المؤرخ الجزائري حربي: هيمنة الجيش حلت محل هيمنة الاستعمار الفرنسي

تيل كيل عربي

رأي محمد حربي، أحد أهم المؤرخين الجزائريين، مطلوب، بحكم أنه يعرف عن قرب النظام الجزائري منذ بدايات الاستقلال وتحمل السجن في ظل نظام الهواري بومدين.

هرب هذا التسعيني إلى فرنسا، حيث تخصص في تاريخ الثورة الجزائرية. وفي هذه المقاطع من الحوار التي ترجمها "تيلكيل عربي"، عن "لوموند" الفرنسية، يتناول الخلفيات الثقافية والسياسية للنظام الجزائري ونخبه، ويعطي رأيه في الحراك الذي يعرفه بلده منذ شهور.

لماذا يتحدث الشباب المشاركون في الحراك عن استقلال جديد؟

لأنه سلب منه. لم يكونوا مستقلين في يوم من الأيام. لا يفكرون سوى في الهيمنة الفرنسية التي حلت محلها هيمنة الجيش الجزائري. ذلك بدأ منذ 1962، عندما رأى الناس أن وعود جبهة التحرير الوطنية لم يتم الوفاء بها، شرعوا في القول "كأن فرنسا لم ترحل". رغم عدم مطابقته لرؤيتي للأمور، فإن الحراك يعبر عن قدرة على الإبداع -حتى في الهدم- تثير إعجابي، كما  يدلل على ذكاء شعبي في مواجهة من يملك السلطة. رغم عدم ذهاب الأمور في الاتجاه الذي يأملونه، هناك في هذه الحيوية بذور إعادة التشكيل.

كيف كان البلد عند الاستقلال؟ هل جرى التخلص من الإرث الاستعماري، بما في ذلك الأمور التي كانت تعمل بطريقة جيدة؟

لقد دبر ذلك بشكل سيء، واستعمل بطريقة سيئة. في 1962، كانت قدراتنا الكامنة ضعيفة. جزء من الذين خبروا المجتمع المدني غادروا. فريق أخذ مسافة مع التوجه الذي سار عليه أحمد بن بلا، مثل فرحات عباس، وأيت أحمد، وبوضياف وبنخضرا. في الحقيقة، كل شىء، كان مرتبكا، العالم القروي فقد البوصلة، ولم يعد له أي ارتباط حقيقي بالأرض. بالنسبة لي، كان المشكل الرئيسي هو التدبير الذاتي وإعادة تشكيل العالم القروي.

قضيتم ثلاثة أعوام، من 1962 إلى 1965 في قلب السلطة. ماذا استخصلتهم من هذه التجربة؟ هل كنتم تعتقدون أنه بإمكانكم تغيير الأمور من الداخل؟

كانت جبهة التحرير الوطنية تحتل المجال كله. ومعارضتها لم تكن الذهاب إلى السجن، بل فقدان حياتك. لم يكن ممكنا احتلال مواقع منتجة لوضعيات أخرى. في بعض الأحيان، كنا نحتل بعض المواقع على الأرض، مع الوهم بأن ذلك يمكن ان يتوسع، لكن ذلك لم يحدث. واعتبارا من دجنبر 1964، لم أعد أؤمن بذلك، وخلف لدي  شعورا بالفشل. لم يكن لنا تأثير على القرارات. على مستوى التدبير الذاتي، جرى رفض أو عدم تطبيق كل المشاريع التي اقترحناها. قلت ذلك لأحمد بن بلة. كانت هناك طريقتان للتعاطي مع السلطة؛ إما محاولة البناء من الأسفل، وبالتالي يجب أن نكون جديين وجذب أناس مؤمنين بذلك، أو الاستمرار في ترقيع الدولة الاستعمارية، وهذا ما حدث، وتدبير الإحلال، غير أن الإحلال، لم يكن يمس العمال بشكل بديهي.

تقدمون أحمد بن بلة باعتباره رجلا متدينا ومحافظا...

مؤكد أنه كان محافظا ومتدينا. القومية العربية- الإسلامية لأحمد بنبلة، لم تكن تأخذ بعين الاعتبار كلية الشعب الجزائري، أو الأوروبيين أو اليهود غير الفرنسيين بالصحراء. العمل بهذه الطريقة كان يدفع الآخرين إلى الزاوية ويجبرهم على الرحيل.

وكيف تصفون هواري بومدين، ثاني رئيس للدولة الجزائرية؟

لقد كان حريصا على الإعلاء من شأن الدولة مع استلهام للنموذج الستاليني. لكنه لم يكن متدينا على طريقة بن بلة. آمن بالتجرية الاقتصادية (الاشتراكية) للجزائر. لا أكن له أي احترام، لكنني أعتبر أنه كان يتمتع بإدراك أكثر من الذين خلفوه للصعوبات التي كانت تنتظر البلد.

لقد وظفت السلطة في الجزائر طويلا التاريخ من أجل شرعنة وجودها. هل يمكن اليوم القيام بنوع من التأريخ المتحرر من الإيديولوجيا؟

هذه السلطة لم تكف عن التذكير بجراحاتها دون أن تأخذ بعين الاعتبار جراحات الآخرين، بما في ذلك جراحات ضحايا الحرب الأهلية والتطهير. واليوم، لا أحد من بين المرشحين للسلطة يتحدث عن ذلك، من أجل عدم تقديم الحساب حول النهب الذي ساد منذ الاستقلال.

هناك تراجع ثقافي كبير بالجزائر. لا نتصور حجم الكارثة. لقد قتلنا "الإنتلجنسيا". من غير الممكن الانخراط في نقاش ثقافي. ففي وسائل الإعلام، يستمد "المثقفون" مواقفهم من "الثورة". لا يتجرؤون على إعادة النظرة فيها بطريقة نقدية. والأمر أكثر سوءا في الجامعة. وقد فاقم الإسلام السياسي الأمور. ضمن الجيل الجديد من المؤرخين، نجد حوالي عشرة من الجامعيين من المستوى الرفيع، لكنهم يوجدون في الخارج.

هل يمكن لـ"الدياسبورا" أن تلعب دورا محوريا في مستقبل الجزائر؟

نعم، لكن هذا يستغرق بعض الوقت. في كندا والولايات المتحدة، هناك شباب ملتزم، وبدرجة أقل في فرنسا، لأن ثمة خوفا من خيانة بلده. من يهاجرون يؤاخذ عليهم الهرب من البلد. أن تكون مقيما في البلد، أضحى شرطا جوهريا من أجل الحديث عنه. وعندما ينتقد المهاجرون الجزائر يجري تجريدهم من جزائريتهم.

هل المجتمع الجزائري مسكون بالاستعمار والحرب إسوة بحاكميه؟

 لا أعتقد ذلك، الناس يرفضون هذا الخطاب الرسمي، غير أن الإيديولوجيا الوطنية تطبع سلوكهم، إنهم يخرجون الكثير من الصور التي تعود لحرب الجزائر.

هل الثورة كانت علمانية؟

لا، كانت ثورة دينية في عدة مناح، وساهمت في ذلك العناصر التي أتت من اليسار. من غير اسم جريدة "المقاومة" باسم "المجاهد"؟ إنه أبان رمضان (أحد أهم قادة جبهة التحرير الوطنية)، الذي كان يعتقد أن ذلك سيحفز الناس على المواجهة. غير أن الرهان لم يكن الدين، بل  الأبوية أكثر من ذلك. لكننا لم نخرج من الأبوبة. حتى في منطقة القبايل، من السهل رفع شعار العلمانية أكبر من توظيفه في الصراع ضد الأبوية والمساواة من أجل النساء.

ماهي طبيعة النظام الجزائري؟ هل هو عسكري أم مدني أم ديكتاتوري أم سلطوي؟

الأهم اليوم بالنسبة لقايد صالح (رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي منذ 2004 والرجل القوي في الجزائر)، هو الحفاظ على سلطة الجيش، كما لم يحدث في السابق. لقد تعايش الجيش لفترة طويلة مع النسق التكنوقراطي، وهو يريد وضع هذا الأخير تحت وصايته وعسكرته على طريقته.

ما الذي مثله عقدان من رئاسة بوتفليقة؟

بوتفليقة يتحمل مسؤولية فضيعة في ما سيحدث في ما بعد، لقد تقاسم السطة مع العسكريين، لإنه اعتقد أنه بترك الجيش يتضخم، سيكف عن إزعاجه.

عن " لوموند" بتصرف

ترجمة: المصطفى أزوكاح