الوزير بن عبد القادر: يجب مراجعة أجور الوظيفة العمومية لاستقطاب الكفاءات وهكذا نحارب الأشباح (2/2)

أحمد مدياني

في الجزء الثاني من حوار "تيل كيل عربي" مع  الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالوظيفة العمومية واصلاح الإدارة محمد بن عبد القادر، يتحدث الأخير عن كتلة الأجور في الوظيفة العمومية، ويصفها بأنها "غير عادلة ويجب مراجعتها" بل ذهب حد القول إن "الأجور المعروف سقفها اليوم قد تهدد بتصحر المرفق العمومي". كما يتطرق الوزير لما وصف بفوضى التكوين المستمر في الوظيفة العمومية وتدبير الزمن الإداري ومعضلة "الموظفين الأشباح".

*يتحدث المسؤولون دائماً عن ارتفاع كتلة الأجور في الوظيفة العمومية، لكن بلغة الأرقام، التقرير المرفق بقانون مالية 2019 الخاص بالموارد البشرية يتحدث تحديداً عن 568 ألف موظف مدني أي ما نسبته أكثر بقليل من 4 في المائة من الساكنة النشيطة للمغرب و1.70 في المائة من مجموع الساكنة في المملكة.

أولاً الخلل في ما يتعلق بنسبة الموظفين في علاقتها بالساكنة مرتبط بالتوزيع، وأنا أرى أن المغرب في حاجة مستمرة في مجموعة من القطاعات الاستراتيجية لموارد بشرية لتوفير الخدمة في أبعد نقطة.

وحسب التقارير التي أنجزناها، انتشار الموظفين فيه خلل كبير، وهذا الأمر أشار له المجلس الأعلى للحسابات، حيث تجد تمركزاً كبيراً للموظفين في قطاعات وأقاليم معينة دون غيرها، وهذا يتسبب في عدم التوازن بين توزيع الموظفين وعدد الساكنة.

بل أكثر من ذلك، ودون ذكر أسماء الجهات كي لا أثير حساسية معينة، وجدنا أن جهات أقل ساكنة من ناحية الكثافة وفيها عدد أكبر من الموظفين، واليوم لدينا 17 موظفاً لكل ألف مغربي، لا يمكن أن أقدم المعدل العام على الصعيد الدولي بالنظر إلى من يدخلون في صنف الموظفين.

ما يمكن الآن أن نقوم به هو سياسة جديدة لإعادة الانتشار لخلق نوع ون التوازن.

*(مقاطعا) ما طرحته في السؤال هو تفسير الحديث عن ارتفاع كلفة الأجور في الوظيفة العمومية لكن بلغة الأرقام نجد أن الموظفين المدنيين لا يشكلون سوى 1.70 في المائة من المغاربة الذين يبلغ عددهم أكثر من 35 مليون نسمة.

هذا المشكل مثل ما يقال عن التعليم، ويقال إن الانفاق العمومي عن التعليم من أعلى معدلات الإنفاق في منطقة شمال إفريقيا ولكن هذا خيار لا رجعة فيه.

الملاحظات التي تطرح أتفق معها إن ربطها بالمردودية والبحث عن النتيجة، وتقديم نموذج إداري جيد يقدم خدمة سريعة وذات جودة.

*سوف أطرح السؤال بصيغة أخرى، ألا ترى أن أجور الموظفين الكبار تعتبر مشكلاً بالنظر إلى معدل أجور صغار الموظفين، خاصة أمام فشل ورش تحديد السقف الأعلى للأجور والحوافز في المؤسسات العمومية؟

المجهودات التي بذلت في السنوات الأخيرة قلصت الفوراق بين الأجور الدنيا والأجور العليا 26 مرة، أولا حذفت بعض السلالم الدنيا وأقرت زيادات متتالية خلال السنوات الأخيرة، وهذا المجهود سوف يستمر.

لكن أيضاً، القول إنه هناك رواتب عليا في الوظيفة العمومية فيه مبالغة والاجحاف، وأتحدث هنا عن القطاع العام والوظيفة العمومية فقط، بل أقول إذا لم نعد النظر في منظومة الأجر لتحقيق العدالة سوف نصبح أمام مشكل تصحر الإدارة المغربية من الكفاءات.

*كيف؟

إذا كانت الإدارة المغربية مدعوة إلى تجويد خدماتها، والولوج إليها يكون سهلاً وليس متشعبا، يجب أن تستثمر في الموارد البشرية، والواقع اليوم أن الإدارة العمومية لم تعد تستقطب الكفاءات، هذا واقع يجب قوله للمغاربة، والسبب هو أن سقف الأجور معروف.

أنا لا أتحدث عن المناصب العليا، يعني من يتحملون مسؤوليات استراتيجية كبيرة جداً، ولا تقتصر مهامهم على الوظيفة التنفيذية أو الوسطة.

الإشكال هو أنه موظف ما، قد يكون اليوم كاتباً عاماً في وزارة وله راتب معين، وغداً يمكن أن يفقد هذه المسؤولية وسوف يعود إلى نفس السلم الأصلي. لا أعتقد بأنه هناك تضخم في الأجور، والتعويضات عن المهام شيء آخر.

موضوع آخر يجب الحديث عنه، وهو تفعيل مرسوم 2016 للتعاقد مع الخبراء، عدد من القطاعات الحكومية وبعد 3 سنوات من اقراراه، فتحت مباريات لاستقطابهم ولكن لم يكن هناك تجاوب، وهناك من طلب مبالغ خيالية، بل يفضلون القطاع الخاص.

الخوف والقلق اليوم ليس الأجور الخيالية التي أعتبرها أساطير تروج، بل الخوف من استقطاب أحسن الكفاءات التي تحتاج أجوراً تناسب تكوينها وخبرتها.

اليوم لا يمكن أن نستقطبها بسبب سقف الأجور، والذي لا يتجاوز 13 ألف درهما للموظفين العاديين باستثناء بعض الاختصاصات المحدودة، وبهذا السقف لا تستطيع اليوم استقطاب الكفاءات للإدارة، لذلك نحتاج إعادة نظر شاملة مقرونة بالمحاسبة كما قال الملك في خطبه "التحفيز والتأديب".

لذلك يجب أن نشدد على ضرورة أن يكون المنصب وأجره مقروناً بالمردودية، يعني لا يمكن أن رواتب وحوافز مطمئة وأن لا نتحاسب معهم على النتائج، وأي منصب وأي أجر لا ينعكس بأثر فوري وإيجابي ومباشر على المواطن لا طائلة منه.

من يأتي للوظيفة العمومية يعلم أنه جاء لخدمة المصلحة العامة، والدول تتعامل لمنطق أنه من يؤدي هذه المهمة يجب تأمين أوضاعه، ولا يبنغي أن تكون أوضاع من يخدم المصلحة العمومية هشة ومهزوزة، لذلك هناك حرص على الحوار مع ممثلي الموظفين لاصلاح الوظيفة العمومية.

*نظمتم مناظرة في الصخيرات حول الوظيفة العمومية، حاولتم من خلالها جعل كبار الموظفين والمدراء والمكزيين والمسؤولين حلقة الوصل مع الموظفين الصغار لتنزيل رؤية الاصلاح، لكن من بين ما طرح من طرفهم غياب العدالة في الحصول على الامتيازات والحوافز، واختلافها من قطاع إلى آخر.

مناظرة الصخيرات كان فيها التركيز على الوظيفة العمومية العليا، وربما الأمر لم يطرح بهذه الصيغة.

جمعنا حوالي 622 موظف سامي، لمناقشة كيفية إعادة هيكلة الوظيفة العمومية لتكون قاطرة للإصلاح، ونحن فعلاً بصدد تنفيذ توصياتها، ومن بينها إعادة النظر في مساطر التعيين في المناصب العليا لتكون أكثر نجاعة.

مسألة التفاوت في الأجور والحوافز ربما تثير بعض الحزازات بين قطاعات أوخرى، لكن يبنغي الاقرار منذ البداية أنه إذا قمنا بجرد للمهن والوظائف في القطاع العمومي فإنها تختلف، طبيب في مستشفى في الدار البيضاء ليس هو الذي تم تعيينه في تنغير، وفعلا هناك وظائف رغم تشابهها تباشر في أوضاع مختلفة تماماً.

ما نسعى إليه اليوم هو خلق المزيد من الانسجام في الوظيفة العمومية، والنظام الأساسي لهذه الأخيرة تتفرع عنه 40 نظام أساسي خاص، ويشمل 42 هيئة، ونفكر لخلق المزيد من الانسجام تقليص هذا العدد، لتقريب أنظمة الترقية والتعويضات والتحفيزات والقطع الحزازات والتفاوتات في الأجور بين الموظفين.

*إعادة الانتشار تفرض تكوينا مستمرا تفرض إعادة استغلال الكفاءات بما يخدم المرفق العمومي، لكن هل ميزانية الدولة يمكن لها تحمل هذا العبئ لصالح الموارد البشرية.

كل ما طرحته صحيح، ولكن بخصوص الكلفة أقول لك إن زاوية النظر الميزانياتية المحضة يمكن أن لا تكون مفيدة في هذا الشأن، ولا أعتقد أنها موجود بالنسبة لحكومة المغرب اليوم، وأؤكد ذلك.

إذا كان هناك استثمار يحتاج ميزانية إضافية ومكلف لكن لدينا وعي بأنه له مردودية وأثر إيجابي سوف نحتمله.

هناك فوضى في التكوين المستمر داخل الوظيفة العمومية، بل فوضى عامرة رغم وجود إرادة عند بعض القطاعات انطلاقاً من خصوصيتها وتتوفر على مخططات صارمة لتتبع التكوين المستمر ومردوديته.

كما أن هناك قطاعات أخرى لا تتوفر على اطار مرجعي ملزم، ويفعل الجدوى من التكوين المستمر، هذا الأخير ليس دوره فقط تعزيز القدرات وتطوير الكفاءات، بل أيضا كما هو الحال عند جيراننا الإسبان، التكوين يحتسب في ملف الموظف الخاص بالترقي ولا يمكن أن يحصل على الترقي دون استفادته من عدد من التكوينات التي تجيب عن حاجيات المواطنين المتغيرة، ولا يوجد نموذج للتنمية لا يجيب عن سؤال ماذا سوف نقدم للرأس المال البشري.

الوظيفة العمومية على عكس ما يظن البعض، ليس فقط سوف تستمر بل ستتعزز وتتقوى أكثر، ولكن ليس بالتكوينات المطروحة الآن.

ولنتحدث بصراحة، مجموعة من التكوينات اليوم أصبحت ذريعة للتحرر من رويتن العمل، وعندما تطرح السؤال على الموظف أين ستذهب وتترك مكتبك يجيبك "عندي تكوين مستمر؟" ولكن مردوديته لا يتم تقييمها.

هل توجد عند القطاعات الحكومية قاعدة بيانات للموارد البشرية في الوظيفة العمومية التي استفادة من التكوينات المستمرة؟ ! ونقول هؤلاء أصبحوا يمتلكون كفاءات عالية، يمكن أن يكون مدرساً لكن استفاد من دورات تكوينية مكنته من امتلاك اللغات أو تدبير المشاريع وتركيبها أو التقنيات الرقمية، أكرر السؤول هل ملفه في قاعدة بيانات القطاعات الحكومية يتضمن هذه المؤهلات؟ يمكن أن نحتاجها وأن يطور أداءه.

نحن ملفات الموظفين تتضمن فقط، الوصف الوظيفي وكم تبقى من أيام العطل، يعني التدبير الإداري المحض لملف الموظف على أساس الواجبات والحقوق، ووليس ملفا يتضمن كفاءته، لذلك نحن نحتاج لإعادة مراجعة كل هذا.

في المغرب لدينا مديريات للموارد البشرية، ولكن حقيقة ما نتوفر عليه هو: مديريات لإدارة الموظفين وليس البشر، لأن هذا الأخير يحتاج الاستماع إليه أولاً والاستثمار فيه والبحث عن الحاجيات التي يحتاجها لتطوير قدراتها لأنك في حاجة إليه، وأن تتوفر على تدبير توقعي لما سوف توظفه فيه، لأنه منطق التعامل بالطارئ في الوظيفة العمومية غير سليم.

التكوين المستمر يحتاج التخطيط والاستثمار والموارد البشرية والمالية، وأن يتوفر كل قطاع على مخطط وبرنامج سنوي، أيضا الاتفاق على منطلق اطلاق التكوينات المستمرة وهل تغض للطلب أو العرض؟ هل هناك جهات تقد عروضا أم هناك طلبات مدققة بناء على حاجيات مضبوطة نعبئ لأجلها الموارد البشرية والمالية، وندرج من خلالها من استفاد من التكوين ضمن قامة من سوف ينقلون خبرتهم إلى باقي الموظفين.

اليوم وهذا هو الأهم نتوجه نحو جعل التكوين المستمر ضمن حقوق الموظف ووجبات الدولة في كل قطاع وزاري، ضمن منظور استثمار استراتجي في العنصر البشري.

*في سياق ورش اصلاح الوظيفة العمومية وإعادة الانتشار وتدبير الزمن الوظيفي وتوظيف الكفاءات... هل يمكن القول إن المغرب اقترب من التخلص من معضلة الموظفين الأشباح؟ وهل اعتمدت آليات وإجراءات جديدة لضبطهم؟

الموظفين المتغيبين بكيفية غير قانونية عن العمل، وهذا هو التعريف الإداري، وأنتم تفضلون وصفهم بـ"الأشباح". التشخيص الذي قمنا بها في الوزارة جعلنا نصل إلى قناعة أن هذه الظاهرة موجودة وفي تقلص

الحديث عن "الأشباح" مشوق ويفيد بتوصل عدد منهم بأجورهم دون تأدية مهامهم، لكن هذا الوصف يخفي ظاهرة أخطر وهي ما يوصف بـ"الفسيتة ديالو هنا"، أي هدر الزمن الإداري "حضورياً"، هذا من يجب ضبطه، خاصة وأن هناك من يقول لك "ها هو مشا غير هنا".

"الأشباح" هناك اليوم آلية لضبطهم من خلال قاعدة بيانات رقمية تتوصل بها وزارة المالية، هذه الأخيرة تجد أحياناً أنه في قطاع معين تم صرف راتب لـ165 موظفاً وفي الواقع تم احصاء 120 موظفاً فقط، وأخبركم أنه أحيناً "غير كنوقفو ليهم الراتب في آخر أول شهر كيجيو"، لكن تتم تنفيذ المسطرة الإدارية معهم.

لكن بدأت الظاهرة تتقلص، قبل أربع سنوات كانت هناك حوالي 600 حالة واليوم وصلت لحدود 270 ضبطت وتتخذ في حقها الإجرءات الإدارية، لا أنكر بأنها مستمرة، وتعود لمجموعة من العوامل، بل أحيانا نحتسب أحدهم شبحاً لكن نجد أنه في وضعية الحاق رسمية يقوم بمهام أخرى وهناك حالات، وهناك حالات فيها تواطؤ لأنه لا يمكن أن يختفي موظف هكذا ويتوصل براتبه.

دون التقليل من معضلة الموظفين "الأشباح"، أقول إن المشكل الأكبر كما قلت سابقاً هو تدبير الزمن الإداري، وهذا له علاقة بالنظام الوظيفي لأنه أحياناً نفتح المباراة ونوظف ثم بعد ذلك نبحث عن ما سوف نكلف به ذلك الموظف.

هناك وظائف تعتمد الصرامة في أداء موظفيها لمهامهم، لكن هناك وظائف في مكاتب مغلقة يجب ووضع آليات لتقييمها، ونحن نشتغل على دراسة مهمة تضع فرضية الاستهتار، ونحن نسبعدها، ونركز على مستوى توصيف المهام لتتبع ومراقبة الموظفين بعيدا عن عقلية "البوانتاج".