"إن قضية من قبيل المشاركة السياسية للمرأة، أورئاستها للدولة، في رأيي، مسألة لا تحتاج إلى فتوى دينية، وإقحام الدين فيها خروج عن الشرع، لأنها قضية دنيوية وليست دينية، وكل قضايا علم السياسة، التي مرجعها إلى السلطة السياسية، ليست من اختصاص المفتين، وليس مطلوبا منهم الخوض فيها أو العودة إليهم لحسمها"، صاحب المقولة، ليس شخصا علمانيا، إنما سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة المغربية، وأول أمين عام لحزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الإسلامية، بعد مؤسسه عبد الكريم الخطيب. هنا ملامح الوجه الآخر للعثماني: الفقيه المناهض للوهابية.
أدلى العثماني بذلك الموقف، أثناء تعقيبه على قراءات في كتابه الجديد "التصرفات النبوية السياسية، دراسة أصولية لتصرفات الرسول (ص) بالإمامة"، قدمها المغربي أحمد الريسوني، والتونسي نور الدين الخادمي، والعراقي الشيراني شروان، قبل أيام في الدار البيضاء، أجمعوا فيها على أن كتابه "مشروع فكري كبير، وأهم من رئاسته للحكومة"، في وقت كشف فيه المؤلف، أن في جعبته 10 كتب على نفس المنوال أوقفها بعد تعيينه رئيسا للحكومة.
وبالنسبة إلى الفقهاء الثلاثة، الإصدار الجديد للعثماني، ليس مجرد "كتاب"، بل أكبر من ذلك، والوصف الدقيق له هو "المشروع الفكري، الأهم من رئاسته للحكومة، رغم منافعها بدورها"، ويذهبون أبعد من ذلك، فيقولون "إنه مشروع يجب أن ينشر على أوسع نطاق، ويتحول إلى ثقافة عامة في المجتمعات الإسلامية، وألا يقتصر على جمهور العلماء".
إشكال ذهني
لا يخفي سعد الدين العثماني، المولود في 16 يناير 1956 بمدينة إنزكان في سوس، وسط أسرة الوالد فيها هو الفقيه العالم امحمد بن عبد الله العثماني، وعائلة معروفة تاريخيا، وفق صفحة باسم أبيه في "فيسبوك"، باشتغال أفرادها في الإصلاح الديني منذ 1000 سنة، ما تطلب من المختار السوسي، أن يخصص لها في كتابه "المعسول" 160 صفحة، (لا يخفي)، أن تلك الخلاصات المستفزة لمدرسة فقهية معينة "كان الدافع إلى إشكال ذهني عندي، عملت على أن أجد له حلولا علمية".
ويتلخص الإشكال الذي استبد بذهن العثماني، في سؤال هل كل ما صدر عن النبي محمد، من أقوال وتصرفات، كلها تشريع، وكلها في حكم السنة النبوية التي يتبعها كثيرون اليوم؟ فبدأ يبحث ويقارن ويطابق، فـ"تفرع ذلك إلى عشرات المقالات، بعضها، تحول إلى كتب"، منها حسب العثماني، "المنهج الوسط في التعامل مع السنة النبوية، الذي طبع في دول كثيرة، منها المغرب ومصر والأردن، والآن تتم ترجمته إلى الكردية".
وفيما يذكر العثماني، أيضا، كتب "جهود المالكية في تصنيف التصرفات النبوية"، ثم "الدين والسياسة تمييز لا فصل"، و "الدولة الإسلامية المفهوم والإمكان"، أضاف أن كل ذلك، توج بكتابه الصادر في شتنبر الماضي، « التصرفات النبوية السياسية، دراسة أصولية لتصرفات الرسول (ص) بالإمامة "، الذي "يعد في الأصل بحثا لنيل شهادة الدراسات المعمقة في 1999، ناقشته أمام لجنة مناقشة من أعضائها الدكتور أحمد الريسوني، وتطلب التصحيح والمراجعة والتنقيح، سنوات انتهت بنشره في 2017".
ويؤكد أحمد الريسوني، ذلك المعطى، بقوله: « الكتاب الجديد، الذي أراه مشروعا فكريا وإصلاحيا وتجديديا، أتابع تطوراته منذ 30 سنة، فالرجل يشتغل في هذا الموضوع منذ سنوات، وحتى مؤلفاته الأخرى معظمها تدور حول الموضوع ذاته، لذلك ليس مفاجئا أن يكون عملا علميا جامعيا، وتجديدا ومنعطفا تاريخيا في علوم الحديث والفقه والسياسة الشرعية، وينطبق عليه وصف الدراسة الأصولية".
ويرتكز "المشروع الفكري" لسعد الدين العثماني، رئيس الحكومة المغربية، على فكرة أساسية هي "التمييز بين الديني والدنيوي"، لأنه مسألة، حسب العثماني، « تتبعت بشأنها أقوال العلماء عبر القرون، بداية من الطبري، ووقفت على أن كلها، تعبر بوضوح عن التمييز "، مضيفا أن "هناك نصا دينيا صريحا وصحيحا، يتعلق بقضية تأبير النخل المعروفة، أورده مسلم، وفيه: إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، وإذا كان من أمر دينكم فإلي".
إقرأ أيضا: أيلال: هدفي القضاء على "خرافات البخاري" .. وخفافيش الظلام هددوني بالقتل
وقضية "تأبير النخل"، التي يقول العثماني، إنه اشتغل عليها لوحدها، فأعد كتابا حاسما في قضية الفصل بين الديني والدنيوي، سينشره بعد انتهاء من مسؤولية رئاسة الحكومة، تفيد المعلومات حولها، أن نبي المسلمين، قدم إلى المدينة فوجد الناس يأبرون النخل، أي يلقحونه، فسألهم ماذا تصنعون ؟ولما أجابوه، قال "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا"، فتوقفوا عما يقومون به، ولكن لما توضحت لديه الصورة، عاد وقال "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم في دينكم فخوذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر".
علاج لبلاء العصر
العثماني، وهو يدافع على أن كل ما قاله النبي محمد، وما صدر عنه من أفعال، ليس كله من الدين، وليس من الضرورة الأخذ به في العصر الحالي، أو اعتباره من السنة، أوضح أن الذي أنتج الخلل وأوقع الناس في الخطأ، يعود إلى "جمود في العالم الإسلامي، وإلى قيام بعض الفقهاء برد فعل متشدد ضد تحدي العلمانية المتطرفة في القرن 19، فقرروا، الانخراط في مدرسة فقهية، عقدت على الناس دينهم ودنياهم".
في هذا الصدد قال العثماني: "أنتم تعرفون أنه في قوانين الفيزياء، رد الفعل يكون أعنف من الفعل أو في مستواه، لذلك لما عاد بعض الذين درسوا في فرنسا خلال القرن الماضي، إلى العالم الإسلامي، ومعهم أفكار علمانية ما قبل دستور 1905 بفرنسا، المتميزة بتوتر وقطيعة حادة بين الدولة والمؤسسات الدينية، كان رد فعل العقل المسلم معاكسا بنفس قوة الفعل، فتطرفوا، وأنكروا الدنيوي، وقالوا هناك الدين فقط ".
المشروع الفكري للعثماني ارتقى به إلى مقام علال الفاسي، وقد أبرز في كتابه الجديد مسألة مهمة جدا هي أن الرسول كانت له أفعال جبلية، يقوم بها بصفته إنسانا، وبالتالي ليس لها لزوم تشريعي ولا يلزمنا منها شيء، لذلك اعتبر أنه كتاب يعالج ما ابتلي به عصرنا من اختلالات كبيرة في فهم السنة النبوية، هي أصل المغالاة (الريسوني).
ويوافق أحمد الريسوني، عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاحـ العثماني في رأيه، فيقول في شهادته، إن "مشروع العثماني يعالج ما ابتلي به عصرنا من اختلالات كبيرة في فهم السنة النبوية، فالملايين من الشباب المتدين في العالم الإسلامي يتعاملون بخلط وخبط مع السنة النبوية، والكتاب دواء لبلاء تقف وراءه مدرسة معينة في الدعوة الإسلامية، رسخت اختلالات هي منبع المغالاة، لذلك يجب الحرص على ترويج هذا الدواء لمواجهة تيار التسطيح والخلط".
ويعطي الريسوني، مثالا بقضايا بسيطة وتصرفات يتشدد فيها كثيرون ويعتبرونها من السنة النبوية، منها "التصرفات الاجتماعية، من قبيل ارتداء العمامة التي لا علاقة له بالسنة، بدليل أن كل ذلك موجودا عن العرب قبل الإسلام، وأصلها اتقاء ضربة الشمس، علاوة على الحلوى والسكر، فإذا كان الرسول (ص) يحبهما، فهما في عصرنا مادتين يشكلان الكارثة، لا علاقة لأكلهما من عدمه بالدين".
العلماني "لايت"
"تصرفات النبي ليست كلها من مستوى واحد, إنما تصدر عن مقامات وأحوال، فهناك فرق بين أقواله وتصرفاته وهو يؤدي وظيفته الدينية بالبلاغ، وأحوال يبين فيها، أي يدلي باجتهادات يمكن أن يصيب فيها أو يخطئ، كما له يتصرف فيها ككل البشر وكجميع الناس"، يقول العثماني، موضحا "ليس من الصحيح القول إن الرسول (ص) لا ينطق إلا بالوحي، فأن يقول لشخص إعطيني ماء, هل لابد من وحي في هذا؟ إنها تصرفات بشرية دنيوية وليست دينية، والحد الفاصل في التمييز يتطور عبر العصور حسب فهم الناس واجتهاد العلماء".
ويذهب سعد الدين العثماني، أبعد من ذلك، فيقول إن التمييز بين الديني والدنيوي،يتوسع ليشمل حتى السياسة وشكل الدولة، وغيرها من القضايا المثيرة للجدل, ليقر بوجود تمايز بين الدين والسياسة، أي الدرجة "لايت" المتراوحة بين العلمانية الحادة، ممثلة في الفصل التام بينهما، ودرجة الارتباط بينهما، التي تؤدي إلى قيام الدولة الدينية التيوقراطية الحاكمة باسم الله، الذي اعتمدته طالبان في أفغانستان، ويطبقه تنظيم "داعش" في المناطق التي سيطر عليها بالعراق والشام.
وفي هذا الصدد يقول العثماني: "ليس هناك دولة يمكن أن نقول إنها إسلامية، فالدولة مشتركة بين الناس، تماما كما لا يمكن أن نقول إن هذه الطاولة إسلامية أو هذا الميكروفون إسلامي إن الدولة مشترك بين الناس"،مضيفا « الكثير من القضايا التي تناقش اليوم على أساس أنها قضايا فقهية ليست كذلك، بل هي دنيوية".
أما "صلاحيات المسؤولين، والمؤسسات السياسية، والحاكم المنتخب، هل نحدد له الولاية أم لا نتركه حتى يموت كالخلفاء الراشدين، فناك عشرات الأدلة، فعندما كانت تتم مناقشة من يتولى خلافة الرسول، في سقيفة بني سعيدة، قال عمر بن الخطاب لما أراد تقديم أبي بكر الصديق: أراده الرسول لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا. ما يعني أن تولية الحكم وغيرها من الأمور المرتبطة به، شؤون دنيوية وليست دينية ".
ولا يخفي العثماني، أنه تتبع الموضوع وإشكالاته، سنوات، فـ"وصلت إلى خلاصات، تجعلني أقول إن كل قضايا علم السياسة المتعلقة بالسلطة السياسية، ليست من اختصاص المفتين، وليس من المطلوب أن تصدر فيها فتاوى، فهي قضايا دنيوية وليست سياسية، مثل قضية التعددية السياسية، ومشاركة المرأة السياسية، وأن تتولى المرأة رئاسة الدولة أو لا، ليس قضية دينية "، ثم حسم بجرأة "إقحام الفتوى في تلك القضايا، يعد في رأيي، خروجا عن الشرع".
التمييز بين الديني والدنيوي ضروري لتخليص المسلمين من آثار عصور التخلف،لا يجب أن نعتدي على الدين وندخله فيه ما ليس منه، لأن فيه تجميد لدنيا المسلمين و دينهم، ما يعد اعتداء على واقعهم ومستقبلهم (العثماني).
ويضيف العثماني، في سياق حديثه عن كتابه الجديد، قائلا: "هناك أمور مازالت متسللة إلى واقع المسلمين وعقولهم، لم يزيلوا عنها بعد صفتها الدينية، لأن الفهم لم يكن سديدا فيها، هذا هو المقصود من البحث الذي قمت به، وعلى كل أنا موجود لتوضيح الأمور لكن بعد أن أخرج من رئاسة الحكومة، فعندي مسؤولية أتقلدها، يجب أن أقوم بها على الوجه الصحيح ووفق المستطاع".
وفيما يدافع العثماني على فكرة أن "التمييز بين الديني والدنيوي في تصرفات الرسول، محور أساسي من محاور التجديد في العقل المسلم، ومسألة تفيدنا في معرفة ما يدخل في الشريعة وما لا يدخل فيها، والتي من غير المعقول أن تدخل فيها"، يسانده الفقيه المقاصدي، أحمد الريسوني، قائلا "إن المشروع الفكري لسعد الدين العثماني، يرتقي بشخصه ملى مقام علال الفاسي، ومحمد عبدو، ويوسف القرضاوي".
ويشدد الريسوني، مضيفا: "لقد أوضح العثماني على نحو موفق، أن ما صدر عن النبي من أقوال وأفعال كان يقع منه على صفات متعددة، ما يجعل أقواله ليست كلها شريعة، فتشريع النبي درجات، منه الآني، والمؤبد، والخاص، والعام، والتوجيه الفردي ، كما في أقواله ما لا يلزم الناس أصلا، ولقد قام كتاب سعد الدين العثماني، بتصنيفها ووضع كل قول في موضعه".
إقرأ أيضا: بنسعيد العلوي: القرآن ليس كتاب علم.. والإسلام السياسي لا يعترف إلا بالقتل
أما نور الدين الخادمي، وزير الشؤون الدينية للجمهورية التونسية في حكومة حمادي الجبالي بعد "ثورة الياسمين"، فيقول "إن كتاب العثماني الذي يأتي في سياق تزايد التجارب السياسية بالمرجعية الإسلامية، يكمل جهودا في تجديد الفقه، وأجاب بدقة أن الدولة الإسلامية دولة مدنية بمرجعية إسلامية، ما يجعلنا أمام كتاب نوعي في مجال الفقه الإسلامي".