بعد فاجعة مقتل الشقيقين الحسين وجدوان الدعيوي، اندلع توتر اجتماعي بجرادة، من شعاراته المطالبة بإحداث البديل الاقتصادي الموعود به منذ 1998، ومحاسبة "بارونات" الفحم. "تيلكيل – عربي"، شد الرحال إلى مدينة آبار الموت، وأعاد تركيب قصة الأزمة التي تغرق فيها المدينة منذ 2001، وحقق في كيف ظهر من يوصفون بـ"البارونات"، وفي هوياتهم. إنهم سياسيون يتهمهم الشعب، بينما ينفون عن أنفسهم التهم، ويحملون المسؤولية للسلطة. هنا، الحقيقة كاملة بالوثائق والشهادات.
لم يكن مقتل الشقيقين الحسين وجدوان الفاجعة الوحيدة التي شهدتها جرادة، بسبب ما يسمى "التنقيب العشوائي أو غير القانوني عن الفحم"، كما أن معاناة مختلف العاملين في هذا القطاع، نقلتها "كاميرات" كثيرة، ورصد عشرات الصحافيين رحلة الفحم من "الساندريات" إلى حين إيصاله إلى عدد من المستودعات وبيعه، لتظل المرحلة التي يكتنفها الغموض، هو ماذا بعد المستودع؟ أين يذهب الفحم؟ وماذا يعني السكان بـ"بارونات الفحم"؟ وإذا كان نشاط الحسين وجدوان وأمثالهما، عشوائيا و"غير قانوني"، فمن يسمح باستمراره؟ ومن يربح من مآسيه؟
البحث عن أجوبة لتلك الأسئلة، قاد "تيلكيل – عربي" إلى جرادة، وهناك وجدت نقابيين وسياسيين يتحدثون بوجه مكشوف، ويشيرون بأصابعهم، لأول مرة علنا، إلى أسماء بعينها، تعترف بدورها، لكن لفهم حقيقة ما يقع، لابد من العودة إلى الوراء سنوات، واسترجاع قصة "إفلاس" أحلام مدينة جرادة، لينفتح الباب أمام النكبة، التي يعيشها الإقليم.
"إفلاس" حلم
الثلاثاء 26 دجنبر 2017.. مرت أربعة أيام على مقتل الشقيقين الحسين وجدوان الدعيوي، وبعد حملهما إلى مثواهما الأخير في اليوم السابق، كانت شوارع مدينة جرادة مهجورة من الناس، باستثناء بعض الموظفين المتوجهين إلى أعمالهم في الإدارات المحلية، وبعض المرضى، أغلبهم مصابين بـ"السيليكوز" ينشدون وسائل نقل تقلهم إلى المستشفى الإقليمي جرادة، الموجود على تراب جماعة لعوينات.
وحده مقهى أراكون، المحاذي لمقر الأمن الإقليمي، في وسط المدينة، كان مليئا بالناس، لكن أغلبهم، رجال أغراب عن المدينة، جاؤوا ضمن التعزيزات الأمنية التي استقبلها الإقليم بعد التوتر الذي تلا وفاة الحسين وجدوان، وإلى مائدة تتوسطه، كان يجلس محمد الوالي، الناشط في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وحزب النهج الديمقراطي، رفقة مصطفى سلواني، نقابي الاتحاد المغربي للشغل وقيادي شبيبته العاملة، علاوة على عبد الإله العرش، النقابي في الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والعضو في الحزب الاشتراكي الموحد وفدرالية أحزاب اليسار.
يتفق النشطاء الثلاثة على أن الشقيقين الحسين وجدوان، ليسا في الواقع إلا الرقمين 41 و42 ضمن لائحة عمال استخراج الفحم، الذين قضوا داخل "الساندريات" (الآبار)، في الـ16 سنة الأخيرة، أي "منذ إغلاق شركة مفاحم المغرب في 2001"، الشركة التي تشير بعض وثائقها التي حصل عليها "تيلكيل – عربي"، أنها كانت ثاني أهم شركة مشغلة بالمغرب، بعد المكتب الشريف للفوسفاط، ويعد حدث إفلاسها، وتسريح أزيد من 5000 عامل رسمي، "اللعنة" الكبيرة التي نزلت على الإقليم.
ويعد الإفلاس وإنهاء نشاط الشركة، مثل الحلم الذي تحول إلى كابوس، ولفهم القضية على نحو جيد، لابد من البحث عن شخص فاعل، وعايش التفاصيل من موقع المسؤولية، والجلوس إليه.
شخص بتلك المواصفات، وجده "تيلكيل – عربي"، بعد اتصالات مع مختصين في قطاع المناجم والمعادن بالمغرب، في لحسن الغالي، نائب برلماني سابق باسم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في أيام قوة الحزب، و"عمدة" المدينة العمالية في نهاية التسعينات، وهي الصفات التي جعلته طرفا في المفاوضات الشاقة بين الدولة والنقابات في 1998، للتوافق حول برنامج إيقاف أنشطة شركة مفاحم المغرب، التي ورثت مناجم الفحم بجرادة عن الفرنسيين.
يقول لحسن الغالي، في لقاء مع "تيلكيل – عربي" بمقهى الشروق، المحاذي بدوره لمقر الأمن الإقليمي في الشارع الرئيسي لجرادة، "إلى غاية 1983 كانت مناجم الفحم بجرادة، تعد بمستقبل جيد، فبناء على دراسة أنجزتها شركة مفاحم المغرب، تبين أن جرادة تتوفر على احتياطي 100 مليون طن من الفحم، من نوع 'أنتراسيت' الجيد، وبالتالي في أفق 1990 يمكن إنتاج مليون طن سنويا، وابتداء من 1992 يمكن إنتاج مليوني طن سنويا، شريطة تطوير الإنتاج".
وتبعا لذلك، يضيف لحسن الغالي، في حديثه المدعم بالوثائق، وبينها مطوية إشهارية أنتجتها شركة مفاحم المغرب، ومازال يحتفظ بنسخة منها، "اقترضت الشركة، بضمانة من الدولة، من البنك الدولي، بغرض تطوير الإنتاج، لكن الذي سيحدث بعدها، سيبرز أن الدراسة التي أنجزت لم تكن دقيقة، وتبين أن تخميناتها فاشلة، ليس من حيث تقديرها للاحتياطي، إنما من حيث صعوبة إقامة منجم فعلي واستغلاله، إذ تبين أن الأراضي التي تختزن تلك الثروة، هشة جدا، وتتعرض للانجراف".
ويتذكر لحسن الغالي، أنه في 1989، قامت الشركة بتسريح عدد من عمالها، ما عجل "باحتضان المدينة إضرابا عماليا أخذ بعدا دوليا، إذ حل بالمنطقة الكاتب العام للمنظمة العالمية للمنجميين، وأتذكر أنه جاء مع الحسين الكافوني، الرئيس الحالي لجمعية الماء والطاقة للجميع، فطالب بحل مشكلة العمال المسرحين بالمغرب، أو تنظيم إضراب تضامني دولي، فلم تجد شركة مفاحم المغرب، والدولة، غير الاستجابة، مع تشكيل لجنة تحقيق، وقفت على وجود سوء تسيير للمنجم".
وطيلة السنوات الموالية، وعوض أن يتحقق حلم مليوني طن في السنة، تعمقت أزمة شركة مفاحم المغرب، إذ في "1997 وقعت الأزمة الكبرى، عندما لم يتسلم العمال أجورهم، وانكشف عجز الشركة عن أداء ديون البنك الدولي، وديون الصناديق الاجتماعية (الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي...)"، يؤكد لحسن الغالي، الذي كان حينها رئيسا للمجلس البلدي جرادة، مضيفا "بدأ العمال يبيعون أثاثهم لإعالة أسرهم، وخرجت النساء وأطفالهن في مظاهرة نحو الورش رقم 5 حيث يعتصم العمال".
تلك التطورات أسفرت عن توتر اجتماعي كبير بجرادة، أكبر من الذي تعيشه اليوم، ما استدعى تدخل حكومة الوزير الأول عبد اللطيف الفيلالي، فحلت بجرادة، يقول لحسن الغالي، "لجنة وزارية تضم عبد العزيز مزيان بلفقيه، وزير الفلاحة والتجهيز والبيئة، وإدريس بنهيمة، وزير النقل والملاحة التجارية والسياحة والطاقة والمعادن، وأمينة بنخضرا، كاتبة الدولة لدى وزير الطاقة والمعادن مكلفة بتنمية قطاع المعادن"، وفي الأجندة، حوار مع النقابات، حول سبل إنهاء الأزمة، وتنفيذ قرار الإغلاق التدريجي لشركة مفاحم المغرب".
البديل "المجهض"
كان قرار الإغلاق التدريجي لشركة مفاحم المغرب، يعني انهيار مدينة بأكملها، خرجت إلى الوجود في 1932، التاريخ الذي اكتشف فيه البلجيكيون مناجم الفحم في جرادة، ليبدأ الفرنسيون في استغلالها، عن طريق "مفاحم شمال إفريقيا"، ولعل واحدا من الأرقام الدالة على حجم المأساة، هو أرقام الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنتي 1994 و2004.
ذلك أن أرقام الإحصاءين، تكشف أن مجموع سكان إقليم جرادة، وعلى عكس مختلف مناطق المغرب التي عرفت انفجارا ديمغرافيا، انخفض من 117 ألف و696 نسمة في 1994 إلى 105 آلاف و840 نسمة في 2004، أي ناقص 11892 نسمة، أغلبهم راشدون هجروا المدينة بسبب إغلاق مفاحم المغرب.
وإذا كانت تحركات اللجنة الوزارية حينها، قد أسفرت عن تنزيل قرار الإغلاق التدريجي لمفاحم المغرب، فقد جاء ذلك بعد مفاوضات شاقة، جمعت أطرافا، تكشف وثائق الأرشيف، ، أنها تضم، علاوة على الوزراء الثلاثة، حسن العمراني، الذي كان حينها مديرا عاما لوكالة الإنعاش والتنمية الاقتصادية والاجتماعية لعمالات وأقاليم الشمال.
أما ممثلي السكان والعمال، فضمت اللائحة، مصطفى المنصوري، رئيس المجلس الجهوي حينها، ولحسن الغالي، نائب برلماني ورئيس المجلس البلدي، والطيب غافس، نائب برلماني لأحواز جرادة، وعبد الرحمان السعيدي، رئيس المجلس الإقليمي، وعبد الكريم بنعتيق، عن الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وممثلي مركزيتي الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، والاتحاد المغربي للشغل.
وأسفرت المفاوضات عن التوقيع على "اتفاقية 17 فبراير 1998"، بينما توقعت وثيقة تحمل توقيعات الشخصيات المذكورة، وعنوانها "تقرير عام ختامي حول أشغال اللجنة المكلفة بملف جرادة"، ومنذ أول سطر، حجم المأساة التي تعيشها جرادة اليوم.
وتقول الوثيقة: "قد تصبح إشكالية إقليم جرادة، في أفق إغلاق مفاحم المغرب، نظرا لنفاذ المخزون المنجمي، معضلة ذات بعد وطني، وذات جوانب متعددة: اجتماعية، واقتصادية، وبيئية، إذا لم تتخذ تدابير وإجراءات شاملة ومتكاملة كفيلة بإعداد الإقليم لانطلاقة جديدة اقتصاديا واجتماعيا"، سيما "العلاقة الوطيدة بين المنجم، والمدينة، واعتبارا لعدد مستخدمي مفاحم المغرب (5000 عامل)".
وتفيد الوثيقة ذاتها، أنه تبعا لذلك، "تقرر بتعليمات من الوزير الأول (عبد اللطيف الفلالي)، إنشاء لجنة يترأسها وزير الفلاحة والتجهيز والبيئة (عبد العزيز مزيان بلفقيه)، ووزير النقل والسياحة والملاحة التجارية والطاقة والمعادن (إدريس بنهيمة)، لاقتراح حلول اجتماعية لفائدة العاملين بالمنجم، والتي يجب أن تواكب إغلاقه، ودراسة وبلورة برنامج اقتصادي متكامل لتنمية الإقليم".
اللجنة التي قامت بزيارة ميدانية لمدينة جرادة، في 12 دجنبر 1997، عقدت اجتماعات مع المركزيات النقابية، والمنتخبين، والسلطات المحلية، "تقرر إثرها إنشاء لجنتين، الأولى تهتم بالجانب الاجتماعي، والثانية بالجانب الاقتصادي"، أنهتا عملهما، الذي أسفر عن "نتائج إيجابية في مدة وجيزة"، من قبيل توصل اللجنة الاجتماعية، إلى اتفاق موقع في 17 فبراير 1998. فماذا جاء فيه؟
"تيلكيل – عربي" حصل على نسخة من ذلك الاتفاق، وأهم ما فيه، علاوة على "الإغلاق التدريجي للمنجم إلى حدود سنة 2001"، "وتسريح المستخدمين طبقا لبرنامج منسجم ومتكامل، وضمان حقوقهم، طبقا لمعايير متفق عليها، تأخذ بعين الاعتبار التعويضات عن الأقدمية وعن الأمراض المهنية، وتسديد مستحقات الصناديق الاجتماعية"، (أهم ما فيه)، ما يسمى منذ ذلك الحين، "البديل الاقتصادي" في المنطقة، الذي يشكل الآن، أبرز مطالب الانتفاضة التي تعم المدينة منذ نهاية دجنبر 2017.
ومن معالم "البديل الاقتصادي"، كما رسمتها الوثائق الرسمية التي حصل عليها "تيلكيل – عربي"، إحداث مقاولات صغرى ومتوسطة بفضل الأنشطة الملحقة لمفاحم المغرب، من قبيل "النقل، والورشات، ومراكز للخياطة والنجارة والهندسة المدنية"، والحصول على "مساندة من المكتب الوطني للكهرباء لإحداث أنشطة في إطار برنامج الكهربة القروية الشامل"، و"إدماج 300 مستخدم" من قبل المكتب ذاته.
أما اللجنة الاقتصادية، فانتهت إلى تحديد عدد من الإجراءات، "تهم بالأساس فك العزلة عن الإقليم والمدينة، بالرفع من مستوى التجهيزات الأساسية، وخلق إطار ملائم للإقلاع الاقتصادي والصناعي بالمنطقة"، من قبيل "تنمية القطاع الفلاحي والغابوي بخلق واستصلاح المدارات السقوية، وتطوير قطاع تربية المواشي وتحسين المجالات الرعوية".
لائحة الإجراءات والاقتراحات بخصوص البديل الاقتصادي، تتضمن أيضا، مشروعين مهمين جدا، الأول "اقتراح لائحة مشاريع صناعية تحتاج دراسات معمقة، مع تهيئة منطقة صناعية لجلب الاستثمارات، وتشجيع المقاولين الشباب، ومساعدتهم على إعداد دراسات الجدوى من قبل وكالة الإنعاش والتنمية الاقتصادية والاجتماعية لأقاليم الشمال"، والثاني "اقتراح صندوق خاص في إطار القانوني المالي المقبل (1999)، من أجل تدعيم تمويل المشاريع العمومية المشار إليها، والمشاريع الخاصة بواسطة قروض بمعدل فائدة منخفض"، وهو الصندوق الذي تكشف وثيقة أنه كان سيمول من خلال إقرار ضريبة وطنية تضامنية مع جرادة.
ذلك الصندوق، كان سيعد حسب كثير من فعاليات المدينة، الوسيلة الحقيقية لجبر الضرر من إغلاق شركة مفاحم المغرب، لكنه، يقول لحسن الغالي، أحد الموقعين على الاتفاقات التي أبرمت في 1998، "لم يخرج يوما إلى حيز الوجود"، أما باقي النقط والوعود، فيرى كثيرون، أنها نفذت في حدها الأدنى، وإلى اليوم مازال لحسن الغالي، يتأبط ملفا بعشرات المراسلات إلى جهات حكومية عدة، ونسخ أسئلة لفرق برلمانية، وجهت، أو مازالت توجه، إلى الوزراء، حول تنفيذ كثير من مضامين اتفاق 1998.
وتعكس "مونوغرافيا" الإقليم كما ينشرها الموقع المؤقت للجماعية الترابية جرادة، التي ترأسها اليوم، امباركة توتو، البرلمانية سابقا عن حزب الأصالة والمعاصرة، ومؤشرات المندوبية السامية للتخطيط، أن بديلا اقتصاديا حقيقيا، لم يظهر بعد إغلاق شركة مفاحم المغرب، وتبرز المؤشرات المدرجة في تلك الوثيقة، حجم المأساة الجماعية للمدينة منذ 2001.
فعلى مستوى البطالة مثلا، تشير الجماعة الترابية جرادة، أن نسبتها تصل بالمدينة إلى 37.8 %، أي ضعف المعدل الوطني 4 مرات، وتبلغ عند الذكور 30.5 % مقابل 63.1 % لدى النساء، لينحصر مجموع السكان النشطين بالمدينة عند 13 ألف و399، بينما 30 ألف و78 من السكان غير نشطين.
وتبدو تلك النسبة نتيجة حتمية للتكبة الاقتصادية والصناعية في جرادة، إذ تسجل إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط، أن جرادة هي الأخيرة في جهة الشرق من حيث عدد المؤسسات الصناعية، إذ ينحصر عددها في ثمان (8) مؤسسات، أما عدد الجمعيات المهنية فلا يتعدى 14، في حين ينحصر عدد التعاونيات في 15، مجموع رأسمالها الاجتماعي لا يتعدى 172 ألف درهما، أما المؤسسات الفندقية، ففي المدينة نزل واحد، مصنف في الدرجة الأولى.
وثيقة أخرى، صادرة في الخريف الماضي عن المرصد الوطني للتنمية البشرية، تقول الكثير عن نكبة جرادة، ويتعلق الأمر بـ"خريطة مؤشر التنمية المحلية المتعدد الأبعاد"، فيشير بشأن إقليم جرادة، أن المعدل المتوسط للعجز في الإقليم من حيث التنمية، يصل إلى 30.9 %، أما التنمية في مجال الصحة، فتعرف عجزا بنسبة 33.4 %، وهو العجز الذي يرتفع في قطاع التربية الوطنية إلى 48.2 %، ويصل إلى 22.4 % في مجال الخدمات الاجتماعية، أما متوسط العجز في الإطار العام للعيش، فيصل إلى 47.7 %.
"الريع" يملأ الفراغ
لما لم يظهر البديل الاقتصادي، تتحقق، تلقائيا، مقولة "الطبيعة لا تقبل الفراغ"، إذ لم يجد كثير من الشباب العاطلين، وبعض العمال السابقين في مناجم المفاحم، الذين نفذ منهم التعويض المالي عن التسريح من شركة مفاحم المغرب، غير العمل في "الساندريات"، أي حفر آبار للفحم، في ظروف بدائية وخطيرة، لاستخراج كميات يبيعونها، للحصول على لقمة العيش.
وفي هذا الشأن يقول لحسن الغالي: "بعد الإغلاق في 2001، ولغياب البديل وعدم تنفيذ وعود الاتفاقية بشأنه، انتعشت ظاهرة الاستخراج التقليدي للفحم من 'الساندريات"، التي كانت دائما موجودة، ولكن بعدد أقل من الآن"، وإذا كانت معاناة العمل في "الساندريات"، والظروف الخطرة التي يتم فيها استخراج الفحم، مسألة رصدتها وسائل الإعلام طيلة السنوات الماضي، فالذي لم يتم الكشف عنه، قبل اليوم، بكثير من التفاصيل، هو من يقف وراءها؟ إذ من المعلوم أنه يستحيل قانونيا أن يهب المواطنون لحفر في الآبار في أملاك الخواص، أو أملاك المياه والغابات، والدولة، كيفما أرادوا، ومتى أرادوا.
عبد الإله العرش، ناشط سياسي ونقابي في جرادة، وتحديدا في الكتابة الإقليمية للحزب الاشتراكي الموحد، وفي الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وعندما تطلب منه شرح خبايا الساندريات، يتذكر أنه لما كان قياديا في فرع الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين، "اقترح علينا أن تستفيد الجمعية من ترخيص لاستغلال واستخراج الفحم، لكننا رفضنا ذلك"، ثم يضيف: "ما أتوفر عليه من معطيات، يشير إلى وجود أربع رخص مماثلة حاليا، منحتها وزارة الطاقة والمعادن، وهي بأسماء البارونات".
وتعد معطيات العرش، مطابقة لمعطيات عزيز رباح، وزير الطاقة والمعادن والتنمية المستدامة، إذ بعدما اتصل "تيلكيل – عربي" بمستشارته المكلفة بالتواصل، للحصول على معطيات بشأن فحم جرادة، أرسلت شريط "فيديو"، يظهر فيه الوزير، بعد فاجعة جرادة، يقدم تصريحا للقناة الأولى، وفيه يقول "حسب المعطيات المتعلقة بالخريطة الجيولوجية المتكاملة، اليوم توجد 58 رخصة بحث عن المعادن"، وفي جرادة "هناك ثمانية شركات التي لها رخص استغلال، بينها أربعة في مجال الفحم، وأربعة في مجال الرصاص".
واعترف وزير الطاقة والمعادن والتنمية المستدامة بتلك الرخص، هو الذي قال، قبل ذلك وفي الشريط ذاته: "أعتقد أن إقليم جرادة، مع الأسف، كل ما يتعلق بالفحم انتهى منذ مدة، إلا القليل، فكما تعلمون أكبر منجم للفحم تم إغلاقه في 2001، لأنه لم يعد هناك عائد اقتصادي، وتمت تصفية الشركة، وبقيت، إذا صح التعبير، ما يسمى بمخلفات المعادن، التي يلجأ إليها الشباب نظرا للظروف الاجتماعية، فيقع مثل ما حصل"، في إشارة منه إلى فاجعة وفاة الشقيقين الحسين وجدوان الدعيوي.
وإذا كان وديع العتابي، المدير الجهوي بالنيابة للطاقة والمعادن في وجدة، قد اعتذر في حديث هاتفي مع "تيلكيل – عربي" عن الإدلاء بمعطيات، مبررا أنه محكوم بإكراه التراتبية الإدارية، وبالتالي عليه التشاور مع رؤسائه المركزيين في الوزارة، يجمع كل الذين التقاهم "تيلكيل – عربي"، أن تلك الرخص، تستفيد منها عائلات ذات نفوذ سياسي بجرادة.
ويتعلق الأمر بعائلة مصطفى توتو، النائب البرلماني باسم حزب الأصالة والمعاصرة، الذي تترأس شقيقته امباركة، جماعة جرادة، وعائلة دغو، التي تنتمي إلى حزب الاستقلال، ويعد ابنها ياسين دغو، بدوره نائبا برلمانيا عن جرادة، بينما يعود الترخيص الثالث إلى عائلة أمنون، وهي أسرة تتحدر من سوس، ويعد ابنها البشير أمنون، منتخبا باسم حزب الاتحاد الدستوري، ويتولى منصب نائب رئيسة جماعة جرادة، أما الترخيص الرابع فتشير المعلومات، أنه لدى عائلة "يشو".
أشخاص من تلك العائلات هم الذين يصر السكان ونشطاء المنطقة على إطلاق اسم "البارونات" عليهم، وتوجه لهم، على لسان أشخاص مثل محمد الوالي، عضو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، ومصطفى السلواني، نقابي الاتحاد المغربي للشغل، وعبد الإله العرش، قيادي الحزب الاشتراكي الموحد، ولحسن الغالي، الرئيس سابقا للمجلس البلدي والبرلماني سابقا عن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وعبد العزيز أفتاتي، قيادي حزب العدالة والتنمية والبرلماني السابق عن عاصمة الجهة الشرقية، مؤاخذات تتعلق بطريقة تنفيذ استفادتهم من تلك الرخص، الذي أكد لحسن الغالي، بوصفه أحد الذين كانوا طرفا في اتفاق 1998، أن عددها "ثمانية"، أي العدد نفسه الذي صرح بها وزير الطاقة والمعادن: أربعة في قطاع الفحم، وأربعة في قطاع الرصاص.
وتتمثل المؤاخذة، في أن عددا من الشباب والسكان النشطين يستخرجون الفحم من "الساندريات"، فيتوجهون بالكميات إلى أصحاب التراخيص، فيقتنونها من عندهم بأسعار "بخسة"، وبمجرد أن تدخل مستودعاتهم، تصير بضاعة قانونية، إذ بفضل التراخيص التي يتوفرون عليها، تسجل كميات الفحم، على أساس أنها استخرجت عبر شركاتهم، فتشحن نحو وجهاتها الخاصة والعمومية، من قبيل الفنادق، ومختلف المؤسسات التي تستعمل الفحم.
وفي محاولة لتقدير حجم الأرباح التي يجنيها أصحاب شركات الفحم، توجه "تيلكيل – عربي"، إلى متجر وسط سوق جرادة، يعود إلى عائلة أمنون، المعروف أيضا بلقب "أوباها"، حيث يعرض الفحم للبيع لأغراض الاستعمال المنزلي، فقال البائع إن السعر "هو 60 درهما لكيس من فئة 30 كيلوغراما"، أي درهمين للكيلوغرام.
وغير بعيد من المتجر، وجد "تيلكيل – عربي"، تاجرا يرتدي لباس عمال استخراج الفحم، وعلى عربة مجرورة بدابة، أوقفها بجانب الرصيف، وفيها كميات من الفحم المعروض للبيع، قال إن سعر بيعه من قبل مستخرجيه هو "65 درهما للقنطار"، أي "13 ريال للكيلوغرام"، ما يعني أن نسبة ربح أصحاب الشركات في الكيلوغرام، يصل إلى 180 %.
ويقول مصطفى سلواني، النقابي في الاتحاد المغربي للشغل: "في الوضع السليم، عندما يمنح ترخيص الاستغلال، يتوجب الحصول على رخصة أخرى تتعلق بالموافقة البيئية، إذ ينتدب مكتب دراسات لمعاينة الموقع، ويحدد طرق الاستخراج، وعدد العمال، ومختلف الشروط والترتيبات من أجل استغلال آمن، الذي يفترض أن يكون على شكل منجم، يشغل عمالا يتمتعون بحقوقهم، وليس آبار عشوائية كما يجري الآن".
وأدلت مختلف الفعاليات التي التقاها "تيلكيل – عربي"، بنسخ "رخص خروج" للشاحنات، تبرز أن عائلتي دغو وتوتو، فاعلة في قطاع الفحم بجرادة، فالأولى تحمل شركتها اسم "دغو شاربو"، وهي مسجلة في المحكمة التجارية لوجدة، تحت رقم 16505، ورأسمالها الاجتماعي 160 ألف درهم، أما توتو، فشركته تدعى "بيست شاربون"، وهي متخصصة في الاستغلال والتسويق المعدني، وتحديدا الفحم من نوع "أنتراسيت"، والرصاص، مدرجة في السجل التجاري بالمحكمة التجارية لوجدة، تحت عدد 16523، ورأسمالها الاجتماعي مليونين و500 ألف درهم. فماذا يقول هؤلاء عن المنسوب إليهم؟
مصطفى توتو، النائب البرلماني عن حزب الأصالة والمعاصرة، وصاحب شركة "بيست شاربون"، نقلت إليه "تيلكيل - عربي"، التهم الموجهة إلى أصحاب التراخيص، فقال: "بالنسبة إلي، أنا شاب وابن هذه المنطقة، قدمت طلبا في وقت معين إلى وزارة الطاقة والمعادن، ومنحتني رخصة، ولكن الذي سيحدث أن الناس سيترامون على المساحات المرخصة لنا ليستخرجوا منها الفحم، وهي بمساحة أربعة كيلومترات على أربعة (16 كيلومتر مربع) لكل رخصة، وبالتالي بدأنا نقدم شكايات إلى السلطة، وكانوقفو الخدمة ديالنا، لكن المشكلة أن الناس يردون بالاحتجاج".
وعن قضية الاتهام الموجه إلى أصحاب الرخص بشأن فرضهم أسعارا بخسة وجني أرباح طائلة من مخاطرة أمثال الحسين وجدوان الدعيوي بحياتهم، ودون أن يستثمروا فلسا في استخراج الفحم، قال توتو لـ"تيلكيل - عربي" إن "السعر الذي نقتني به يصل إلى 1200 درهما للطن، أما الذين يقتنونه من عندنا، ويتعلق الأمر بمؤسسات منها إدارة السجون، ووزارة الصحة، ووزارة التربية الوطنية، فيمكن للجميع العودة إلى ملفات الصفقات مع هذه الوزارات، ليقف الجميع على المبلغ: ما بين 2000 درهم و2500 للطن، تشمل الرسوم الضريبية، ومصاريف النقل، وغيرها من التحملات".
وفيما أقر المتحدث ذاته، أن الفحم يجد طريقه النهائية أيضا إلى "معامل صناعة الأجور ببرشيد والناضور"، كشف أنه "توجد في وجدة حمامات تستهلك تقريبا 600 طن شهريا، وليس نحن من يبيع لها، بل المهربون الذين لا يتوفرون على تراخيص، وينقلون الكميات من جرادة إلى وجدة بسيارات صغيرة، وليس بشاحنات، ويبيعونه بـما بين 1300 درهم و1700 درهم للطن".
ذلك رد مصطفى توتو على الاتهامات، أما عزيز رباح، وزير الطاقة والمعادن والتنمية المستدامة، فقد علق على المؤاخذات المرتبطة بتراخيص الفحم في جرادة، أمام مجلس المستشارين، أمس (الثلاثاء 2 يناير 2018)، وتحدث عن فتح تحقيق بشأنها، فقال: "في المجال المعدني، أخذت الدولة قرارا فمنحت 58 رخصة بحث عن المعادن، بينها ثمانية مرتبطة بالفحم والرصاص، التي توصلنا بشأنها بعدد من التعاليق، سنحقق فيها، إذ أحدثت لجنة مشتركة للتحقيق في هذه المناجم: هل تشغل الناس؟ أم لا تشغلهم؟ وهل تستثمر أم لا؟".
ورغم كل شيء، يرى لحسن الغالي، أن الحل ليس وقف نشاط استخراج الفحم، إنما معالجة الاختلالات الحالية، وفسح المجال أمام المشتغلين فيه للانتظام في تعاونيات، تتولى بيع الكميات المستخرجة إلى المحطة الحرارية.
الرأي ذاته عبر عنه عبد العزيز أفتاتي، بقوله: "لماذا لا يترك العاملون في استخراج الفحم بطريقة تقليدية ينتظمون في تعاونيات، ليتولوا بأنفسهم تسويق 'رزقهم'؟ والقطع مع الطريقة الحالية التي تفرض عليهم بيع ما يستخرجونه لأشخاص راكموا ثروات".
أما مصطفى توتو، فبعد أن برأ شقيقته امباركة، رئيسة الجماعة الترابية جرادة، من أي صلة لها بشركته، "فهي امرأة تعليم وقراتنا وكبراتنا والآن أدعمها سياسيا لرد الجميل"، قال في ختام حديثه عن إشكالات الفحم بجرادة، إن "الدولة ليست ضعيفة، إنما قوية ولديها الإمكانيات لكي تصل إلى مختلف المعطيات، أما كلام الشارع ووصفنا بالأباطرة والبارونات، فنحن لسنا كذلك".
ويقول توتو، بثقة تامة في النفس: "نحن ساهمنا في اقتصاد البلاد، وتخيل هذه المدينة السوداء، لو لم يكن فيها توتو، ودغو، وأمنون؟ من أين كان الناس سيحصلون على لقمة عيشهم؟ فمنذ 1998 أغلقت المناجم، وفي الجبل يشتغل ما يفوق 2000 شخص فقير، ونقتني من عندهم بـ120 درهما للكيس (100 كيلوغرام) وليس 60 درهما كما يقولون".
ويقتنع الموصوفون بـ"أباطرة الفحم"، على لسان مصطفى توتو، أنهم "أناس يشتغلون بشكل قانوني ولديهم رخصهم، لكن الدولة من خلال السلطات المحلية والإقليمية والجهوية لا تحمينا، ولدينا الشكايات التي نتقدم بها ويرفضون تسلمها، إذ يقولون لنا: الله يرضي عليك ماتسيفطش لي شكاية، لدينا مسألة أمنية واجتماعية، وبالتالي ماعليكم إلا تشريو على هاد الناس"، وبالتالي، يضيف توتو، "يصدق علينا مثل طلع تاكل الكرموس، هود شكون قالها ليك".
مصدر من ولاية وزارة الداخلية بالجهة الشرقية،، رفض الكشف عن هويته، قال في تصريح لـ"تيل كيل"، ردا على اتهامات البرلماني صاحب رخصة استخراج الفحم: "السلطات تطلب منهم أن يشغلوا الناس في احترام تام للقانون، وفي مراعاة كاملة لشروط السلامة والصحة، وليس أن يغتنوا على حسابهم".