في الجزء الثاني من حواره مع "تيلكيل عربي"، يتحدث كاتب الدولة في التكوين المهني محمد الغراس عن أسباب ارتفاع نسبة البطالة في صفوف خريجي التكوين المهني، ومستوى الأجور في القطاع الخاص، ويقدم المنهجية الجديدة للدولة في دعم المقاولات الخاصة للشباب، ويعرض أسباب فشل تجربة "مقاولتي"، بالإضافة إلى مستقبل التكوين المستمر للأجراء.
*في آخر تقرير مفصل للمندوبية السامية للتخطيط حول البطالة في صفوف الشباب خاصة منهم الحاملين للشهادات والدبلومات، نجد أن نسبة البطالة مرتفعة عند خرجي التكوين المهني مقارنة مع خريجي الجامعات، واليوم المغرب يتجه للرفع من عدد هؤلاء الخريجين. هل هناك ضمانات كي لا ترتفع النسبة أكثر؟
لا يمكن لنا "ندرقو الشمس بالغربال". جلالة الملك، كأعلى سلطة في البلاد، دعا إلى أننا "خاص نشوفو راسنا في المرايا". لذا، يجب أن نعترف بالأخطاء وأن نتوقف عن رمي الورود على بعضنا، لأننا لم نعد في حاجة إلى إهدار المزيد من الوقت.
ما تقوم به المندوبية السامية للتخطيط، مع الأخذ بعين الاعتبار حجم المؤسسة ومن يقودها، له دور مهم في توجيه مختلف القطاعات الحكومية، ونحن ككتابة الدولة بدورنا نقوم بدراسات تهم الشغل والبطالة في صفوف الشباب خريجي مؤسسات ومعاهد التكوين المهني، كما نقوم بتتبع مسارهم خلال الـ9 أشهر الأولى بعد تخرجهم، وهنا وجدنا أن أكثر من 50 في المائة من الشباب لا يلجون سوق الشغل، وأظهرت الدراسات أن نسبة الإدماج تصل إلى 86 في المائة بعد ثلاث سنوات من تخرجهم، وتبقى هذه النسب ضعيفة جداً.
وجدنا أن أكثر من 50 في المائة من الشباب لا يلجون سوق الشغل، وأن نسبة الإدماج تصل إلى 86 في المائة بعد ثلاث سنوات من تخرجهم، وتبقى هذه النسب ضعيفة جداً.
ما نبحث عنه اليوم، من خلال الخطة، التي وضعت هو الرفع من نسبة الإدماج المباشر للخريجين في سوق الشغل. إذن أين الخلل؟
حسب التشخيص الذي قمنا به، وما جاء على لسان صاحب الجلالة خلال خطاب العرش للعام 2018، يكمن المشكل في غياب الملاءمة ما بين التشغيل والتكوين، وهو ما لايمكن أن ينتج سوى البطالة.
كما لا يمكن أن نستمر بمنطق التفكير لوحدنا دون إشراك الفاعل المهني والبحث عن حاجياته وكما نقول بالدارجة "لحسب بوحدو كيشيط ليه".
من جهة أخرى يجب أن نعترف أنه خلال المرحلة السابقة، كان هناك اهتمام بالجانب الكمي أكثر من الجانب الكيفي، يعني نفتخر بعدد المؤسسات ونتباهى بعدد المتدربين وأننا نتوفر على نصف مليون، لكن ما هي النتيجة؟
خارطة الطريق سوف تقطع مع كل هذا.
التشغيل مثل بطاقة الطلبات في أي مكان، تتضمن ما هو متوفر داخل محل تجاري، وعندما تلجه تبحث من خلال ما هو مدرج فيها. أشدد على أنه يجب أن نبحث عن تلبية حاجيات سوق الشغل.
*هل يمكن أن توضيح أكثر هذا الجانب، يعني هل سنرهن التكوين المهني بالدرجة الأولى بحاجيات سوق الشغل فقط ومستوى ما وصلنا إليه من جذب للاستثمارات؟
سوف أعطيك مثلاً. شركة "بيجو سيطروين" عندما قررت الاستثمار في المغرب، تواصلنا معهم بشكل مسبق واطلعنا إلى حاجياتهم بل وأنشأنا مسلكا للتكوين المهني خاص بالمشروع، والجيل الذي بدأه وظهر خلال التدشين الملكي، من خريجي المؤسسة التي وضعناها بناء على حاجيات الشركة، وما طلب من الأخيرة هو نقل سلسلة الإنتاج إلى المغرب وتوفير فرص الشغل للمغاربة، وذلك بعد ضمان تكوين جيد لهم وكأنهم قاموا بتدريبات طويلة في الشركة.
في قطاع الطيران، قمنا بنفس الشيء. ومع شركات الطاقات المتجددة أيضاً. هذا هو الاتجاه الذي سوف نقوم بتنزيله في "مدن المهن والكفاءات" التي تحدثنا عنها في السابق، أي الأخذ بعين الاعتبار حاجيات سوق الشغل وخصوصيات كل جهة، مع إنشاء سلاسل إنتاج أو معامل أو ضيعات... صغيرة داخل المدن كي تضمن للخرجين التدريب التطبيقي، لأن المستثمرين اليوم لم يعودوا يقبلون إدماج الخرجين على أساس متدربين، بل يجب منحهم الدبلوم على أساس إطار جاهز ليقوم بعمله بشكل مباشر.
المستثمرون اليوم لم يعودوا يقبلون بإدماج الخرجين على أساس متدربين، بل يجب منحهم الدبلوم على أساس إطار جاهز لمباشرة عمله بشكل مباشر.
وبطبيعة الحال، بالعودة إلى نسبة البطالة في صفوف خريجي التكوين المهني التي تحدثت عنها المندوبية السامية للتخطيط، فلا يمكن في بلاد فيها 12 مليون شاب أن يجدوا فرصة للعمل كمستخدمين، وهنا يجب أن نتحدث عن شيء آخر وهو إذكاء روح المقاولة عند الشباب المغاربة. فالمقاولة ليست بالضرورة شركة كبيرة أو مؤسسة تحتاج لاستثمارات ضخمة، هناك تجارب للمقاولات الصغرى في عدد من الدول تخلق الثروة بمستويات كبيرة، واليوم أصبح العالم يتحدث عن المقاولات الصغيرة جدا.
يجب أن يتخلى الشباب في المغرب عن الإنتظارية والبحث عن فرصة للعمل عند الآخر، ودور الدولة هو تمكينه من الآليات لإيجاد الفكرة وخلق المقاولة ولو من خلال التكوين الذاتي. وسوف ننشئ في هذا الصدد مؤسسة للمقاولاتية في الدار البيضاء.
*(مقاطعا) لكن هنا نستحضر فشل تجربة "مقاولتي" وما خلفته في صفوف عدد كبير من الشباب الذين أثقلت كاهلهم الديون ولم تنجح المشاريع التي أطلقوها؟ ألا تتخافون من تكرار نفس التجربة؟ ألا ترون أن الضرائب في المغرب لا تشجع على خلق المقاولات؟
الأمر بعيد عن الضرائب، وإن كان هذا الموضوع متداخلا ومتشعبا. ما ينقصنا هو تأهيل الشاب ليكون مقاولاً. ما وقع في تجربة "مقاولتي" هو أننا منحنا الشباب، بهذا التعبير، "خنشة ديال الفلوس" وقلنا له "كن مقاولاً"، هذا المنطق ليس سليما، ولم ولن يأتي بنتائج.
كنت خلال الأسبوع الماضي في روسيا، وذلك في إطار فعاليات المسابقة العالمية للمقاولات الشابة والتي عرفت مشاركة 230 فرقة من العالم، وصل من بينها 5 فرق إلى الأدوار النهائية، المفاجأة أنه من بين الخمسة وجدنا اثنين من المغرب! في العالم بأسره، ينجح مغاربة شباب من بين أزيد من 230 مشاركا من كافة الدول، هذا الأمر ليس من السهل تحقيقه.
ما وقع في تجربة "مقاولتي" هو أننا منحنا الشباب "خنشة ديال الفلوس" وقلنا له "كن مقاولاً"، هذا المنطق ليس سليما ولم ولن يأتي بنتائج.
قررت أن أبحث عن الشباب في روسيا، ووجدتهم وتواصلت معهم، فرقة من المغاربة تضم شابتين. تفاجأت بالمشروع الذي وصولوا به إلى الأدوار النهائية وحصلوا على تمويل دولي لتنفيذه، والمشروع هو تحويل جلد السمك إلى مادة تستعمل في صناعة الألبسة، بل أكثر من ذلك الشابة التي تحدثت معها حضرت المسابقة بملابس مصنوعة من جلد السمك، لكي تظهر أن فكرتها قابلة للتحقق، ولك أن تتخيل كم سوف تسثمر في شيء لا نعيره في المغرب أي اهتمام، ونعتبره مخلفات يجب أن تجد طريقها لمطرح النفايات فقط.
ما يحتاجه الشباب هو خلق الأفكار وامتلاك الآليات لتطويرها وصياغتها والدفاع عنها من أجل استقطاب التمويلات.
يجب أن نقر بأن المقاربة التي اعتمدت في السابق لخلق المقاولات الشابة هي مقاربة خاطئة، لأنها اعتمدت على المال فقط، وكان عندنا وهم بأن منحهم التمويل فقط كفيل بدفعهم لإنشاء المقاولات.
لكن في غياب الأفكار والمتابعة والمرافقة والتأهيل، قبل كل هذا، صرفت تلك الأموال في شراء السيارات والمقرات والتجهيزات وحتى الهواتف النقالة، بدون مبالغة، ولم تنجح المشاريع التي تقدموا بها للحصول على قروض وتمويلات "وبقاو حاصلين".
* هل ستضمن خارطة الطريق التي وضعت الإدماج للشباب في سوق الشغل ومن جهة أخرى الرفع من مستوى إذكاء روح المقاولة؟
في سويسرا، عدد الشباب الذين يختارون التكوين المهني يتجاوز نسبة الـ85 في المائة، وعدد قليل جدا منهم يلجون الجامعات، في ألمانيا نفس الشيء.
*لكن نحن لسنا سويسرا ولا نحن ألمانيا.. الشباب يتخوفون من التكوين المهني بسبب مستويات الأجور والاستقرار الاجتماعي، الشباب لا يثقون في القطاع الخاص كمشغل يضمن الاستمرارية؟!
ما طرحته مسألة مهمة جدا ومعقدة، وفعلا هناك أمور لا يمكن أن تفرضها بين عشية وضحاها.
ما نطمح إليه بالدرجة الأولى ونبحث عنه هو منح الشباب التأهيل الجيد والكفاءات على أعلى مستوى. المسائل البسيطة التي لا تحتاج مهارات كبيرة وتقنية معقدة أجرها الشهري واضح ومعروف، لكن الشباب الذين يعملون في صناعة السيارات في القنيطرة وطنجة ومن يشتغلون في الطاقات المتجددة هل يشتغلون بالحد الأدنى للأجور؟ طبعا لا.
*أنا لا أتحدث عن فئة محدودة من المهندسين أو التقنيين المتخصصين المحظوظين بين قوسين بولوج شركات بعينها، طرحت السؤال حول القاعدة الكبيرة لآلاف الشباب الذي يجدون أنفسهم أمام شركات تفرض أجوراً هزيلة وظروف عمل لا تضمن الاستقرار الاجتماعي.
نحن نتكلم اليوم عن هذه القاعدة الكبيرة التي تقصد بسؤالك، وللأسف يجب أن نعترف أنها لم تكن مؤهلة لتدافع عن مصالحها في ولوج سوق الشغل بأجور جيدة. مستوى تخصص هذه الفئة اليوم في ارتفاع بالموازاة مع ارتفاع حجم الاستثمارات في المغرب، وهناك مهن تم القطع فيها مع منح أجور زهيدة أو التشغيل المؤقت.
نحن نتكلم اليوم عن هذه القاعدة الكبيرة من الخريجين وللأسف يجب أن نعترف أنها لم تكن مؤهلة لتدافع عن مصالحها في ولوج سوق الشغل بأجور جيدة.
سوف نعكس ما طرحته وسوف تجد أن هذا الأمر غريب لكنه واقع، هناك شركات مستعدة لمنح أجور جد مرتفعة لكنها لم تجد الكفاءات لتشغيلها، وسوف أقدم لك مثالاً حياً نعيشه اليوم. عندنا المهن الطبية والشبه طبية توفر كل سنة 4000 إلى 4500 فرصة عمل جديدة بأجور مرتفعة، لكن لا تجد الكفاءات لتشغيلها.
*(مقاطعا) هذا يفوق حجم ما توفره وزارة الصحة من مناصب للشغل سنوياً؟!
نعم، كل سنة ما بين 4000 إلى 4500 منصب شغل جديد، ولا أتحدث من فراغ. المفارقة الغريبة هو أن هذه المناصب تخلق لكن لا يجد المستثمرون من يشغلون، ماذا يقع؟ كلما فتحت مصحة جديدة تستقطب بأجور عالية من كانوا يشتغلون في مصحات أخرى. نفس الشيء بالنسبة للمختبرات.
*ماذا عن التكوين المستمر وما رافقه من جدل خلال إعداد مشروع قانونه ورفض "الباطرونا" لصيغته الأولى؟
التكوين المستمر سوف يكون على أساس "التعليم للجميع ومدى الحياة". فعلا أعددنا القانون 51.17 وتم التصويت عليه بالرغم من ما رافقه من جدل، ويجب أن نعرف أنه ظل لسنوات طويلة في الرفوف.
الجديد في هذا القانون هو أن لا يبقى التكوين المستمر مقتصرا على فئة الأجراء بل يصبح مفتوحا في وجه الجميع بمن فيهم الفلاحين والصناع والحرفيين، بل وحتى من يعانون من البطالة لوقت طويل.
القطاع الخاص كانت له مجموعة من الملاحظات أهمها أن يبقى التكوين المستمر موجها للأجراء فقط، وكان في هذا الموضوع أخذ ورد خاصة في ما يتعلق بتمويل منظومة التكوين المهني، كما أنهم رفضوا أن يكون مكتب التكوين المهني خصما وحكما في التكوين المستمر؛ أي أن يستفيد منه من جهة ويدبره أيضاً، لذلك تم التوافق على إنشاء مجلس إداري خاص بالتكوين المستمر.
اقرأ أيضاً الجزء الأول من الحوار: الغراس:هذه خطة الملك لإحداث ثورة في قطاع التكوين المهني