يطبق القطب المالي للدارالبيضاء، الذي يتطلع إلى أن يصبح بوابة للاستثمار في إفريقيا، نظاما ضريبيا مرنا جدا لجذب الاستثمارات، ولكن هذه الاستراتيجية لا تروق للاتحاد الأوروبي الذي بادر إلى وضع المغرب على القائمة الرمادية لـ"الجنات الضريبية". فهل سيصمد القطب أمام التشدد الأوروبي؟
في 3 ماي الجاري، قال بيير موسكوفيتسي، المفوض الأوروبي المكلف بالشؤون الاقتصادية، خلال تدخله أمام الحاضرين في المناظرة الوطنية حول الجبايات "أود التركيز على الأوراش التي يتعين علينا إتمامها في الشق الضريبي: المصادقة قبل نهاية 2019 على 'المساعدة الضريبية الإدارية المتبادلة'، وكذلك تعديل الأنظمة الضريبية التفضيلية الثلاثة: المناطق الحرة للتصدير والمقاولة التصديرية وأخيرا القطب المالي للدار البيضاء". وجاء هذا التصريح ليؤكد القرار الذي كان الاتحاد الأوروبي قد اتخذه قبل شهرين.
لقد حافظت بروكسيل على المغرب ضمن القائمة الرمادية للجنات الضريبية، لأن المجلس الأوروبي يعتبر أن الأنظمة الضريبية الخاصة "ضارة" باقتصاد القارة العجوز. ويستهدف الاتحاد الأوروبي بالخصوص الامتيازات الضريبية الممنوحة للمقاولات التي تعمل في القطب المالي للدار البيضاء، المتهم بـ"المنافسة غير الشريفة".
وتقلق هذه القائمة الرمادية الحكومة المغربية بدرجة كبيرة حتى أن وزير الاقتصاد والمالية، محمد بنشعبون، اختار "تطبيع الأنظمة التفضيلية المطبقة لدى التصدير، وفي المناطق الحرة، وفي القطب المالي للدار البيضاء" من بين التوصيات الـ167 التي خرجت بها المناظرة الوطنية للجبايات، ووضعها ضمن النقط العشر التي سيشملها القانون الإطار المقبل للمالية.
بنشعبون اختار "تطبيع الأنظمة التفضيلية المطبقة لدى التصدير، وفي المناطق الحرة، وفي القطب المالي للدار البيضاء" من بين توصيات مناظرة الجبايات، لوضعها ضمن النقط العشر التي سيشملها القانون الإطار المقبل للمالية.
ولكن هل تؤثر إعادة النظر في النظام الضريبي المعتمد في القطب المالي للدار البيضاء سلبا على تطوره وأدائه، علما أن ورقته الأساسية لاستمالة المستثمرين هي جاذبيته الضريبية؟
الواقع أن المغرب، الذي اختار الانفتاح بشكل كبير على إفريقيا، يسعى إلى جعل القطب المالي للدار البيضاء محطة مالية رئيسية وممرا أساسيا للمستثمرين الراغبين في الدخول إلى القارة الإفريقية. وقال الملك محمد السادس في رسالته إلى المشاركين في الملتقى التاسع لمنتدى التنمية من أجل إفريقيا في 13 أكتوبر 2014، إن "عددا متزايدا من المستثمرين الدوليين يعتبرون القطب المالي للدارالبيضاء، محورا للمعاملات المالية، ومدخلا إلى الأسواق الإفريقية".
لا شك أن الطموحات كبيرة، ولعل المقر الضخم لهذا القطب المالي يعكسها بصدق. فهو عبارة عن برج من 25 طابقا يشرف على كل الفضاء الذي كان يحتله مطار آنفا. وحسب مصادر متطابقة، فهذا المقر، الذي صممه المهندس توماس ماين، الفائز بجائزة "بريتزكر" للهندسة المعمارية، كلف حوالي 750 مليون درهم.
وتضمن قانونا مالية 2011 و2013 مجموعة من الامتيازات الضريبية لتحفيز المقاولات على الانضمام إلى القطب المالي البيضاوي. ومن بين هذه الامتيازات يمكن ذكر الإعفاء التام من الضريبة على الشركات طيلة السنوات الخمس الأولى، ثم بعد ذلك فرض نسبة لا تتعدى 8,7% على رقم المعاملات عند التصدير. كما يستفيد العاملون في هذا القطب من تحفيزات ضريبية مهمة طيلة السنوات الخمس الأولى من عملهم. كذلك يتم إعفاء عمليات تكوين الشركات والرفع من رؤوس أموالها من رسوم التسجيل. ويبقى الامتياز الحقيقي لهذا الفضاء، حسب مصادر محلية، هو تحسين وتسهيل ظروف الأعمال، من خلال العمل على إرساء سلاسة في تحرك رؤوس الأموال، وتبسيط وتسريع الإجراءات الإدارية بالنسبة إلى الأجراء الأجانب، وإمكانية خلق المقاولة في 48 ساعة.
ونحج القطب المالي للدارالبيضاء، الذي شرع في العمل منذ 2012، في جذب مجموعات عالمية ضخمة مثل: بنك الصين، BNP Paribas، لويدز، أليانز، أكور، وفورد. كما انضم إليه عدد من المجموعات الاقتصادية المغربية الحاضرة في إفريقيا من قبيل: TGCC، الضحى، ومجموعة أكوا. وإلى غاية اليوم حصلت حوالي 200 مقاولة على صفة "القطب المالي للدار البيضاء".
وماذا عن مقرات هذه المقاولات؟ يرد الفريق المكلف بتسيير القطب البيضاوي بالقول "لقد طورنا برنامجا عقاريا يتألف من برج وعمارتين حتى يكون بمقدورنا اقتراحها مكاتب للكراء على المقاولات الحاصلة على صفة 'القطب المالي للدارالبيضاء(...) وقد أثار المشروع برمته اهتمام كبيرا وسريعا: بلغت نسبة تسويق مكاتب البرج 90% قبل شهرين كاملين من انتهاء الأشغال به". وأضاف أن "عمارتين أخريين مبرمجتين في 2021 و2022 ستسمحان بتجميع كل المقاولات المنتمية للقطب في الحي المالي الجديد".
القائمة الرمادية تجمد الطموحات
ولكن كل طموحات القطب المالي للدار البيضاء توقفت فجأة في 2017؛ إذ ارتأى المجلس الأوروبي أن المغرب لا يحترم القواعد الأوروبية فيما يخص مالية المقاولات، ووضع المملكة على القائمة الرمادية لـ"الجنات الضريبية". وتكمن خطورة هذا القرار في كونه قد يثبط المناحين الدوليين الكبار، مثل البنك الدولي والبنك الإفريقي للإنماء. الأمر الذي جعل السلطات المغربية تتحرك للحد من آثاره.
ففي رسالة إلى رئيسة "مجموعة مدونة قواعد السلوك" بالاتحاد الأوروبي، تعود إلى نونبر 2017، كشف محمد بوسعيد، وزير الاقتصاد والمالية آنذاك، عن عدد من الالتزامات يؤكد من خلالها استعداد البلاد للتعاون مع بروكسيل لتطبيع نظامها الضريبي.
ورغم كل الجهود التي قام بها المغرب، قرر الاتحاد الأوروبي الإبقاء على المغرب في تلك القائمة الرمادية لسنة إضافية، وهذا ما أغضب الرباط. "إن حرص شركائنا الأوروبيين على بقائنا على تلك القائمة أمر غير مفهوم"، يقول إطار سام بوزارة المالية، مضيفا "على أوروبا البدء بتنظيف غسيلها القذر وكنس باب بيتها. وأكبر الأمثلة على التناقضات الضريبية توجد في الاتحاد الأوروبي، من قبيل بولندا التي تحدد ضريبة الشركات في 9% وإيرلندا في 12%.. وإن كان هناك متضررون في مكان ما، فهم نحن في المقام الأول".
إطار سام بوزارة المالية: حرص شركائنا الأوروبيين على بقائنا على تلك القائمة أمر غير مفهوم.
والحق أن مجموعة "مدونة السلوك" بالاتحاد الأوروبي ترى أن النظام الضربيبي المطبق في القطب المالي البيضاوي ينحرف عن الضوابط الجاري بها العمل. وتشتكي بروكسيل من النسبة المنخفضة للضريبة على الشركات المطبقة فقط على رقم المعاملات الخاص بالتصدير، وعلى مكاسب رؤوس الأموال الخارجية، مثل أرباح الأسهم في فروع الشركات المنتمية إلى القطب المالي. كما ينتقد الاتحاد الأوروبي اعتماد المركز البيضاوي على ما يسمى بـ"Ring fencing"؛ أي أن النشاطات الخاصة بالقطب المالي للدار البيضاء تتمتع بنظام محاسباتي خاص منفصل عن باقي نشاطات المقاولة، وهذه وسيلة لاعتماد نظامين ضريبيين داخل نفس الشركة.
ليس هذا فقط، فبروكسيل تركز على كون المقاولات الأعضاء في القطب يمكن ألا تتوفر على أي وجود مادي أو نشاط اقتصادي حقيقي داخل فضاءاته، وتقوم بالتالي بدور صندوق البريد فقط. وفي الأخير يندد الاتحاد الأوروبي بالنظام الجزافي فيما يخص الضريبة على الشركات: 5% من تكاليف التسيير إن كانت المقاولة في حالة عجز.
إصلاحات قيد الدرس
أمام هذه الانتقادات، كلفت "هيئة القطب المالي للدار البيضاء" في يونيو 2018 مكتب "Ernest and Young" للتفكير في مستقبل هذا المركز المالي البيضاوي على ضوء مطالب الاتحاد الأوروبي. وستشكل خلاصات هذا المكتب أساسا لنظام ضريبي جديد سيتم إدراجه في القانون الإطار المنتظر. وفي مذكرة سرية – تمكنت "تيل كيل" من الاطلاع عليها"- يوصي "Ernst and Young" بضرورة "إعادة النظر كليا في النظام الضريبي الحالي للقطب المالي للدارالبيضاء".
في مذكرة سرية يوصي "Ernst and Young" بضرورة "إعادة النظر كليا في النظام الضريبي الحالي للقطب المالي للدارالبيضاء".
ويحبذ هذا المكتب على الخصوص إقرار نظام ضريبي موحد في ما يخص الضريبة على الشركات يطبق على كل الوحدات الاقتصادية التي تنتمي للقطب. كما يتعين على النظام الجديد الامتناع عن الفصل بين النشاطات المحلية والأنشطة الموجهة للتصدير، من خلال تطبيق معدل موحد، يجب أن يتراوح بين 10 و12,5%، وهو المعدل الكفيل بالحفاظ على نفس المستوى من العائدات الضريبية بالنسبة إلى الخزينة. يمكن أيضا تطبيق هذا المعدل الموحد على المكاسب المحققة على الأسهم، سواء كانت محلية أو خارجية. كما يرى المكتب إلغاء الحساب الجزافي للضريبة بخصوص المقاولات التي تعاني من العجز. وشدد على ضرورة إلغاء أو تخفيض نسب الاقتطاعات من المصدر بخصوص أرباح الأسهم التي يستفيد منها أشخاص معنويون غير مقيمين. ويرى أنه يجب خفض هذه النسبة، التي تبلغ حاليا 15%، إلى ما بين 5 و10%.
وحسب مصادر "تيل كيل" فإن "المديرية العامة للضرائب" و"هيئة القطب المالي للدار البيضاء" تعقدان عدة اجتماعات لمناقشة كل هذه النقاط، وإعداد نسخة نهائية سيتم إدراجها في القانون الإطار المقبل الذي سيلزم الحكومة لمدة خمس سنوات...
سفيان شهيد- برايان بريكفيل
عن "تيل كيل" بتصرف