د. كمال القصير - مفكّر مغربي
أدعو من خلال هذا المقال إلى هوية إسلامية متحركة، في عالم بالغ التغير، كمّا وكيفا وسرعة؛ حيث باتت التشكلات الحالية فيه للإنسان ذات طابع عالمي.
إن الهوية المتحركة مثل "الخيمة" التي يستطيع المسلم حملها، حيثما ارتحل، ويعيد تثبيت أوتادها وبناءها في كل مرة، في أمكنة وأزمنة مختلفة. إنها بخلاف الهوية الثابتة التي أكدت عليها بعض المدارس الإسلامية وناضلت من أجلها، وأخرجت الكثيرين من دائرتها الثابتة. وهي تشبه "البيت" بأساس متجذر وعميق، لكننا لا نستطيع حمله معنا إلى أماكن مختلفة في العالم، فيحتاج الآخرون أن يأتوا إليه، لكنه لا يذهب هو إليهم.
خيمة الهوية: إن جيل الإسلام الأول كان يفهم الهوية باعتبارها خيمة يحملها معه، متخففا من أعباء التصورات التفصيلية المجردة التي سوف تنشأ لاحقا مع الزمن، وتتطور لتصبح قاعدة ثقيلة لا يسهل حملها في العالم. إن قضية ذلك الجيل في الأساس كانت هي تعليم الإنسان كيف يتحدث مع الله، لا كيف يتحدث عن الله.
لكن خوض المسلمين عميقا في جدل الحديث عن الله قد أضعف كثيرا جذوة الفاعلية والحيوية في حركة العقيدة، ونزل درجة بمقصد التبشير الذي بداخلها "بشيرا ونذيرا". إن بنية العقل الإسلامي لم تعد تبشيرية دعوية، منذ زمن طويل، باستثناء بعض الجهود المحدودة، وذلك بعد أن كان التبشير قد أصبح عنصرا في بنية العقل العربي.
الهوية المتحركة: إننا بحاجة إلى الثبات والحركة معا، ففي أوقات الأزمات نحتاج الهوية الثابتة التي تمثل الاحتياط، وفي أوقات الانفتاح نحتاج الهوية المتحركة.
مشروع منفتح
إن حركة الإسلام في التاريخ تمضي، وفق مشروع منفتح، فتمدده في مناطق هو ذو صبغة صوفية؛ مثل إفريقيا وآسيا، وتمدده في مناطق أخرى ذو صبغة سلفية، وفي أخرى يمزج بين التصوف والأشعرية. ولعل إحدى أكبر مشكلات الإسلام السياسي المعاصر تتمثل في كونه مشروعا مقفلا بقوس مغلق، وفق كاتالوج ثابت، يعتقد أصحابه أنهم هم من ينبغي أن يفعلوا كل شيء للأمة.
في لحظة الأزمة، يحتاج الناس نظاما ثقافيا جديدا للاستمرار. ولذلك، انتشرت البوذية والكونفوشيوسية بتعاليم السلام الروحي في الصين واليابان، لتلبية احتياجات الناس، في أوج الفوضى والحروب الداخلية. وكذلك، عرف التصوف طفرة كبيرة مباشرة بعد سقوط الخلافة العباسية.
وعندما تصاب الواجهة السياسية للإسلام في التاريخ، كانت تعقبها ردة فعل ثقافية وروحية واسعة. وحدث ذلك بعد فترة التصدع السياسي والعسكري لنموذج الخلافة؛ حيث أعقبه ازدهار ثقافي ونشوء مدارس فكرية وروحية. والأمر ذاته بعد سقوط الخلافة العباسية، سياسيا وعسكريا؛ فقد حدث نمو لمدارس روحية ومشاريع تجديد فكري كبيرة.
إن الوضع الحالي بعد تصدع إحدى الصيغ الأساسية للممارسة السياسية في الإسلام، خلال السنوات الأخيرة، يفرض أن يعود الإسلام الثقافي والروحي لتصدر المشهد. لكن تنظيمات الإسلام السياسي تفتقد إلى الهوية المتحركة، فبعد أن تخسر سياسيا، تنكفئ حتى ثقافيا، والمفروض أن يحدث العكس تماما. فبعد أن تعرضت تلك التنظيمات إلى هزائم السياسة، أصابها الشلل حتى في هويتها وحركيتها الثقافية، التي في الأصل هي ما أوصلها إلى حقل السياسة. وهم الآن ينسون أدوارهم الثقافية.
المزج بين الرؤيتين
إن الهوية المتحركة هي التي تجعلك تقدم الثقافة، في حال فشل السياسة، أو تقدم الرؤية القومية وتأخر الرؤية الدينية إلى أجل معين، أو تقدم الاعتبار القومي على الإصلاح، أو مثلما يفعل الأتراك حاليا بنسيان جدل العلمانية، وتقديم صيغة تقارب بين الدين والقومية، وهي لعبة لا يتقنها العرب.
إن التحول من الكثافة في مرحلة نجم الدين أربكان إلى حالة التخفف والمزج بين الرؤيتين الدينية والقومية في مرحلة أردوغان يمثل نموذجا للهوية المتحركة. وفي كثير من الأزمنة، ينبغي إيقاف الإصلاح السياسي لفائدة إصلاح الإنسان.
أحد أسباب نجاح فكرة الليبرالية هي هويتها المتحركة؛ فهي في أمريكا بطبيعة معينة، وفي الصين واليابان تطبق بطريقة أخرى. الهوية المتحركة عبارة عن مصدر مفتوح وتشبه التطبيق الذي أنشأته شركة "مايكروسوفت"؛ فهي باعتبار امتلاكها المصدر، تنتج التطبيقات، ثم تجعلها مفتوحة للآخرين للتعديل عليها والإضافة، في كل منطقة في العالم.
إن الإسلام لا يتمدد إلا إذا انفتح على التعديلات والإضافات التي سوف يقوم بها الإنسان في أدغال إفريقيا والأمازون وجبال الهندكوش. ولا أظن أن الأناشيد الإسلامية ستكون مناسبة لهؤلاء.
هوية أهل السنة والجماعة، وفق الرؤية الحالية، ثابتة حول قاعدة من يدخل فيها ومن يخرج منها، وهو مفهوم تنقصه النزعة الإنسانية والروح التبشيرية التي تدعم الرؤية الإنسانية. وهذه التبشيرية الواسعة لا تمر عبر مكونات البيت السني الحالية، بل تمر من خلال ترميم ما نتج عن الصراعات التي خاضها الإسلام السياسي. إنها مرحلة الإسلام الثقافي التي تصحح كبوات الإسلام السياسي.
الهوية المتحركة تأبى التجريد: إن نقل معنى حديث الإنسان مع الله إلى الآخرين أقدر على إعادة العلاقة بين الإنسان والله، في هذا العالم الذي يتجه سريعا نحو تدمير جوهر الإنسان وقطع الصلة مع الروح. وإليك السؤال التالي: إلى أي حد تستطيع الهوية الإسلامية أن تكون أكثر حركية لتفرض نفسها في العالم، من منطلق مدارس؛ مثل السلفية أو الأشعرية أو التصوف أو غيرها؟ الجواب من وجهة نظري أنه لا في الغرب ولا في الشرق، بإمكان هذه المدارس أن تجسد حركية الهوية الإسلامية حاليا، بسبب ضآلة حضور الإنسان في تركيبتها، أو في سعي بعضها لإذابة الإنسان.
السلام الروحي
وهي مازالت تعاني غياب الفاعلية، بسبب احتفاظها بالبنية الإشكالية نفسها، وهي جدل الحديث عن الله، لا مع الله. إن هويتنا ينبغي أن تقدم للناس طرقا في بلوغ السلام الروحي.
لقد طورت المدارس الإسلامية، في جدالاتها واحتكاريتها المستمرة، ما يشبه "الخوف على الله"، وأنتجت علم الخوف من الخطأ في الحديث عن الله في إثبات صفة لله أو نفيها، أو أن ينسب له ما لا ينبغي، دون اعتبار منها لكون كل ذلك مما لا يخضع لتحليل العقل ولا قدراته. إن هذا المنهج لا يمكنه بهذا الوضع أن يمنح الناس سلاما روحيا.
إن الهوية العقدية ينبغي أن تنقلب إلى مجال تعارفي مع الله، وهذا ما قصده عز الدين ابن عبد السلام، في كتابه "شجرة المعارف والأحوال"، من أن الصفات مجال للتخلق، فتنقلب علاقة الذكر إلى حال من أحوال التعرف. وفي رأيي، فإن طريقة عرض ابن عبد السلام للمعتقد الإسلامي أفضل مما ذهب إليه علماء الكلام؛ فهو يرى أن الصفات في حقيقتها أوامر بالأفعال، فعنده أن المعرفة أعلى من الاعتقاد، والإيمان المبني عليها أفضل من الإيمان المبني على الاعتقاد.
وفي حين يتصارع الكثيرون حول طبيعة سمع الله، فإن ابن عبد السلام يرى أن ثمرة صفة السمع، هي حياؤك أن يسمع منك ما لا يحب. أما صفة كلام الله التي فرقت المسلمين، فيرى أن التخلق بها هو التكلّم بكل ما دلّ عليه وأرشد إليه الإله، وتعليم الناس ما أمر بتعليمه. والخلاصة أن هذا المنهج قفزة هائلة في بناء الهوية الإسلامية المتحركة.
إن ربط العقيدة، بوضعها الحالي، بالدعوة، لا يؤدي إلى نتائج كبيرة، خاصة أن دعوة الآخرين تحتاج إلى قصة تُروى. إنك إذا سألت صحابيا عن معنى هويته التي يحملها، فسوف يكون جوابه، بلا شك، روحانيا وبسيطا وعمليا. وربما تسأل السؤال نفسه لأحد المعاصرين، فتجده جوابا تجريديا باردا.
الروح المنفتحة على العالم
سوف يزداد بحث الإنسان عن إنسانيته في المستقبل، كلما زاد حجم الذكاء الاصطناعي. وستكون الأديان والمذاهب الأكثر قدرة على تقديم رؤية روحانية للناس هي الأكثر انتشارا، بغض النظر عن انحرافاتها.
إن ردة فعل إنسانية قوية على مساعي زعزعة روح الإنسان، سوف تكون واقعا حقيقيا لا يمكن تفاديه، فتلك قوانين التاريخ والاجتماع.
إنهم في الغرب يفصلون بين الدين والروحانيات، ويريد الكثيرون التخلص من الدين، لكن الاحتفاظ بالروحانيات؛ لأنهم يعتبرونها مجالا للتساؤلات العميقة التي تقود إلى الابتكار، مقابل الدين الذي يرون فيه إجابات محددة لا ترضي عطشهم وتناسل الأسئلة في أذهانهم. الأسئلة في تصورهم لا يترتب عليها نتائج ومحاسبة ووعيد. لكن الأجوبة لابد بعد توفرها أن ينتج عنها منطق المحاسبة.
لقد أصبح تطوير الروحانية الإسلامية أمرا حتميا، إذا أردنا أن يبقى للإسلام موقعه في المستقبل.
إن الهوية المتحركة قصة كبرى لا تكتمل إلا برواية تفاصيلها للعالم. وبمقدار القدرة على نسج قصة الهوية، يتحدد موقع المسلمين وتأثيرهم. إن وجود قصة كبرى هو ما منح الوجود لمجموعات صغيرة، كادت عجلة التاريخ أن تدهسها.