يفترض التفكير في النموذج التنموي الجديد، الذي دعا له الملك، محمد السادس، ووعد بتشكيل لجنة لبلورته، التوجه نحو توفير شروط النجاح له عبر التركيز على التصنيع، الذي يساعد المغرب على تملك سر التكنولوجيا، وهو هدف يراه الاقتصادي محمد الشيكر ممكنا عبر مدرسة ذات جودة وإيلاء الاهتمام للبحث والتطوير، غير أن الشيكر، يشدد في هذا الحوار، على أنه لا يجب بلورة نموذج وطرحه للتطبيق، بل يفترض أن يكون مستبطنا من قبل المجتمع، كي يتبناه ويتيقن بأنه حامل للتغيير الذي ينعكس إيجابا على أفراده.
يتجه المغرب، كما دعا إلى ذلك الملك، نحو تبني نموذج تنموي جديد، يريده محفزا للنمو ومقلصا للفوارق الاجتماعية والمجالية. ما المكانة التي يفترض في النموذج أن يفردها للصناعة؟
جميع النماذج الناجحة تستند على التصنيع، التي تعتبر مسلسلا يستند على ثلاثة مراحل. المرحلة الأولى، تقتضي مدرسة ذات جودة عالية، وتستدعي المرحلة الثانية الاهتمام بالبحث والتطوير، وتأتي في المرحلة الثالثة الصناعة.
بدون الاسترشاد بهذا المسلسل، ستتوفر على صناعات، كما هو الحال مع "رونو" و"بوجو" حاليا، اللتان أقامتا مصانع بالمغرب، في إطار ترحيل أنشطتها Délocalisation نحو بلدان أخرى، والحال أنه يمكن لهاتين الشركتين أو شركات أخرى أن تغادر البلد دون أن يستفيد بعد ذلك من مرورها منه. ونحن نرى كيف أن النقاش اليوم في البلدان الأوروبية، في ظل صعود الأحزاب الوطنية والشعبوية، ينصب حول عودة شركات عملاقة لإحداث أنشطة في بلدانها الأصل Relocalisation.
لماذا تلحون دائما على التصنيع، ألا يعتبر المسلسل الذي انخرط فيه المغرب نواة لذلك؟
التصنيع مرتبط بالبحث والتطوير الذي يرتهن له الابتكار، والابتكار يفترض مدرسة ذات جودة. فالنماذج التي نجحت احترمت هذا المسلسل الذي تحدثت عنه، بينما تلك التي فشلت لم تمتثل له. لنأخذ جميع البلدان الصاعدة، فقد ساهم عملها بتلك الطريقة، في تصنيع سيارتها الخاصة، مثل الهند أو الصين وكوريا الجنوبية، لأنها أدركت أن التصنيع لا يختزل في الصناعة.
لنتذكر أن "فياط " الإيطالية انخرطت مع الدولة المغربية في مشروع " صوماكا" في 1959، في نفس الوقت، الذي أطلقت مشروعا مع الهند من أجل إحداث مصنع للسيارات، واليوم الهند تتوفر على سيارتها الخاصة، بينما نحن لم نتمكن من ذلك، رغم أن "صوماكا" حققت، قبل خوصصتها، إنجازا تكنولوجيا مهما، على اعتبار أنها كانت تنتج في نفس الخط عدة ماركات من السيارات.
ألا يمكن أن يتحقق التصنيع في إطار المناولة Sous-traitance؟
لا يجب أن يراهن المغرب على التصنيع عبر المناولة، بل يفترض فيه التعويل على التصنيع الذي يفضي إلى تأسيس نواة صناعة محلية نتحكم في زمامها، هكذا، عندما تأتي "رونو"، فليس من أجل أن تفرض عليك تكوين مهندسين تنفيذيين، بل يتوجب عليك أن تنتزع منها تكوين مهندسين يمكنهم بلورة مشاريع Ingénieurs de conception، كي تتمكن من التحكم في المسار التكنولوجي للصناعة. فالدول التي نجحت هي تلك التي بنت نموذجا على التصنيع ونوعا من التوافق القوي Consensus fort.
ماذا تعنون بالتوافق القوي؟
يعني ذلك أنه عندما يأتي الفرقاء الاجتماعيون إلى طاولة الحوار، لا يفعلون ذلك استنادا إلى موازين القوى، بل على أساس المصلحة العامة. خذ مثلا النموذج الألماني، فعندما يأتي الفرقاء الاجتماعيون للحوار، يعلمون أن هناك خطا أحمر متمثلا في المقاولة التي يجب حمايتها وإنقاذها. ومادام هذا الاعتبار حاضرا بقوة لدى الجميع، فإنهم يتحاورون ويقبلون بتقديم تنازلات، حيث يقبل العمال، عند نشوب أزمة، ببعض التضحيات على مستوى أجورهم وساعات العمل، بينما يلتزم مسيرو المقاولة بتوزيع ثمار النجاح الذي تحققه في السوق، عندما تكون الظرفية مساعدة. هذا التصور غير مكرس عندنا في المغرب، حيث تعتبر المقاولة ملكا لصاحبها، الذي مازلنا نطلق عليه وصف "مول الشكارة"، والحال أنها ليست ملكا له، فهي تتمتع بالشخصية المعنوية والجميع معني بها.
يتجلى من حديثكم أن النموذج هو مسألة رؤية وثقافة مقاولاتية؟
أتصور أنه إذا جاء النموذج التنموي، كي يحدد كهدف له التصنيع مع تحقيق توافق قوي، فإنه سيترك للمجتمع إمكانية الاستفادة من ثماره. لا يوجد بلد وضع خطاطة مسبقة Maquette حول النموذج المأمول. مثل هذه المقاربة لن تعطي نتائجها، يفترض أن يكون النموذج مستندا على الصناعة والتوافق القوي حول تدبير النزاعات والاختلافات.
هذا هو الذي سيفضي إلى تمثل المجتمع لمعالم النموذج الذي يتجلى جوهره بعد سنوات، كي يسمى بعد ذلك بـ"النموذج المغربي". فالحزب الشيوعي الصيني، لم يأت بنموذج جاهز، حيث أن المهم بالنسبة له، كان إحداث الأرضية لذلك، عبر تشجيع البحث والتطوير، وعندما تأتي من أجل إنجاز مشروع في البلد في إطار المناولة، يفرض عليك الامتثال لرؤيته للتصنيع المفضي لتوفير مسلسل صناعي، يقوم على نقل التكنولوجيا.
الوقت يضغط على بلد مثل المغرب الذي يعاني من هشاشة النمو وتفشي البطالة واتساع الفوارق الاجتماعي، كم سيستغرق مسلسل التصنيع من أجل الوصول إلى نموذج يمكن أن نصفه بالمغربي؟
في البلدان الغربية، أي أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، استغرق مسلسل التصنيع حوالي قرنين، وامتد في كوريا الجنوبية على مدى ثلاثة عقود، واقتضى من الصين حوالي 15 عاما، ويمكن للمغرب أن ينجز ذلك في ظرف 10 أو 12 عاما، لأن التصنيع اليوم لا يعتمد على الصناعة الثقيلة، التي تقتضي فترات زمنية طويلة، فالثورة التكنولوجية قلصت بشكل كبير مسار إنجاز أهداف التصنيع.
لكن في انتظار بلوغ أهداف مسلسل التصنيع، بما تتيحه الثورة التكنولوجية، ألا يمكن البناء على قطاعات صناعية يتوفر فيها المغرب على خبرة كبيرة؟
كل ذلك يبقى مرتبطا بالتشخيص، فأنت عندما تتحدث إلى المسؤولين، يقولون لك إن التشخيص معروف، وهذا غير صحيح. هناك العديد من القطاعات بالمغرب، بعضها موزع بين المهيكل وغير المهيكل، يجب إنجاز التشخيص حول الإمكانيات المتوفرة، وتحديد المحاور من أجل إعادة تشكيل الاقتصاد الوطني. أنا أتحدث عن اقتصاد بمعناه الحديث، فالرأسمالية صاعدة عندنا، لكنها غير مهيمنة، وبالتالي، لا نحتكم للعقلانية في المجال الاقتصادي، ثم إن العلاقات الاجتماعية المهيمنة، تحيل على ما قبل الرأسمالية، فما زلنا نتحدث عن "المعلم" و"المتعلم" و"الشيخ" و"المريد"..
كيف يمكن إقناع المغاربة بالانتظار عشرة أعوام أو أكثر كي يعطي النموذج الجديد ثماره؟
كي ينجح النموذج، لا بد من شروط، التي من بينها إعادة بناء الثقة، وهو ما يستدعي الحفاظ على كرامة المواطنين، التي تقتضي توفير فرص عمل وإتاحة مدرسة في مستوى انتظارات الناس. فالبلدان التي نجحت، خلقت لنموذجها شروط ذلك، التي من بينها انخراط المتجمع وتمثله، علما أنه إذا لم يكن جزء من المجتمع مقتنعا به، فلن يعطي النتائج المتوخاة. يجب أن يتقاسم الجميع النموذج ويتملكه، وهو ما يستدعي توضيح أن هناك تغييرا جار في صالح الجميع. هذا يقتضي الخروج من المقاربة التقنية والسياسية، وتبني مقاربة مجتمعية، التي تشمل الثقافي والسياسي والمؤسساتي والاقتصادي والاجتماعي.