"فوق هذه الأرض روح كل يهودي، أحرقه أدولف هتلر، تحمل لعنة تطارد العالم كله"، هذا ما يقوله البولونيون عن أوشفيتز، حيث درجة الحرارة ما دون الصفر، والبرد يلسع البدن، والثلوج تكسو كل شبر من الأرض.
يؤمن البولونيون بأن جزءا من قسوة ملامحهم وطباعهم ورثوه من تراب أوشفيتز، حيث قاد زعيم النازية الألمانية، الآلاف من اليهود، وكدسهم داخل بنايات من خشب يحيط بها الموت، قبل أن يقودهم إلى أفران الغاز ليعدموا اختناقاً.
أوشفيتز بيركينو
شهر دجنبر الماضي، في عز بداية شتاء بولونيا، شد "تيل كيل عربي" الرحال إلى أوشفيتز؛ مدينة صغيرة تبعد عن كاتوفيتشي، إحدى كبريات مدن بولونيا، بحوالي 120 كيلومتراً، تقطعها في قرابة ساعة ونصف عبر السيارة. مدينة اختار النازيون أرضها لبناء أحد كبريات مراكز الاعتقال إبان الحرب العالمية الثانية وهو معسكر "أوشفيتز بيركينو".
منذ الساعات الأولى للصباح، وطيلة أيام الأسبوع، يحج المئات من السياح الباحثين عن الاطلاع على بعض من آثار الحرب العالمية الثانية معسكر "أوشفيتز بيركينو". سياح من مختلف الجنسيات والأعراق، يلجون المعسكر مرفوقين بمرشدين، مهمتهم جعل استكشاف المعسكر وزيارة كل جانب داخله أشبه برحلة من سيقوا إليه كرهاً ليقضوا نحبهم هنا، إما اختناقاً داخل أفران الغاز أو موتاً تحت وطأة البرد.
شُيد المعسكر في الفترة ما بين عامي 1942 و1944 وكان باقتراح من وزير داخلية هتلر حينذاك، هاينريك هملر. حسب ما هو مدون في كل ركن من المعسكر على لوحات سوداء، كتب فوقها بالأبيض، صمم المعسكر ليكون "آخر حل لإبادة اليهود من أوروبا". تحمل اللوحات أسماء عدد من اليهود قيل إنهم دخلوا "أوشفيتز بيركينو" أحياء ولم يغادروها إلا رماداً.
أزيد من مليون و100 ألف معتقل قيدوا إلى المعسكر خلال تلك الفترة، من بينهم مليون يهودي. فكيف كانت رحلتهم نحو الموت؟
حسب غريغوريو، الذي تكلف بمهمة توفير النقل من كاتوفيتشي نحو أوشفيتز، كان النازيون يهجّرون اليهود من كافة الأراضي الأوروبية التي احتلوها، يكدسونهم داخل عربات قطار خشبية، يفترشون فيها التبن، وداخلها يقضون حاجتهم وينامون ويمرضون، طيلة رحلات تدوم لأيام، ثم يتم إنزالهم بمدينة كاتوفيتشي، قبل نقلهم إلى "أوشفيتز بيركينو". واختار النازيون أن يكون المعسكر موصولا بخطط سكك حديدي أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية.
سجن مفتوح، يحيط به سياج على طول مئات الأمتار. باب كبير تخترقه سكة حديدية أصبحت خارج الخدمة.
على جنبات السياج الحديدي من الداخل، تنتصب أبراج، يمكن، من خلالها، مراقبة مساحات شاسعة من المعسكر، وأسفل كل برج على الجانبين خندقان إسمنتيان يسعان لجندي واحد فقط، سقفهما من الطوب الأحمر.
بعد ولوج المعسكر مباشرة، ترى على مد البصر ما يشبه الأكواخ الخشبية، حيث كان مليون يهودي يعتقلون قبل اقتيادهم إلى أفران الغاز. وداخل المعسكر في الجانب الأقصى، قبل الوصول إلى أبوابه الخلفية، توجد عدد من أفران الغاز الصغيرة.
أكواخ الاعتقال من الداخل تشعرك برهبة وإن كنت من الذين لا يصدقون وقوع المحرقة، كما كتب عدد من المؤرخين الذين رفضوا تقديس رواية اليهود دون التدقيق فيها. فضاء ضيق ويضيق أكثر، كلما زاد عدد من يلجونه. تتسل أشعت الضوء إليه من شقوق صغيرة. لا مراحيض ولا نوافذ، وحده ثقب صغير في السقف يوفر التهوية لهذا القبر، الذي تشتم داخله رائحة الرطوبة التي أصابت خشبه، وتلمح على أعمدته وأساساته آثار أظافر من مروا يوماً من هنا.
عند البوابة الرئيسية في الطرف الأيمن، حين تهم بالخروج، بناية صغيرة، وهو محل تجاري لبيع الماء وبعض علب البسكويت، لكنه أيضاً كشك لشراء تذكار من زيارتك لمعسكر "أوشفيتز بيركينو". داخله كل ما كتب عن محرقة اليهود، كتب وصور وأفلام وأشرطة وثائقية، بالعديد من اللغات، ليس بينها اللغة العربية.
متحف أوشفيتز
يوم 27 يناير 1945، وأمام تراجع قوات النازيين على الجبهتين الغربية والشرقية، أطاح السوفييت بمعسكر "أوشفيتز بيركينو"، وهو اليوم نفسه الذي اختاره العالم لتخليد ما يسمى "الهولوكست"، كما اختار العالم عام 1979 لجعل المعسكر موقعاً تراثيا عالمياً في بولونيا.
على بعد كيلومترات قليلة، من معتقل النازيين المفتوح ينتصب "متحف أوشفيتز" الذي يمكن الدخول إليه مجانا.
موقع المتحف كان هو المعتقل الرئيسي، قبل تشييد معسكر "أوشفيتز بيركينو" المفتوح، تحولت بناياته إلى شاهدة على التاريخ، يمكن أن تلج كل مرافقه، باستثناء فرن الغاز الكبير الذي يتوسطه.
وحسب الأرقام الرسمية، يزور المتحف أكثر من 700 ألف شخص سنوياً. ظروف الاعتقال، كما تُستشف من خلال البنايات، تبدو "أرحم" قليلاً، كما هو الحال في فرع المعسكر. ساحة كبيرة تحولت إلى موقف للسيارات، بعدها مباشرة، تتجه نحو ساحة أصغر تتوسطها بناية، فوق سطحها تراكمت ثلوج الشتاء. سطح تتوسطه 12 مدخنة. هذا هو فرن الغاز الرئيسي الذي شيده النازيون في أوشفيتز.
"كان الجنود الألمان يخبرون اليهود المعتقلين وغيرهم بموعد الذهاب للاستحمام، بعد ذلك يسوقونهم إلى البناية في الوسط، ثم يدخلونهم إليها، ويطلقون الغاز حتى يموتوا اختناقاً واحتراقاً"، يقول مرافق "تيل كيل عربي" غريغوريو.
مباشرة بعد فرن الغاز الضخم، تظهر بوابة شُيدت بحرفية عالية، يعلوها على اليسار برج مراقبة من الخشب، بقربها لوحة تظهر مسيرة لليهود بزي الاعتقال وهم يخرجون جماعة من البوابة.
فتحات خنادق الجنود المنفردة تتوجه نحو الداخل، ما يدل على أن همّ النازيين حينها كان مراقبة من يحاولون الهرب من المعسكر أكثر من مراقبة من يحاولون اقتحامه إن وقعت اشتباكات مع أعدائهم من الحلفاء.
بعد البوابة الرئيسية، تنتصب العشرات من البنايات، مقسمة إلى أشطر. منها ما تحول إلى إدارات لحفظ الأرشيف أو البحث، وأخرى تحولت إلى متاحف تعرض كل كبيرة وصغيرة عن مرور اليهود من هذا المكان الموحش.
"تيل كيل عربي" زار عددا من البنايات التي تحولت إلى متاحف للعرض، وقبل الولوج إلى هذه الفضاءات، تخضع لعملية تفتيش دقيقة من رجال الأمن. تفتيش يشمل كل جسدك وما تحمله معك من حاجياتك ومعداتك.
باب من خشب يتوسطه زجاج شفاف، ممر صغير على اليمين وآخر على الشمال. يقود كل واحد منهما إلى غرف فسيحة بأسقف عالية.
على الجدران، علقت قصاصات الجرائد التي كانت تنقل تغطية الحرب العالمية الثانية، صور مؤلمة وصادمة توثق لعمليات الإعدام التي كان يقوم بها الجنود الألمان في حق اليهود والبولونيين، بالإضافة إلى نسخ بعضها أصلي وآخر أعيد طبعه، وبلاغات كان يصدرها النازييون، ومجملها تتضمن عبارة التهديد والوعيد في حق كل بولوني قدم مساعدة كيف ما كانت ليهودي في أوشفيتز.
على الجدران كذلك لوحة كبيرة تضم آلاف الصور لليهود الذين أعدموا هنا. اختلفت ملامح الضحايا الذين كانوا حليقي الرأس إناثا وذكوراً، منهم من يعلو محياه الخوف وآخرون يبتسمون وكأنهم يسخرون من جلاديهم، كما تلمس في عيون البعض، من خلال الصور، نظرات الدهشة أو الرغبة في استجداء الموت لإنهاء تحالف البرد والألمان لتعذيبهم.
في أركان أخرى من البناية، قذائف نارية استعملها السوفييت يوم سقوط معكسر "أوشفيتز".
وفي ركن، حيث توجد صور لبعض من الضحايا، مشهد أعد بعناية لنقل الصورة كاملة. مجسمات اصطفت على طول فضاء صغير ضيق يحيط به سياج. كل واحد منها ألبس زي الاعتقال المخطط بالأبيض والأسود، وكتب قرب العرض "الزي نفسه لبسوه جميعاً". عبارة شرحها مرافق "تيل كيل عربي" بالقول: "حسب الروايات التي خرجت من هنا، كان الألمان حريصين على تدبير الموارد القليلة التي كانت بحوزتهم، لذلك كلما أحرقوا معتقلا لديهم، ألبسوا زيه لمعتقل جديد قادم من أحد أنحاء أوروبا".
شعر الذين ظهرت صورهم في اللوحة الكبيرة وغيرهم يرابط بدوره في بناية أخرى قريبة من البناية الأولى التي ولجها "تيل كيل عربي". مشهد تقشعر له الأبدان. أكوام من الشعر كدست هنا، وبالقرب منها مجلد كبير من أوراق غلفت كل واحدة منها بالبلاستيك تحمل أسماء وأرقام عدد من الذين مروا من هنا.
غير بعيد عن البنايات، تظهر تلة سوداء يظهر من الوهلة الأولى أنها ركام من تراب، لكن حين السؤال عن سبب توجه الزائرين نحوها بكثرة، وطأطأة رؤوسهم ما أن يقفوا بالقرب منها، تسمع أن "هذا الركام ما هو إلا رماد وبقايا عظام جثت كل من أحرقوا في معسكر أوشفيتز بيركينو"...