً مهماً بخصوص اعتماده على الدليل العلمي في تكوين قناعته كوسيلة إثبات في العديد من الجرائم من بينها على سبيل المثال بعض الجرائم التي قيدها القانون بشكليات معينة كما هو الشأن بالنسبة لجريمة الخيانة الزوجية أو جرائم العرض التي اشترط القانون لإثباتها إما حالة التلبس أو الاعتراف حيث لم يعد مقيداً بهذه الشكليات في ظل التطور التكنولوجي الذي يمكن أن يساعد في إثبات هذا النوع من الجرائم، حيث اعتمد تسجيلات الكاميرات كوسيلة لإثبات الخيانة الزوجية، كما اعتمد أيضا الخبرة الجينية كوسيلة لإثبات جرائم العرض. وهذا ما يقتضي من أجهزة إنفاذ القانون مواكبة التطور العلمي والتكنولوجي والرقمي واكتساب مهارات توظيفه في مجال محاربة الجريمة".
ولفت إلى إن "الرفع من مستوى العدالة الجنائية و تطوير آلياتها لا يتوقف فقط على الرفع من جودة الأبحاث وتحديث آليات وأساليب اشتغالها وتأهيل العاملين بها، فعلى الرغم من أهميتها إلا أنها لا تكفي لوحدها ما لم نستطع كسب ثقة متتبعي العدالة وثقة المتقاضين وأطراف الدعوى في هذه الأبحاث ونرفع من منسوب ثقتهم فيها، ولذلك تعتبر قيم النزاهة والتحلي بالأخلاق المهنية أحد أهم المقومات الأساسية التي يجب أن يتمتع بها العاملون في مجال العدالة، فلا يخفى على حضراتكم أن تخليق الحياة العامة يشكل أحد التوجهات الملكية السامية التي ما فتئ جلالة الملك يؤكد عليها في خطبه السامية".
وذكر أنه "تفعيلاً لهذه التوجهات الملكية السامية بادر المجلس الأعلى للسلطة القضائية إلى وضع مدونة للأخلاقيات القضائية حددت مجموعة من قواعد السلوك التي ينبغي على القضاة إما الالتزام بها أو تفاديها في حياتهم المهنية وسلوكهم الشخصي بما يحافظ على هيبة القضاء وحرمته ويسهم في إذكاء ثقة المواطن في العدالة، وتتقاطع هذه المدونة بخصوص ما تضمنته من مبادئ أخلاقية مع مدونة قواعد السلوك التي وضعتها المديرية العامة للأمن الوطني بالنسبة لموظفي الأمن الوطني وأيضا مع ميثاق الأخلاقيات والسلوك الذي وضعته قيادة الدرك الملكي بالنسبة لمنتسبيها حيث تتقاسم هذه المدونات قواعد للسلوك تنصب في مجملها على قيم أخلاقية ومهنية نبيلة من قبيل النزاهة والتجرد والشرف والحياد التي ينبغي التحلي بها خلال مباشرة المهام المذكورة كل من موقعه".
وأفاد أنه "إذا كانت مدونات وقواعد السلوك تشكل إطاراً مرجعياً لفرض الأخلاقيات المهنية، فإن دور أجهزة الرقابة الإدارية وهيئات التفتيش في هذا المجال يبقى أساسياً ومحورياً للإسهام في فرض احترام وتفعيل هذه القواعد والانضباط لمبادئها دون أن نغفل دور الرقمنة التي أصبحت تشكل في وقتنا الراهن إحدى الآليات المعززة للشفافية والنزاهة، وهو ما يقتضي منا التفكير الجماعي لإيجاد حلول مبتكرة بغية تعزيز الربط المعلوماتي بين مختلف أجهزة العدالة الجنائية والمعنيين بها، والعمل على التسريع من وتيرة رقمنة الخدمات".
واعتبر أن "التشبع بمبادئ النزاهة والشرف وبباقي القيم الأخلاقية يعتبر من بين المداخل التي لا محيد عنها للرفع من منسوب ثقة المتقاضين وتحقيق رضاهم على العدالة، وضمانة من ضمانات تحقيق شروط المحاكمة العادلة، كما أن تعزيز القيم الأخلاقية في الممارسة المهنية يبقى من بين المتطلبات الأساسية لتنزيل خلاصات تقرير النموذج التنموي الجديد بهذا الخصوص، وذلك حتى تتبوأ عدالتنا المكانة التي تستحقها وتكون في مستوى ما يتطلع إليه جلالة الملك محمد السادس".
وأكد أن "تعزيز علاقات التعاون والتنسيق بين المسؤولين عن النيابات العامة وعن مصالح الشرطة القضائية بشكل وثيق ومتواصل وصريح هو الكفيل الأساسي بتفعيل مبادئ هذه القيم والأخلاقيات المهنية سواء من خلال عقد لقاءات تواصلية أو دراسية محلية أو جهوية أو من خلال اعتماد مقاربة تشاركية لمواجهة بوادر كل انحراف أو إخلال قد تبدو معالمه أحياناً".