منذ خطاب العرش، وما ورد فيه من تركيز على التكوين المهني، طرح المغاربة مجموعة من الأسئلة بخصوص مستقبل هذا القطاع: لماذا التركيز عليه في هذا الوقت بالذات؟ و ما مضمون التشخيص الذي قاد إلى تغيير منظومة التكوين المهني؟ وكيف تحول إلى إرادة ملكية ومطالبة الحكومة بوضع خارطة للطريق ممتدة إلى العام 2030؟ وما هي المستجدات التي تحملها هذه الخارطة؟ كيف سيتم تنزيلها؟ ومن هم المكلفون بذلك؟ وهل تحمل بالفعل ما يلبي الحاجيات المستقبلية للباحثين عن ولوج سوق الشغل؟ وما هو حجم تدخل القطاع الخاص فيها؟
أسئلة وأخرى يجيب عنها كاتب الدولة المكلف بالتكوين المهني محمد الغراس، في هذا الحوار مع " تيلكيل عربي".
*منذ خطاب العرش غزت عبارة التكوين المهني مواقع التواصل الاجتماعي وأصبحت حديث المقاهي والفضاءات العمومية. المغاربة يبحثون عن أجوبة لمجموعة من الأسئلة، أولها لماذا هذا الاهتمام اليوم بشكل أكبر بالتكوين المهني وتشديد الملك في أكثر من مناسبة على ضرورة إعادة النظر فيه؟
فعلا، المغرب كله أصبح يهتم بمنظومة التكوين المهني، ويحاول فهم مجموعة من القرارات المرتبطة بهذا القطاع، بعد الإشارات القوية والاهمتام الذي أكد عليه جلالة الملك، لكي يكون رافعة للاقتصاد الوطني وضامنا لاستمرار تنافسيته، وأيضاً قاطرة للإدماج الاقتصادي والاجتماعي للشباب في الحياة اليومية.
واهتمام جلال الملك بمنظومة التكوين المهني ليس وليد اليوم، بل كان يعطي إشارات في السنوات الأخيرة، على أساس أن القطاع وسيلة فعالة للإدماج وخلق الثروة والحصول على فرص الشغل وإنشاء المقاولات.
وخلال كل الخطابات الملكية، نجد أنه كان هناك حث للمغاربة على عدم النظر بشكل دوني للتكوين المهني، ولكن في خطاب العرش للعام 2018، قام الملك بتشخيص شامل لكل الأعطاب والنواقص التي تعرفها منظومة التكوين المهني وطلب من الحكومة أن تنكب على إعداد خارطة طريق لإحداث ثورة في المنظومة.
المجهودات التي قام بها المغرب في مجال التكوين المهني كانت كبيرة جداً، على سبل الذكر لا الحصر ما يتعلق بالبنى التحتية، نحن نتوفر اليوم على أكثر من 1200 مؤسسة ومعهد بين القطاعين العام والخاص من بينها أكثر من 670 مؤسسة تابعة للقطاع العام، وتتوفر هذه المؤسسات والمعاهد على مواصفات جيدة جداً، لكن هناك خلل.
رصدنا في التشخيص أن هناك مجموعة من التخصصات في التكوين المهني، لم تعد محط اهتمام الشباب ولا حتى القطاعات المشغلة، لكنها مفتوحة دائماً
لدى طرحنا السؤال بشكل مباشر وواضح: لماذا نصرف كل هذه الأموال؟ ولماذا نقوم بتأهيل البنى التحتيتة؟ ونرفع من عدد الخرجين سنوياً؟ لكن في المقابل ليس هناك الجودة المطلوبة وعدد كبير من الشباب يتخرجون، لكن لا يجدون فرصاً للشغل لسنوات طويلة.
ورصدنا في التشخيص أن هناك مجموعة من التخصصات في التكوين المهني، لم تعد محط اهتمام الشباب ولا حتى القطاعات المشغلة، لكنها مفتوحة دائماً، وهذا الأمر مضيعة للوقت والأموال والطاقات.
الملك طالب في خارطة الطريق بوضع أسس متينة لمنظومة التكوين المهني على أساس ملاءمة التكوين مع حاجيات سوق الشغل، ورصد الحاجيات الحقيقية للقطاع الخاص، لأن التكوين والتشغيل وجهان لعملة واحدة لا يمكن فصلهما، كما طالب جلالة الملك بأن تكون مراكز التكوين متلاءمة مع تنزيل الجهوية الموسعة ومع خصوصيات كل جهة. اليوم نتجه أساساً لاعتماد التكوين على أساس حاجيات الجهات.
*يعني هل يمكن أن نقول إننا سوف نقطع مع الارتجالية والتخبط في فتح مؤسسات ومعاهد للتكوين المهني بشعب لا تستجيب لحاجيات مناطق المغرب كل حسب خصوصياتها؟
نعم، وسوف نتحدث عن ذلك بالتفصيل، أنا الآن بصدد الحديث عن التشخيص الذي قام به جلالة الملك، وطالب من خلاله الحكومة بإعداد خارطة للطريق وتقديمها له.
وبما أنا الأمور مرتبطة ببعضها، أود أن أوضح أنه في الجانب الذي سألت حوله، يجب أن نقول صراحة إنه حتى الطرق البيداغوجية المعتمدة في عدد من شعب ومسالك التكوين المهني أصبحت متجاوزة.
كما أن هناك مجموعة من الشباب خارج المنظومة، يجب الاهتمام بهم، وفي الغالب تجدهم يشتغلون في القطاعات غير المهيكلة في مجموعة من المهن والحرف، لكنهم لم يستفيدوا بسبب ظروفهم الاجتماعية من إكمال الدراسة أو ولوج أحد معاهد ومؤسسات التكوين المهني، ومن بين الأسباب أنهم لم يجدوا مؤسسة أو معهدا يستجيب لخصوصية منطقتهم.
*ماذا تحمل الخطة الجديدة لهذه الفئة؟
هذه الفئة وفي مجموعة من مناطق المغرب، سوف نعمل على وضع دورات للتكوين المهني تؤهلها في حرفها ومهنها التي تمارس وتضمن لها الاستقرار الاجتماعي.
دورات تكوينة لفائدة الشباب الذين يمارسون مهنا وحرفا في القطاعت غير المهيكلة مدتها من ثلاثة إلى أربعة أشهر
وليس بالضرورة عن طريق البرامج الكلاسيكية الطويلة الأمد التي تعتمد على منهج منح الدبلومات، بل من خلال دورات قصيرة في حدود ثلاثة إلى أربعة أشهر، سنعتمد فيها بالدرجة الأولى على امتلاكهم للغات وتقنيات المحاسبة والتواصل والتسويق... وكلها مهارات سوف ترفع أولاً من مؤهلاتها وسوف تمنحها الفرصة لتحسين مدخولها ووضعها الاجتماعي.
وبالعودة إلى التشخيص والتوجيهات التي طرحها جلالة الملك، نجد أن خارطة الطريق جاءت لتستجيب إلى كل ما تم رصده في التشخيص، وسوف ترتكز طبعا على تثمين ما هو كائن، لأنه في 20 سنة الفارطة أنشأنا عددا هائلا من المؤسسات، لا يمكن أن نحدث معها قطيعة ونقفلها هكذا، ونبدأ من الصفر، نحن لا نخترع العجلة، ما هو كائن كما قلت سوف نستثمر فيه أيضاً.
*لكن أليس هناك تخوف من إعادة إنتاج نفس الأعطاب إذا لم تكن هناك قطيعة مع ما هو كائن، خاصة وأن البنى التحتية لمؤسسات التكوين المهني في عدد من المناطق والمناهج والبيداغوجيات جزء من المنظومة التي يجب اليوم تغييرها بشكل جذري؟
اليوم دشنا تحديث كل التجهيزات التي تعتدمها مؤسسات ومعاهد التكوين المهني، كما بدأنا في إعادة النظر في التخصصات التي لم تعد صالحة ولم تعد تواكب المتغيرات في العالم، فضلاً عن القطع بشكل نهائي مع الأقسام المفتوحة لمهن اندثرت في المغرب وخارجه.
اليوم 40 في المائة من مهن المستقبل لا نتوفر على شعب ومسالك للتكوين المهني فيها، بل لا نعرفها بالمرة.
كما قلت لا يمكن أن ننطلق من الصفر، وكل المؤسسات والمعاهد التي نتوفر عليها اليوم سوف نعتمدها قاعدة بالنظر إلى ما تتوفر عليه من إمكانيات وبنى تحتية من أجل تنزيل الرؤية أو الخطة الجديدة، هل نقفلها بالمرة؟
لا. بل يجب أن نؤهلها لكي تستجيب لحاجيات المنطقة حيث شيدت خاصة ما هو مرتبط بسوق الشغل، وفعلا تغيير المناهج والبيداغوجيات والتخصصات وما إلى ذلك من أمور مرتبطة بمختلف مراحل التكوين المهني، أصبح ضرورة ملحة يتم تنزيلها.
اليوم 40 في المائة من مهن المستقبل لا نتوفر على شعب ومسالك للتكوين المهني فيها، بل لا نعرفها بالمرة.
*في هذا السياق هل رصدتم من خلال التشخيص وخارطة الطريق المهن والحرف التي لم تعد هناك حاجة إليها إن صح التعبير؟
هناك مهن وحرف أصبحت متجاوزة، وليست واحدة أو ثلاثة أو حتى عشرة، المشكل اليوم أنه حتى في المهن والحرف القائمة والمستمرة في استقطاب اليد العاملة، طريقة التكوين فيها متجاوزة وكلاسيكية ولا تستجيب للحاجيات المطلوبة.
ولتجاوز هذا العطب، تقدم خارطة الطريق للمستفيدين من التكوين المهني مهارات وكفايات وآليات نصفها بـ"العرضية"، تمكنهم من الاستعداد لأي تغيير، أولها تمكنهم من اللغات الأجنبية، أيضا توفير تكوينات مستمرة لهم في المعلوميات، وأن لا تبقى هذه الشعبة تكميلية في عدد من المسالك، لأنها أصبحت ضرورية بل إلزامية في الولوج لأي حرفة أو مهنة، مع تطوير إمكانياتهم في الرياضات وعدم اغفالها خلال كافة مراحل التكوين، وتمكينهم من "المهارات الناعمة"، أي كل الكفايات التي قد يحتاجها في سوق الشغل إذا ما طرأ تغيير على وجهته، وهذه المهارات الناعمة سوف تمكن خريج التكوين المهني مستقبلا كما قلت من التأقلم مع أي تغيير في مساره المهني ويكون في حاجة لدورات محدودة عبر التكوين المستمر لكي يتألقم.
مثلا، هناك عدد من الحرف التي تتميز بطابع الصناعة التقليدية، نعم نريد الحفاظ على الموروث الحضاري والثقافي ونبحث دائما عن تثمينه، لكن في المقابل يجب أن تتطور آليات الاشتغال، وأن نميز بين منتجات الصناعة التقليدية الخاصة أي الموجهة للسوق الصغير الذي يقصده من يبحثون عن منتوج بمواصفات خاصة، وبين منتجات تدخل في نطاق الصناعة التقليدية ولكن موجهة للأسواق الكبرى ويجيب إنتاجها بكميات كبيرة.
*تحدث في عرضك للتشخيص عن ملاءمة التكوين المهني مع الجهات وخصوصياتها. كيف سيتم ذلك؟ وما هي المستجدات التي تحملها خارطة الطريق التي وضعت بين يدي الملك؟
من بين المستجدات خلق ما أسميناه بـ"مدن المهن والكفاءات"، ما هو الهدف منها؟ وما هي؟
هذه المدن سوف تشيد مثل الحرم الجامعي، أي سوف تضم مختلف المعاهد والمؤسسات التابعة للتكوين المهني، وذلك على مساحة تقدر بـ15 هكتاراً، طبعا كل الشعب والمسالك التي سوف تفتح فيها ستهم التخصصات التي تحتاجها الجهة، بالإضافة إلى تخصصات تهم المغرب بأكمله أو ما نسميه بـ"التخصصات الوطنية".
هذه المدن سوف تشيد مثل الحرم الجامعي، أي سوف تضم مختلف المعاهد والمؤسسات التابعة للتكوين المهني، وذلك على مساحة تقدر بـ15 هكتاراً
*هل ستشيد بكل جهة مدينة للمهن والكفاءات؟
نعم سوف نشيد 12 مدينة في 12 جهة.
وكما قلت في السباق هناك تخصصات مثل الخدمات والتجارة والفلاحة والصيد سوف تكون لها شعب وتخصصات في جميع الجهات. لكن هناك تخصصات لا يمكن فتحها سوى في الجهات التي يجب أن تستفيد منها، ويمكن من خلالها أن يلج المتخرجون لسوق الشغل.
الخطة حسمت موضوع الربط بين التكوين النظري والتكوينات التطبيقية، إذ لم يعد من المكن اليوم الاستمرار في تقديم دروس نظرية فقط لمن يلجون التكوين المهني، وقذفهم للبحث عن فرص للشغل
مثلاً، صناعة السفن، منطقيا لا يمكن أن تفتح هذا التخصص في جهة فاس مكناس، لكن هناك مدن ساحلية لا تتوفر على المؤهلات التي تمكن من ممارسة هذا النشاط الصناعي أو التكوين فيه، مثل هذا التخصص يمكن فتحه في جهة مثل سوس ماسة وتحديدا مدينة أكادير، لأنها تتوفر على صناعة للسفن وهناك أساطيل كبيرة وبنى تحتية، نفس الشيء بالنسبة لجهة طنجة - تطوان - الحسيمة.
الخطة حسمت موضوع الربط بين التكوين النظري والتكوينات التطبيقية، إذ لم يعد من الممكن اليوم الاستمرار في تقديم دروس نظرية فقط لمن يلجون التكوين المهني، وقذفهم للبحث عن فرص للشغل وهم غير مؤهلين في الجانب التطبيقي.
مثال آخر، وهو صناعة السيارات، ونجدها في جهة الرباط – سلا – القنيطرة وجهة طنجة – تطوان – الحسيمة، أيضا التخصصات المرتبط بالمهن الطبية والشبه الطبية والتي لا يمكن أن تفتح فيها مسالك وشعب في جهات لا تتوفر على مستشفيات جامعية، لأنها ضرورة في مرحلة التكوينات التطبيقية، إذن سوف تفتح في 8 جهات فقط لأنها تتوفر كما قلت على مستشفيات جامعية.
*ماذا عن الحكامة في تدبير "مدن المهن والكفاءات"؟ وكيف سوف تتم إدارتها؟
فعلاً لا يمكن أن نستمر فقط في التركيز على البنى التحتية وفتح التخصصات وتوفير الموارد البشرية، هناك جوانب أخرى أهمها الحكامة في تدبير وتسيير وإدارة هذه المدن.
إذن كيف سيتم تدبيرها؟
في الماضي كانت المساطر الإدارية جد متمركزة، وكل شيء يسير من الدار البيضاء، كانت أي وثيقة أو قرار أو تغيير ينتظرون أن يحسموا فيه بالمقر المركزي للتكوين المهني، وهذا الأمر أصبح متجاوزاً وغير سليم.
المغرب اختار الجهوية الموسعة، ولذلك القرار سوف يتخذ على مستوى الجهات، نحن في المركز سوف نستمر في تسيطر السياسات، ولكن على مستوى التنفيذ والتطبيق والملاءمة سوف تأتي الأمور من القاعدة.
سوف نضع مع القطاع الخاص الحاجيات في كل جهة، وما هي الشعب والتخصصات التي سوف تضمن للخرجين الإدماج في سوق الشغل، بل حتى المضامين.
من جهة أخرى سوف نعمل على إشراك الفاعلين الحقيقيين في منظومة التكوين المهني وعلى رأسهم القطاع الخاص، خاصة جانب الملاءمة، وسوف نضع مع القطاع الخاص الحاجيات في كل جهة، وما هي الشعب والتخصصات التي سوف تضمن للخرجين الإدماج في سوق الشغل، بل حتى المضامين.
كما سنشرك الجهات لأنه أصبح من صلب اختصاصاتها التكوين المهني، وسوف نفوت لهم في المستقبل هذا القطاع.
ما نريد من "مدن المهن والكفاءات" هو تحويلها لمراكز للتميز والتفوق، وأن نقطع مع المنطق الذي يقول إن "الفاشلين" فقط هم من يختارون ولوج التكوين المهني و"المتفوقين" يلجون الجامعات ومعاهد ومؤسسات التعليم العالي بمختلف تخصصاتها، هذا المنطق خاطئ أصلا، لكن لتجاوزه بشكل نهائي، سوف نجعل من هذه المدن واجهة للجاذبية.
ما نريد من "مدن المهن والكفاءات" هو تحويلها لمراكز للتميز والتفوق، وأن نقطع مع المنطق الذي يقول إن "الفاشلين" فقط هم من يختارون ولوج التكوين المهني
*لكن إذا تحولت "مدن المهن والكفاءات" التي سوف تحدث لمستقطب وجاذب، يطرح السؤال مرة أخرى حول ما مصير مؤسسات ومعاهد التكوين المهني المفتوحة في مجموعة من المدن وظهر أنها لا تلبي حاجيات سوق الشغل؟
هذه المعاهد والمؤسسات كما قلت في السابق سوف يتم تحديثها، الصغيرة منها سوف يتم توسيعها، فضلا عن تجديد آليات اشتغالها لتواكب التغييرات التي دخلت على منظومة التكوين المهني في المغرب، فضلاً عن تغيير المضامين البيداغوجية التي كانت توفرها.
وهنا أريد أن أشير لمستجد مهم طرح أمام جلالة الملك في الخطة، وهو "قرى التدرب المهني"، وهذه الأخيرة موجهة للعالم القروي. وهي مؤسسات تهتم بكل ما هو مرتبط بالعالم القروي خاصة الشباب والمرأة، وذلك عبر تثمين كل المهن المرتبطة بالقرى المغربية، ومنح الفرصة لمن لم تساعده ظروفه على إكمال دراسته أو ولوج التكوين المهني، من أجل الحصول على تكوين في الفلاحة والسياحة القروية والسياحة الجبلية والصناعة التقليدية.
المرأة تحولت للمعيل رقم واحد في القرى، لذلك سوف تستفيد بشكل كبير من "قرى التدرب المهني"، وهذا المشروع بتعاون مع المجتمع المدني والاتحاد العام لمقاولات المغرب والغرف المهنية.
هذه القرى سوف تسمح للشباب الذين يشتغلون في القطاع غير المهيكل بتأهيل قدراتهم.