المحكمة الجديدة لوسائل التواصل الاجتماعي.. إلى متى؟

تيل كيل عربي

بقلم: مهدي الزوات - محام بهيئة الدار البيضاء

كانت العدالة تُمارَس داخل المحاكم، حيث تُوزن الاتهامات، وحيث لم تكن قرينة البراءة مجرد مفهوم نظري. أما اليوم، فقد ظهرت صورة جديدة من العدالة غير المنطقية، وهي تلك التي تُمارَس عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فمجرد تغريدة، أو مقطع فيديو ينتشر بسرعة، أو رسالة مجهولة المصدر، يمكن أن تكون كافية لتدمير سمعة شخص، أو إنهاء مسيرته المهنية، أو إشعال عاصفة إعلامية خارجة عن السيطرة. لكن إلى متى ستستمر هذه الظاهرة دون إطار قانوني واضح؟

عندما يحل الرأي العام محل القضاء

أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي توفر فضاءً غير مسبوق لحرية التعبير، حيث يمكن لأي شخص التعبير عن رأيه، أو التشكي من ظلم ما، أو نقل معلومة. غير أن هذه الحرية تحمل في طياتها جانبًا سلبيًا يتمثل في الاندفاع الجماعي. إذ يمكن لاتّهام واحد، حتى وإن كان دون أساس، أن ينتشر عبر آلاف المتصفحين، ليحوّل الرأي العام إلى محكمة عليا تصدر أحكامًا فورية.

في هذا السياق، يصبح التحقق من صحة المعلومات أمرًا ثانويًا، إذ تغلب العاطفة على العقل. لكن في دولة الحق والقانون، لا يمكن لأي اتهام أن يكون له قيمة ما لم يستند إلى أدلة قوية ويُعرض أمام هيئة قضائية محايدة. أما على وسائل التواصل الاجتماعي، فالأمر معكوس تمامًا: يصبح المتهم مُطالبًا بإثبات براءته أمام موجة شعبية غاضبة تكون قد أصدرت حكمها مسبقًا. أي أن المتهم يصبح مدانا إلى أن تثبت براءته.

الأضرار التي لا يمكن إصلاحها جراء التشهير الرقمي

بينما تمنح العدالة التقليدية سبلًا للطعن والاستئناف، فإن "محكمة" وسائل التواصل الاجتماعي لا تترك سوى مساحة ضئيلة أو منعدمة لاستعادة السمعة. فقد يجد شخص اتُّهم ظلمًا نفسه أمام دمار شامل لسمعته خلال ساعات قليلة، دون أن تكون هناك وسيلة حقيقية لإصلاح الضرر. حتى إذا تم تفنيد الاتهام أو حفظ القضية رسميًا، يبقى الضرر قائمًا، حيث تظل بصمة الاتهام الرقمية قائمة، ويبقى الشك مسيطرًا للأبد.

والأخطر من ذلك أن هذه الظاهرة لا تستهدف فقط الشخصيات العامة، بل يمكن لأي شخص أن يكون عرضة لهذا الخطر. مجرد خلاف بسيط على الإنترنت، أو رأي أُسيء فهمه، أو اتهام كاذب، قد يكون كافيًا لإطلاق موجة من "التحرش" الإلكتروني. وتكون العواقب النفسية والمهنية وخيمة، وقد تشمل فقدان الوظيفة، أو العزلة الاجتماعية، أو الاكتئاب، أو حتى ما هو أسوأ.

إطار قانوني غير واضح في المغرب

أمام هذا الواقع الجديد، يُطرح سؤال التأطير القانوني لهذه الظاهرة. في أوروبا، يوفر النظام العام لحماية البيانات (RGPD) بعض الضمانات لضحايا التشهير الإلكتروني، مثل الحق في « النسيان الرقمي ». وفي الولايات المتحدة، وضعت بعض المنصات الرقمية سياسات رقابة أكثر صرامة للحد من انتشار المحتوى التشهيري كما فعلت مع الأخبار الزائفة.

أما في المغرب، فلا يزال الإطار القانوني في هذا المجال في مراحله الأولية. فرغم أن القانون الجنائي وقانون الصحافة والنشر يتناولان قضايا القذف والسب العلني، إلا أن هذه النصوص غالبًا ما تكون غير ملائمة لمواكبة خصوصيات وسائل التواصل الاجتماعي. إذ تمثل سرعة انتشار المعلومات، وإمكانية إخفاء هوية الفاعلين، وصعوبة إزالة بعض المحتويات، تحديات حقيقية أمام تطبيق القانون.

التوازن المطلوب بين الحرية والمسؤولية

لا تكمن الحلول في فرض رقابة مشددة، ولا في تقييد حرية التعبير بشكل مفرط، بل في تعزيز الوعي الجماعي وتحميل الفاعلين الرقميين مسؤولياتهم.

من جهة، يجب على مستخدمي الإنترنت أن يدركوا أن حرية التعبير لا تعني غياب المسؤولية. فمن حق الجميع الإحتجاج على الظلم، لكن توجيه اتهامات دون دليل هو تصرف غير قانوني. فالأضرار الناجمة عن الاتهامات الباطلة قد تكون مدمرة ولا رجعة فيها.

ومن جهة أخرى، يجب على المنصات الرقمية اتخاذ تدابير أكثر فاعلية لمحاربة التشهير والتحرش الإلكتروني. ورغم أن هناك بعض المبادرات في هذا الاتجاه، إلا أنها لا تزال غير كافية وفي حجم الإشكالية.

أخيرا، ينبغي على المشرّع أن يواكب هذه التطورات السريعة من خلال إطار قانوني واضح يحمي المواطنين من هذه الانتهاكات، دون المساس بحرية التعبير.

فهل ستستمر "محكمة" وسائل التواصل الاجتماعي في إصدار أحكامها القاسية دون استئناف؟ أم سنتمكن أخيرًا من إيجاد حلول تُحقق التوازن بين العدالة والمسؤولية في العصر الرقمي؟