هل هو انفلات أو تراخ أو ضجر من قهر أو عصيان؟ يصعب وصف ما يعيشه المغاربة بعد شهرين في "سجن" الحجر الصحي وحظر التجوال ليلا.
يقترب المغاربة من إتمام ثلاثة أشهر في الحجر الصحي، بعدما طبقت البلاد حالة الطوارئ الصحية منذ مارس الماضي، وأجبرت ملايين المغاربة النشطين على المكوث في منازلهم، اتقاء شر الوباء، فتوقفت عجلة الاقتصاد وتكبد التجار المهيكلون وغير المهيكلين خسائر أصابتهم في مقتل، قاسى الناس في الحجز ومن الحجر، وعانت نفسياتهم، من مختلف الأعمار، من اضطرابات بسبب الاحتجاز الطوعي وشلل الحركة والهلع والتفزيع المكثف الناجم عن ضغط الإعلام العمومي المولول في زمن الجائحة.
وهم يسيرون نحو إتمام ثلاثة أشهر من الحجر، خفت التزام المغاربة بالقيد الصحي، وبدا "الانفلات" سيد الأزقة وإن خلت كبريات الشوارع، المزروعة بالسدود الأمنية، من الناس.
(تصوير: فهد مرون)
"لسنا خارجين عن القانون حتى تصورونا. نود أن تنقلوا وجهة نظرنا، ومفادها أننا مضطرون إلى البحث عن قوت يومنا، لأن الوضع تغير بعد شهرين من الحجر. لقد نفذ الادخار لمن كان ينجح في ذلك، ووجد كثيرون أنفسهم بلا عمل، كثير منهم اليوم، يبيع الخضر والفواكه، لأنه يعرف أن موجة الاستهلاك ترتفع في رمضان، إنه حل أخير بالنسبة لناس يبحثون عن لقمة عيش لتدبير معاشهم"، يقول بائع فواكه في عقده الخامس لـ"تيلكيل عربي"، بعد أن تجمهر عشرات الباعة المتجولين على مصور "تيلكيل عربي"، ملحين على توضيح سبب "اضطرارهم" إلى الخروج إلى الشارع.
لم يستسغ باعة الخضر والخضر في سوق شعبي بمنطقة التشارك بالدارالبيضاء قرار تمديد حالة الطوارئ للشهر الثالث على التوالي، ويدافعون عن خرق الحجر الصحي بدعوى حاجتهم إلى العمل لسد الرمق.
حسب أرقام المندوبية السامية للتخطيط، فإن ثلث الأسر المغربية فقدت دخلها في زمن الطوارئ الصحية، ففي العاصمة الاقتصادية، لم تكن الشوارع والمحجات تعكس حقيقة ما تخفيه بناياتها العالية، وكلما كانت الكثافة السكانية لعمالة ما في الدارالبيضاء مرتفعة، فإن الانفلات من الحجر الصحي يكون باديا، وغالبا ما تتشكل الحشود بسبب التسوق.
غرين: التمديد عقاب والحجر لامتصاص الصدمة
وفق الأرقام الرسمية لبحث أنجزته مندوبية التخطيط في الفترة الممتدة ما بين 14 و23 أبريل الماضي، فإن أكبر أسباب خرق الحجر هي الخروج من أجل التموين المنزلي، وذلك بالنسبة إلى 94% من الأسر، أما السبب الثاني فهو الخروج إلى العمل وذلك لدى 30% من الأسر، أما قضاء الأغراض الإدارية فكان سببا للخرق لدى 10% من الأسر، ولاحتياجات ترفيهية بالنسبة لـ7% من الأسر، 50% لدى الأطفال دون سن 18 سنة.
تخص هذه الأرقام شهر أبريل، أما في أواخر ماي، فقد تغير الوضع كثيرا وزادت حدة خرق الحجر الصحي، ففي سوق الزبير أو عكاشة بعمالة الحي الحسني، لا يختلف المشهد كثيرا عن التشارك أو سباتة. يقول بائع متجول وهو يعرض عربة خضر مرتبة جيدا "كان احترام للحجر في البداية، لكن مع مرور الشهر الأول، شرع الناس في العودة إلى الخروج والوقوف في الأزقة والدروب، أغلبهم يقطنون شققا صغيرة ويعيشون في أسر من أربعة أفراد فما فوق، كيف تريدهم أن يخضعوا للحجر".
ينبري زميل له، وهو شاب في عقده الثالث يبيع فاكهة المانغو، للتأكيد على أن أغلب الخارقين هم من الباحثين عن قوتهم اليومي، ويفسر "عندما تغلق القريعة ودرب غلف وكراج علال ودرب عمر، فأكيد أن الآلاف من التجار الصغار ومساعديهم باتوا بلا عمل، واغلبهم يتدبر أمره ببيع الجوال، للخضر أو الفواكه، وها نحن مجبرون على مواصلة الحجر لعشرين يوما أخرى"، ويختم "طبنا والجميع غادي يطج من البيوت".
يقول الدكتور مصطفى كرين، الطبيب رئيس المرصد الوطني للعدالة الاجتماعية، إن تمديد فترة الحجر إلى غاية 10 ماي أعطى انطباعا أقرب إلى كونه عقابا للمغاربة الذين التزموا فعلا بالحجر الصحي طوال الشهرين الماضيين، يرى أن الحكومة عانت من تخبط كبير في تدبير هذه الجائحة، موضحا أن الإعلام العمومي في زمن الوباء تحول إلى إعلام حكومي.
ويوضح غرين أن من أسباب "التراخي" إزاء الحجر هناك العوامل الاجتماعية والاقتصادية، ثم التدبير التواصلي للحكومة مع الناس، ويقول "هناك فشل ذريع في تواصل الحكومة مع الناس، لأنها تبنت منهجا تواصليا تهديديا عوض منهج مبني على التفسير".
وبالنسبة لهذا الطبيب، فإن تطبيق الحجر لم يجر بالتساوي بين الجميع، إذ في الوقت الذي دعي فيه الناس إلى المكوث في المناول استمرت أنشطة معينة في العمل، ما أدى إلى ظهور بؤر وبائية في وحدات صناعية متفرقة، وأن الحكومة أخطأت بالانتقائية في تطبيق الحجر والإغلاق، ويزيد موضحا "الحجر الصحي على من؟ وهل هناك قطاعات اقتصادية ذات أولوية وأخرى دون أولوية؟ ولماذا لم تفرض الحكومة على الشركات الراغبة في مواصلة العمل دفتر تحملات تلتزم فيه بتوفير شروط السلامة، هذه كلها أسئلة يجب طرحها ونحن نتحدث عن ظروف الحجر الذي يعتبر من الأطول على الإطلاق".
بالنسبة لغرين، فإن الإشكال المطروح اليوم هو أنه جرى استغراق وقت كبير في إقناع الناس باحترام الحجر، سواء من خلال الدعاية أو الزجر عبر السلطات والقوات العمومية، دون أن يتزامن ذلك مع البحث والتفكير لما بعد الحجر، وكيف يمكن الاستعداد لما بعده.
ويتابع غرين "في البداية كان المشكل هو كورونا، أما اليوم فصار هو المشاكل الاجتماعية، التي خلفها الحجر وزمن الوباء، وهي مشاكل يمكن أن تتطور من اجتماعية إلى أمنية ثم سياسية، وهو أمر مطروح في جميع الدول".
يشدد غرين على أن الحجر ما هو إلا وسيلة استباقية لتفادي الصدمة الأولى، ويؤمن بأنه لا يمكن الاستمرار فيه إلى الأبد، كما لا يمكن منع الناس من المشاركة في إعادة دوران الاقتصاد.
ويستمر غرين في انتقاد الحجر الصحي المطبق منذ 20 مارس، ويعتبر أنه بني على فرضيات غير مؤكدة، ومستدلا بالأرقام ويقول "عندما نسوق بأن في حالة رفع الحجر قد نسجل ما بين 300 ألف إصابة و500 ألف إصابة، علينا أن نعلم أنه للتأكد من هذا العدد من الإصابات فيجب إنجاز 5 ملايين اختبار، بينما نحن قمنا في ثلاثة أشهر بـ100 ألف اختبار، بمعنى من قال أنه فعلا ليست لدينا 300 ألف إصابة، وبالتالي فإن تمديد الحجر بني أيضا على فرضيات إحصائية، وبالتالي فإن المسألة نسبية في المنطق الإحصائي".
لا ينفي غرين وجود مخاطرة كبيرة برفع الحجر، مما قد يتسبب في موجة ثانية تكون مدمرة للبنية الصحية في البلاد، لكنه يقول "المخاطرة موجودة، لذا علينا الإجابة عن أسئلة: ما هي الاحتياطات وما حجم قدرتنا الاستعدادية؟ فالأكيد هو أن اقتصادنا يبقى هشا، والناس في حاجة ماسة إلى العمل ومزاولة نشاطهم لكسب قوتهم اليومي".
فقير: العودة مع كسر النمطية والاقتصاد يتألم
بالنسبة للخبير في تدبير المخاطر المهدي فقير، فإن الأكيد أن الحجر الصحي لن يبقى إلى ما لا نهاية، وأن القادم من الأيام يتطلب التعايش مع الوباء، كما تعاملت دول جنوب شرق آسيا بشكل صارم مع رفع الحجر وذلك دون المس بالحياة الاقتصادية.
ويقر فقير بأن "التعايش مع الوباء أمر صعب، خاصة إذا كانت البنى المجتمعية والاقتصادية تعاني من حالة انفصام، أي أنها تطالب بتطبيق الحجر، لكن في الوقت ذاته هي أول من يرفض الامتثال له".
ويقول "البؤر الصناعية التي خلطت الأوراق، ألم تكن معرضة للمراقبة؟ ألم يتبنوا احتياطات صحية؟ بمعنى أن الخروج من الحجر ليس مقتصرا فقط على قرار سيادي، بل هو قرار مجتمعي، على الجميع اليوم أن يلتزم بالمحاذير الصحية لدرجة الامتثال المطلق والأعمى، مع تكثيف عمليات الكشف الاستباقي وحصر البؤر بشكل منظم".
ويؤكد فقير على أن الفاتورة الاقتصادية جد مؤلمة، وأن خسارة الاقتصاد الوطني لـ80 مليار درهم، منذ دخول حالة الطوارئ الصحية حيز التطبيق، يعتبر رقما مهولا، وستكون له نتائج موجعة لمدة طويلة على الاقتصاد المغربي.
ويحمل فقير وجهة نظر متعلقة بالخسائر الاقتصادية بسبب "كورونا"، إذ يرى أنه يمكن العودة إلى الحياة الاقتصادية مع اتباع سلوكات جديدة، والاستثمار بنصف هذا المبلغ لتحصين السكان وحصر الحالة الوبائية عبر تكثيف الكشف وتجهيز البنيات الصحية.
ويتابع موضحا "أعتقد شخصيا أنه آن الأوان لرفع الحجر، لكن شريطة الخروج عن النمطية في العيش والتدبير واستنهاض الهمم ولملمة الخسائر".
ويعتبر فقير أن الأزمة ستدفع بتحوير على مستوى البنى الاقتصادية والاجتماعية، خاصة وأنها لم تكن قادرة على تدبير الأخطار، إذ يتوقع ارتفاعا في نسبة القروض المتعثرة، واختفاء لمناصب الشغل، وخلق ضغط على الأبناك، ويضيف "أتمنى أن أكون مخطئا في توقعاتي، لكن أن يخسر الاقتصاد مليار درهم في اليوم، فالأمر جد مقلق، يوحي بأن القادم سيكون أسوأ على الصعيد الاقتصادي، ما سيؤدي إلى تغيير كبير في النسيج الاقتصادي، إذ من المحتمل أن يتحول عدد كبير من السكان النشطين من القطاع المهيكل إلى القطاع غير المهيكل".
ويستدرك الخبير الاقتصادي بالقول بأنه يمكن استدراك كل هذه الخسائر شرط إعمال أفكار جديدة ومناظير جديدة لإقلاع اقتصادي، ويشدد على أن هناك عملا جبارا ينتظر القائمين على تدبير الشأن الوطني، ويقول "بكل صدق، أتعاطف مع المسؤولين، لأن ما نعيشه اليوم هو أصعب وأسوأ فترة يمكن فيها لشخص أن يتحمل المسؤولية العامة، لذا أدعو إلى تخفيف الضغط على الحكومة وميزانيتها، لأنها متعبة ومرهقة من الخسائر ومن ضغط الحجر، وعلى قوى الوساطة، من جمعيات بينمهنية والمجتمع المدني أن يشارك في إنقاذ الاقتصاد الوطني".
بورقية: الجهل أشد فتكا من الفيروس
من جانبه، يرى الباحث في علم الاجتماع والمتخصص في سلوكات الحشود عبدالرحيم بورقية أن "وباء كورونا قام بتحديث التفاوتات الاجتماعية التي نعيشها، لأن نسبة كبيرة من المغاربة يعيشون الهشاشة وضعف الإمكانيات وقلة ذات اليد، لذا فمنذ بداية الحجر الصحي كان هناك تضارب حول مدى احترام تعاليم السلامة والتدابير أو الإجراءات المتخذة من طرف المسؤوليين عن الصحة والأمن وخصوصا في الأحياء الشعبية والهامشية".
ويوضح بورقية أن ما يظهر في الآونة الأخيرة من حدة في التواجد خارج المنزل يمكن تفسيره بالعوامل التالية: أن معظم هؤلاء نساء ورجال وأطفال يشتغلون في اقتصاد غير مهيكل وعشوائي، وأنهم مضطرون للخروج من أجل البحث عن لقمة العيش، رغم إعانات صندوق "كوفيد-19" الذي ساهم في التقليل شيء ما من حدة الوضع.
وحسب بورقية، الذي يشغل مهمة رئيس شعبة العلوم السياسية والحكامة بجامعة "مونديابولس"، فإن "التعويض الذي بالكاد يكفي لتأمين الحاجيات الضرورية، دون التكلم عن من تتجاوز حاجياته إمكانياته، ومن يحاول أن يعيش بعيدا عن التقشف، أو العائلة التي لا تتدبر أمورها جيدا في ظل مجتمع يتسابق فيه الناس على التفاخر وحب الظهور حتى بالنسبة إلى من يعيشون قلة الإمكانيات يسقطون في فخ الاستهلاك، إما بسبب الجهل أو ضغط إغراءات العائلة والمجتمع والإعلانات والإشهارات".
من بين عوامل الخرق، في نظر بورقية، هناك الجهل؛ إذ يعتبره أشد فتكا من الفيروس، خصوصا "الجهل بقيمة الأشياء وقيمة الحياة والإنسان، جهل وليد سياسات تراكمات أنتجت مجموعة مشاكل يتخبط فيها المغاربة منذ زمن بعيد: في التربية والتعليم أولا، لأن جل من لا يحترم الحجر الصحي يعتبر نفسه غير معني بالخطابات التي تبثها الإذاعة والتلفزة، ويرى أن ليس لديه ما يخسره، لأنه يعيش يوما بيوم وليست له آفاق، هو ذاك الكائن الذي "عايش وصافي" ينتظر قدوم ساعته. قد يعبأ إذا كانت له عائلة يهتم بها وتهتم به، لكن في الغالب لا يكترث ويخرج من أجل البحث عن بعض الدريهمات لتأمين مصروفه اليومي".
أما العامل الثالث فيرى بورقية أنه يتجسد في ظروف الحجر في حد ذاتها، ويوضح "كيف يمكن لمن يعيش في مأوى يفتقر لأبسط الأشياء من مرافق صحية أن يلتزم بالحجر؟ كيف لمن هم سبعة أو ثمانية أفراد يكترون غرفة مع الجيران وتتقاسم المطبخ والمرحاض؛ وغرفة معيشة هي مكان الأكل والشرب ومشاهدة التلفاز والنوم كذلك. لأنه عندما يحث المخاطب في التلفاز المتلقي على الالتزام بالمكوث في المنازل، أعتقد أنه لا يعي وضعية جل المغاربة التي تعاني الهشاشة"، ويزيد مسترسلا "الضجر والقهر النفسي لم يعد مقتصرا على هذه الفئات الهشة، بل طال الطبقات المتوسطة أيضا".
أما عن الحياة ما بعد الحجر، فيعتبر بورقية أنه يجب أن يكون هناك هناك تدرج وتعايش مع الفيروس، عبر تبني سلوكات للحفاظ على السلامة وهو شيء ضروري على المديين القريب والمتوسط، أما على المدى البعيد، فلا مناص من الاستثمار في العنصر البشري والشباب لأنهم الدعامة المستقبلية، وتشجيع الكفاءات والاستحقاق، ويضيف "كورونا أظهر لنا دور عامل النظافة وسائق شاحنة وبائع المواد الغذائية ورجل الأمن الكفء والطبيب والممرض المتفانيان في عملهما، ويخاطران بنفسيهما من أجل إنقاذ حياة الآخرين، ومع ذلك فدخلهم جميعا لايوازي المهام التي يقومون بها".
يشدد بورقية على أنه يجب العمل على تطوير وسائل الإنتاج، سواء الأدوات الفكرية والبشرية والصناعية والغذائية، وأن هذا الاستثمار يجب أن يكوِن في أساسيات اقتصاد متين وتكوين مجتمع يثق في نفسه وأفراده، قادر على الإبداع والخلق وتحقيق التقدم في شتى المجالات العلمية والاقتصادية والفنية والرياضية.
ويعتقد بورقية أن "كورونا" عرى الواقع بشكل كبير وأن ما بعده يجب أن ينبني على أسس متينة؛ إذ تميز زمن الوباء بعودة الدولة الراعية، وأنه يجب السير قدما بخطوات ثابتة لتوزيع عادل للثروة مع تشجيع المواطنين على العمل وتجزيتهم لكي يساهموا في الاقتصاد الوطني.