في باريس سيكتشف عبد الله إبراهيم عالما آخر مختلفا وغنيا وسيحاول الغرف منه ما أمكن مع مواصلة نشاطه السياسي والتأطيري وسط العمال والطلبة المغاربة في العاصمة الفرنسية.
بعد التطورات التي تلت تقديم "وثيقة المطالبة بالاستقلال"، قرر عبد الله إبراهيم تغيير الأجواء والتفكير قليلا في نفسه بعد أن أحس أنه قد أدى المهام التي تكلف بها خير قيام.
كان شديد الرغبة في الرحيل حتى أنه ما أن حصل على جواز سفر- بالصدفة تقريبا وبفضل أحد أصدقائه المقاومين- جمع بعض الثياب في حقيبة وقصد المطار بعد أن أخبر أصدقاءه في حزب الاستقلال الذين كلفوه بتمثيل التنظيم في باريس، وتأطير العمال المغاربة.
وكان هؤلاء يتألفون أساسا من الجنود المشاركين في الحربين العالميتين الأولى والثانية الذين اختاروا البقاء في فرنسا، ومن العمال الذين التحقوا بهم فيما بعد وينحدرون أساسا من سوس والريف.
فكان هذا الشاب المراكشي يلتحق كل يوم أحد بمنطقة "بوبيني" (ضاحية باريس) ليشرف على تنظيم العمال تماما كما كان يفعل في المدينة الحمراء.
"ولم يكن الحزب كذلك يرغب في ترك جهة أخرى أي كانت تتكلف بتنظيم الطلبة الذين أخذوا يفدون على فرنسا أكثر فأكثر.
هكذا شرع عبد الله إبراهيم، الذي لم يكن يتأفف أبدا من النهوض بمسؤولياته، في التردد على 'La rue serpente' (مقر جمعية الطلبة المغاربة) والبناية التي تحمل رقم 115 بشارع سان ميشيل(...).
كان مسؤولا عن التنظيم والدعاية. ويتذكر أحمد بنكيران اجتماعات عاصفة كان فيها طلبة، يميلون إلى التيار الماركسي، الانصياع لتوجيهات قادة "الاستقلال".
وقاموا يوما بتمزيق صفحات جريدة "العلم"، لسان حال الحزب، كانت معلقة على الحائط، لأنها تضمنت تأييدا لحظر الحزب الشيوعي في أحد بلدان الشرق الأوسط.
ذكرهم عبد الله إبراهيم بضرورة التحلي بالانضباط فنعتوه بالأرثودوكسي والمتصلب. كما يتذكر بنكيران دائما حدوث نقاشات حادة جدا حول العلمانية والتحديث ومكانة الأحزاب، والمثقفين.
كان عبد الله إبراهيم كذلك نشيطا في "جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين" بفرنسا التي تقربت، منذ الثلاثينيات والتأثير الكبير للجزائري مصالي الحاج، من العمال المغاربيين المهاجرين. كما كان يتردد على كل الأماكن التي يوجد فيها المثقفون والسياسيون المغاربيون والعرب بباريس.
هكذا تقرب من التونسي فرحات حشاد والمصريين سلامة موسى وعبد الرحمان بدوي (...) الذين سيصبحون أصدقاءه، ولكنه لم يكن يعتقد كثيرا أن هناك الكثير مما يمكن للمغرب استلهامه من المشرق الإسلامي، لأنه يرى أن هناك استثناء مغربيا وسيظل(...).
خالط كذلك مناضلي الأحزاب الفرنسية، وخاصة الشيوعيين والاشتراكيين الذين يساندون النضالات الوطنية بالمغرب العربي، دون إغفال الحركة العمالية الصاعدة بقوة والتي أخذت تؤكد موقعها كفاعل أساسي في المقاومة والتحرير.
وسيقول عبد الله إبراهيم فيما بعد "ربطت صداقات مع العديد من الفرنسيين (...) لم تكن لدي ولو دقيقة فارغة. في السوربون كنت أشتغل على السياسة الخارجية للمغرب في القرن الـ19. وأفكر في الأسباب التي أفضت إلى الحماية".
وكان يقدر حجم الهوة التي تفصل بين التيارات المتناقضة داخل الحركة الوطنية المغربية، بين الاشتراكية والليبرالية.. بين القرويين والمدنيين.. بين ناس الشمال وناس الجنوب.. بين أبناء الأعيان وأبناء الفقراء.. عوالم عديدة تتصادم.. ثقافات متعددة لا تفلح في التعايش.. وكان يصبو إلى التوليف بينها كما كان يطمح إلى تقليص الهوة الثقافية.