هل هي لعنة حلت على الدار البيضاء، طردت الناس من الشوارع والساحات؟ أم أنها فترة راحة بيولوجية للشجر والحجر والبشر، والتقاط للأنفاس لاستغلال فرصة رضوخ "الغول" للحجر والطوارئ الصحية، بعد هجوم مباغت لفيروس، أصاب بشكل قوي ساكنة العاصمة الاقتصادية، وجعلهم يتصدرون قائمة أعداد المصابين في المغرب؟
واقع الدار البيضاء أشبه بإخضاع جسد ضخم معتاد النشاط والحركة لعملية "تخدير" كلي من أجل إجراء عملية جراحية طارئة، لإنقاذ حياته، مع الحفاظ على سير الدماء في الشرايين حتى يواصل القلب النبض. الجسد الساكن هنا هو المدينة المليونية، والتخدير الكلي هو الحجر الصحي، والشرايين، هم العاملون والموظفون الساهرون على ألا يصاب الاقتصاد كله بالشلل. فكيف تناسقت أطراف "كازابلانكا" المترامية والمكتظة بالسكان لحظر التجوال والحجر الصحي؟ وما الذي تغير وهي تعيش قرابة الشهر في عهد الطوارئ الصحية؟
فراغ وسدود أمنية وانسيابية مرور
تبدو السكينة والفراغ أبرز مسيطرين على الدارالبيضاء، وفي عز النهار وأوقات الذروة الخانقة عادة للسير والحركة، اختفى البشر والضجيج معا، وهجرت الأسواق التي كانت حجا للمستهلكين، من "القريعة" إلى "درب غلف" و"باب مراكش"، وانتكست الأسواق الشعبية، بعدما اختفت منها عربات الخضر والفواكه.
فإضافة إلى الفراغ والخواء في المدينة، يمثل حضور رجال الشرطة بسدودهم الأمنية المنتشرة بكثرة في كل أرجاء المدينة، مشهدا غير مسبوق، وواقعا جديدا فرضه الحجر الصحي على المدينة الأكثر حركية في البلاد.
حتى في زمن الجائحة تحافظ الدارالبيضاء على تفاوتاتها المجالية، فعلى الرغم من أن المدينة تعرضت لـ"مسخ" ظاهري، ولم يتوقع أحد، لا من أبنائها ولا من زوارها، سيناريو خواء كالذي يسيطر على أكبر شوارعها، اختفى الناس وقل الضجيج وهدأ سعار التسابق في الشوارع، وأبكمت أبواق السيارات التي اعتادت محركاتها على الزمجرة أمام الأضواء الحمراء. كل مشاهد الفوضى والازدحام اختفت من المدينة.
يقول عبدالعالي، مهندس معلوميات بإحدى الهولدينغات بشارع الزرقطوني، إن التنقل صار سهلا وانسيابيا بشكل غير مسبوق في المدينة، ومدة وصوله عبر السيارة تقلصت إلى أكثر من النصف، ويوضح «كان الذهاب إلى العمل والعودة روتينيا يوميا صعبا. في السابق، كان يتطلب مني الوصول إلى مقر العمل أكثر من 30 دقيقة، أما العودة إلى المنزل، في أوقات الذروة، فقد كانت تتطلب مني أكثر من 45 دقيقة. أما اليوم فربع ساعة للذهاب وأخرى للإياب كافية، ودون أن أعاني من قلق السياقة".
رغم أن بإمكانه العمل عن بعد بحكم تخصصه، إلا أنه يضطر، على الأقل ثلاث مرات في الأسبوع، إلى الذهاب إلى مقر العمل، ليشرف على عمليات اجتماع بين رؤسائه عبر "الويب"، أو إصلاح أحد الأعطاب التقنية، يقول "لقد أدى العمل عن بعد إلى ظهور متطلبات جديدة، وكمسؤول عن الجانب التقني في المؤسسة، فإن التدخلات التقنية صارت أكثر إلحاحا من ذي قبل".
فقدت شوارع مثل الزرقطوني وأنفا ومحمد السادس ومحمد الخامس والحسن الثاني وغاندي وغيرها كل نشاطها، وصارت أماكن مقفرة إلا من قلة قليلة من المارة. يقول أنس الأزهري، وهو خبير محاسب، إن الدارالبيضاء تغيرت إلى درجة لا يمكن التعرف عليها، وقال "من كان يعتقد أن يتحول التسوق إلى همّ، بينما صار التنقل في أكبر المحاور الطرقية هينا وسهلا؟ هذه أبرز التناقضات التي حملها الحجر الصحي".
ويعلق هذا الشاب الثلاثيني قائلا "أحيانا، أتمنى لو بقي الحجر الصحي مدة أطول حتى تتنفس المدينة وتجدد روحها وجسدها. لقد صارت السماء صافية والهواء أنقى، لكن في الوقت ذاته، أستدرك وأقول إنه لا يمكن لعجلة الاقتصاد أن تواصل توقفها لأكثر من ثلاثة أشهر، لذا، ففي النهاية، نرجو الله أن يحد من انتشار الوباء في المدينة، وتعود الدورة الاقتصادية، وأن نستفيد من دروس هذه الأزمة".
تفاوتات في احترام الحجر
في وسط المدينة أو في المعاريف أو بوركون، اختفى الناس من الشوارع، وانصبت السدود الأمنية في كل المداخل المؤدية إلى العمالات والمقاطعات. صار لزاما على جميع السائقين التوقف عندها للإدلاء بتصاريح الخروج الضروري، لكن ماذا وراء الشوارع الفسيحة الفارغة من المشاة والراكبين؟ ما الذي يدور في الأحياء الشعبية المكتظة؟
لا يشبه وضع شارع محمد السادس، وتحديدا في منطقة كراج علال، الذي أغلقت جميع محلاته، ما يجري في الأزقة الخلفية لدرب السلطان، حيث تحتفظ الدروب بمارة كثر، فبين من يقف أمام عربة خضر أو فواكه، وبين من ينتظر دوره أمام البقال، تبدو الحركة مكتظة، نوعا ما، لمدينة تعيش الحجر الصحي، لكنه مستوى اكتظاظ بعيد كل البعد عن بداية تطبيق الحجي الصحي؛ أي قبل اقل من شهر، حيث كانت تضطر الأجساد للالتصاق إن أرادت المرور في هذه الحواري الضيقة لزنقة الشمال ونواحيها.
يرى محمد، وهو شاب بائع خضر متجول، أن الحظر، الذي ضرب على الأسواق الشعبية، دفعهم إلى التجول ببضاعتهم بين الأزقة، يقول "اليوم صرنا بائعين جوالين، بما تحمله الكلمة من معنى. أعتقد أن التجول بين الدروب يجنب أيضا انتقال الناس إلى الأسواق، ويحد من الوقوع في الازدحام".
يبدو سوق "القريعة" الشهير كمدينة أشباح، بعدما أغلقت المتاجر والورشات ومحلات النجارة والخشب. الكل أوصد الأبواب، منذ 20 مارس، بينما يسهر حراس على أمن المتاجر. يقول أحد التجار، الذي عرج على محله للاطمئنان عليه «هنا ما يزيد عن 2400 محل في القريعة، كلها أغلقت أبوابها. فحتى بالنسبة إلى من هم أكبر سنا مني، فلم يشهدوا وضعا كهذا، في السابق. لا نعرف كيف سيكون الوضع مستقبلا، لكننا متفائلون بأن نتغلب على هذا الوباء وتعود المياه إلى مجاريها". يقول هذا الحرفي، المتخصص في صناعة الأحذية، إنه يشتغل بـ"القريعة"، منذ ثلاثة عقود، ويتمنى أن يجري استغلال هذا التوقف لإجراء إصلاحات هيكلية على السوق، ويضيف "لقد شاهدت أن شوارع جرى تبليطها أثناء فترة الحجر، وهو أمر جيد. أتمنى أن يستغل القائمون على تسيير المدينة هذه الفرصة للقيام بالصيانة اللازمة، خاصة في الأماكن التي كانت مكتظة على الدوام".
في أجواء الخواء بالمدينة، وحدها الصيدليات ووكالات الضمان الاجتماعي ووكالات الاتصالات التي تعرف ازدحاما، ويصل عدد الواقفين في الطوابير إلى العشرات. يقول مسؤول تجاري بإحدى شركات الاتصال إنه، منذ تطبيق الحجر الصحي، ارتفع عدد طلبات الحصول على ربط بالإنترنت ليتضاعف ثلاث مرات، وقال إنهم تلقوا أزيد من 6 آلاف طلب في أسبوع واحد، "ما جعل الشركة تلجأ إلى رفع طلبياتها واستقدام موديمات أخرى من فرنسا".
وأضاف المسؤول التجاري، الذي رفض الكشف عن اسمه "لقد كانت توقعاتنا أن نبيع 6 آلاف جهاز في 3 أشهر، لكننا تلقينا طلبيات هذا العدد في أقل من عشرة أيام». ويفسر هذا الأمر بارتفاع الأشخاص العاملين من منازلهم، ما يتطلب توفرهم على إنترنت بصبيب عال". وحسب المصدر، فإن شركات الاتصالات الثلاث عرفت منذ بداية تطبيق حالة الطوارئ الصحية إقبالا كبيرا من طرف المستهلكين.
هشاشة اجتماعية تصدم السلطات
في "مدينة الأشباح"، الأكثر تضررا من الفيروس وفق إحصائيات وزارة الصحة، فإن الحظر الصحي يبقى حلا للحد من انتشار الوباء، وهو ما دفع بالقوات العمومية من شرطة وقوات مساعدة إلى النزول بقوة إلى الشوارع والأحياء، لمحاربة خرق الحظر. ففي الأيام الأخيرة، كان معدل توقيف الخارقين يفوق الألفين، فما السبب في هذا التمرد على الحظر، خاصة بعد الساعة السادسة مساء؟
يجيب عميد شرطة في منطقة مولاي رشيد، إحدى المقاطعات الأكثر كثافة سكانية في العاصمة الاقتصادية، ويقول "يجب أن نقر أن استجابة المواطنين للحظر الصحي تتقدم وتتحسن مع مرور الأيام، والوضع اليوم ليس كما كان قبل ثلاثة أسابيع".
ويوضح هذا المصدر الأمني، الذي رفض الكشف عن هويته، أن تجربة ضبط الحجر الصحي ورصد خارقيه أظهرت أن الإشكال الحقيقي يتجلى في الهشاشة الاجتماعية، وهي التي وقف عليها أغلب رجال الشرطة، خاصة في الأحياء الشعبية، ويؤكد "لابد أن نقر بأن مستوى الالتزام بالحجر الصحي يتفاوت من منطقة لأخرى في العاصمة الاقتصادية، وهناك عوامل من بينها مستوى الكثافة السكانية في الكيلومتر مربع، ثم الوضع الاجتماعي وظروف المسكن، وعدد أفراد الأسرة. لقد قابلت حالات خارقة للحجر، يشتكي فيها شبان من ظروف قاهرة، مثلا أحدهم اضطر إلى الخروج حتى يسمح لشقيقته بتغيير ملابسها، بما أنهم يعيشون كأسرة مؤلفة من ستة أفراد في غرفة واحدة".
ويسير قائد بمقاطعة ابن مسيك في الاتجاه ذاته، ويقول إن دوريات مراقبة احترام الحجر الصحي في أحياء شعبية كان، منذ البداية، يأخذ بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية للساكنة، ويضيف "عموما، لقد تحسنت استجابة السكان لتدابير الحجر الصحي مع مرور الأيام، كما أن الحملات التوعوية أعطت أكلها، أما فيما يخص خالات الخرق، فأغلبها مرتبط إما بظروف معيشية خاصة، أو بالإدمان، كما أن الفئة العمرية الشابة هي الأكثر انفلاتا والأصعب ضبطا في هذه الفترة".