صور: ياسين التومي
الدراسة هنا لا تزال متوقفة، وبديل "التعليم عن بعد" ترفٌ ليس لأطفال وطفلات المنطقة حظ فيه. المرضى يترقبون انتهاء أشغال فتح معابر ضيقة تدخل ضمن خانة "الطرق" غير المصنفة. موارد الساكنة ضعيفة، وتكاد تكون منعدمة عند البعض، والمسؤولون عن السلطات المحلية والمنتخبون، ورغم الجهود التي يبذلونها، يرجون ألا يباغت المخاض حاملاً في ظل هذه الظروف.
أيضا، يكدّ المنتظرون لعودة الربط بأسلاك التيار الكهربائي في البحث عن "قرطاس" شمع، تضاعف سعره في سوق تجارة مآسي من يقطنون الجبل. وآخرون لايزالون يقطعون كيلومترات وسط الثلوج للبحث عما يؤمن قوت اليوم، مخترقين مسالك شقت وسط الجبال بأكياس الدقيق.
لا صوت يعلو هنا على صوت الاستغاثة لإنقاذ الآلاف من المغاربة "الذين لا يملكون من الانتماء للمركز غير بطاقة التعريف الوطنية ولا يتذكرهم أحد إلا يوم الاقتراع للتصويت"، كما يلخص الوضع الشاب محمد من دوار "أموايت"، القابع عند قمم الجبال نواحي مدينة تاونات.
شاب تحلق رفقة رجال وأطفال حول سيارة "مرسيدس 207" بيضاء، وصلت لتوها إلى نقطة "حدودية" تفصل ما بين النفود الترابي لتاونات والآخر المنتمي للحسمية، يتسابقون لشراء حاجياتهم من المواد الغذائية والأساسية.
207.. المنقذة
يوم الخميس 14 يناير، أطلقت صرخة استغاثة من دواوير يفرقها الانتماء للنفود الترابي، وتجمعها المعاناة نفسها بعد التساقطات الثلجية الكثيفة التي شهدتها المنطقة خلال الأيام الماضية.
"تيلكيل عربي" شدّ الرحال في اليوم الموالي إلى أبعد نقطة ممكنة، حيث انتهت عند حلوله بها أشغال فتح "الطرق"، في انتظار وصول آليات أكثر قدرة على كسح الثلوج التي عزلت المنطقة عن العالم الخارجي لأيام.
عند الوصول إلى هناك، منتصف يوم الجمعة 15 يناير، بعد قطع مسالك جبلية وعرة يراوغ من يعبرها الموت عند كل منعرج، اكتمل مشهد من مشاهد صراع هذا الجزء من المغاربة مع محاولات الاستمرار في العيش بكرامة ودون خوف من تقلبات الطبيعية التي لم تعد فجائية.
دواوير "بن عياش العليا"، "مداود"، "علوان"، "أونا"، "تورات"، "المرابعة"، "الخندق"، "العنقود"، "تمايلت"، "أمزير"، "إقرارن" بالإضافة إلى "تيرت"، و"أدرروين"، و"أموايت"، وأخرى... كلها تنظر منذ أيام، قبل وصول "تيلكيل عربي" إلى حيث توجد بقمم الريف الجغرافي، وصول المنقذ.
كيلوغرام واحد من البطاطس بـ7 دراهم، نفس الشيء بالنسبة للطماطم، والجزر بخمسة دراهم للكيلوغرام الواحد، أما سمك "الشطون" فتناول الكيلوغرام الواحد منه يتطلب دفع 15 درهماً.
قنينات الغاز الصغيرة تضاعف سعرها لتصل إلى 20 درهماً، وقنينة الغاز من الحجم الكبير بـ50 درهماً.
ولأن دواوير هنا لاتزال ترزح تحت الظلام بسبب العطب الذي ألحقته الثلوج بأحد الأسلاك التي تزود المنطقة بالتيار الكهربائي، أصبحت مادة الشمع نادرة ومطلوبة.
يقول سعيد، أحد قاطني دوار "بن عياش العليا" المحسوب على نفوذ الحسيمة، لـ"تيلكيل عربي"، قرب سيارة "المرسديس 207"، وسط صخب أصوات "تقاتل" للحصول على ما تحتاجه من سلع وموارد: "نعيش بلا تيار كهربائي لأزيد من أسبوع، وعلبة الشمع من ست قطع وصل سعرها إلى 35 درهماً، هذا إن تركت لك الدواوير التي تمر منها سيارة السلع ما تشتريه وهي في طريقها صعوداً نحو قمم الجبال".
الملاحظ في هذه المنطقة قلة اعتماد ساكنتها على الزراعة المعيشية، رغم شساعة الأراضي، واعتماد أهلها على الأشجار المثمرة أكثر من أي شيء آخر. هنا، يرجون من الأرض بأن تجود عليهم بخيرات الأشجار المثمرة، مثل اللوز والتين والزيتون لتطول سنين الرخاء بفضل غلتها.
شيخ المنطقة، وفي حديثه لـ"تيلكيل عربي"، يفسر قلة اعتماد الساكنة على الزراعات بـ"عدم انتظام التساقطات المطرية، وتفضيل الشباب الهجرة على الاشتغال في حرث الأرض، وهي هجرة تستهدف أساسا مدينة الدار البيضاء، حيث احترف أبناء المنطقة أبا عن جد، وصولا للأحفاد، حرفة صناعة الأحذية والتجارة فيها".
الثلوج تكسو كل شبر من هذه الأرض، توقفت على بعد أمتار قليلة الجرفات عند منعرج لا تقوى على اختراقه. بعده، يقع دوار "أموايت"، وقبله شيدت مدرسة صغيرة فوق قمة، هي المنقذ الوحيد لأبناء المنطقة من "شرّ الأمية"، وتلك قصة أخرى.
الدراسة مع وقف التنفيذ.. "والتعليم عن بعد" ترف
قصير القامة، يجيب عن الأسئلة بنباهة وسرعة دون تلعثم. يتحرك حيث ما تحرك "تيلكيل عربي" بحثا عن المعلومة والشهادات، ويبادر رغم صغر سنه لفرض أن يكون هو مصدر المعلومة.
يوسف دقداق، طفل في الـ13 من عمره، يدرس في السابعة ابتدائي قيادة "التبرنات"، ممسكا بقطعة ثلج عند نقطة تطلّ على الدواوير التابعة للحسيمة، يقول: "جوج الأسابيع بدون دراسة، وفوتت علينا الثلوج اجتياز امتحانات الدورة الأولى".
يوسف، وحسب شهادته، سمع بـ"التعليم عن بعد"، لكنه لم يستفد منه، سواء في زمن الحجر بسبب "كورونا"، أو في "زمن الحجر" بسبب الثلوج، ويشكو رفقة أقرانه من الذين صعدوا مع آبائهم وعائلاتهم إلى هنا لشراء حاجياتهم غياب الوسائل التي تمكنهم من متابعة دروس "التعليم عن بعد"، وضعف تغطية شبكات الاتصالات بمورديها الثلاثة.
"أخبرونا أن الدراسة سوف تستأنف يوم الاثنين (11 يناير)، لكن الطرق إلى اليوم (الجمعة 15 يناير) لا تزال مقطوعة، والتلميذات اللاتي يستفدن من دار الطالبة عدن إلى منازلهن".
"تيلكيل عربي" بحث في الأسباب وراء استمرار انقطاع الدراسة، ليجد أن الثلوج ليست وحدها "من تتحمل المسؤولية"، بل بحكم اعتماد وزارة التعليم بشكل كلي على "الأساتذة المتعاقدين" في هذه المنطقة، يبقى ضمان استمرارية الدورس الحضورية صعباً بسبب ملفهم، وهؤلاء نزلوا كلهم من الجبال خلال هذه الفترة لاجتياز اختبارات الوزارة!
وبالعودة إلى مدرسة "أموايت"، يطرح سكان الدوار تساؤلا عن الغاية وراء تشييدها في مكان بعيد عن الساكنة، وفرض قطع كيلومترات على أطفالهم للوصول إليها، كما يشتكون ضعف أسسها وتآكل جدرانها واختراق الثقوب لسقفها. "عمي راه كنقراو تحت القطرة يمات الشتاء"، يقول طفل صغير في الطريق وسط الثلوج نحو بناية المدرسة.
في المقابل، تفسر السلطات المحلية اختيار هذا المكان بـ"صعوبة بالغة لتنازل سكان الدوار عن قطعة أرض وسطه لتشييد المدرسة".
صغار المنطقة من الذكور "لا يفهمون" حسابات كبار السن، ما يرجونه بعد هذه المحنة وانتهائها تماماً، هو فتح دار الطالب في وجههم، والتي شيدت قبل سبع سنوات. بناية سوف تجنبهم هدرا مدرسيا ينخر ناشئة المنطقة.
لعنة "الحدود"
أشرف، شاب يتحمل مسؤولية قائد المنطقة، فارع القامة، يتحرك يمينا وشمالا، ويتابع كل كبيرة وصغيرة. يرافق "القايد" الشاب منذ بداية الأسبوع المنصرم الجرفات لكسح الثلوج وفتح المعابر، ولا يخفي مشقة المهمة بسبب صعوبة وصول الآليات إلى هذه المنطقة، خاصة وأنها ليست الوحيدة المتضررة من الثلوج داخل دائرة نفوذه.
السلطات المحلية في المنطقة وجدت نفسها أمام تحد فرضته التضاريس وتقسيمها ما بين ما يخضع لنفوذ تاونات، وما يخضع لنفوذ الحسيمة. الساكنة لا يهمها لأي نفوذ ترابي تنتمي، ما يهمها هو أن الجرافات التي أزاحت الثلوج صعوداً يمكنها أن تنعطف يساراً لفك العزلة عن باقي الدواوير التابعة للحسيمة.
عند النقطة حيث توقفت سيارة "المرسديس 207" محملة بالسلع، يقع مسلك جبلي (طريق) على اليسار صعوداً نحو الجبل، يربط الدواوير التابعة للحسيمة بجارتها التابعة لتاونات.
الثلوج حد الرُّكب، سكانها يتابعون أشغال فك العزلة عن جيرانهم، ولا يملكون غير الانتظار، وأن تساعد الظروف المناخية وتسهل مهمة السلطات المحلية لتاونات، ثم انتظار أن يرن الهاتف ليأذن بسلك المنعرج بفضل الآليات المتوفرة هناك، عوض انتظار القادمة من جهة الحسيمة.
وصول جرافة واحدة من مركز جماعة "فناسة باب الحيط" التابعة لتاونات يتطلب قرابة الـ24 ساعة، وصقيع الليل يضاعف صعوبة المهمة، بسبب وعورة المنعرجات التي تتحول إلى بوابات مفتوحة نحو سفح الجبل.
مع دنو الشمس من مغربها يوم الجمعة 15 يناير، استطاعت السلطات المحلية تأمين جرافة كبيرة يعول على سلاسلها لتسريع عملية جرف الثلوج واختراق المسالك الوعرة. خلال العودة، صادف "تيلكيل عربي" وصولها إلى نقطة سوف تقضي فيها ليلة الجمعة، على أن تواصل شق المسالك صباح يوم السبت 16 يناير، ويتوقع إن استمرت الأجواء صحوة أن تصل إلى حيث توقفت أشغال الكسح، منتصف يوم الأحد 17 يناير.
إلى ذلك الحين، يجلس من يقطنون الدواوير التابعة للحسيمة عند "النقطة الحدودية" مع جيرانهم من أبناء دواوير تاونات في انتظار دورهم.
خلال أشغال كسح الثلوج، سأل "تيلكيل عربي" رئيس جماعة "فناسة باب الحيط" إدريس ضيمر، عن أسباب تأخر التدخل لفك العزلة عن دواوير المنطقة، فأجاب بالقول: "نحن جماعة صغيرة بموارد ضعيفة، والجرافات التي نستعملها اليوم تم اقتناؤها بفضل مجموعة التعاون بين جماعات المنطقة. التساقطات الثلجية هذه السنة كانت استثنائية، لذلك تضررت أكثر من منطقة، ما أخر عمليات التدخل".
هل سيتكرر نفس الوضع إذا ما شهدت المنطقة تساقطات ثلجية كثيفة مرة أخرى؟ يجيب المسؤول الجماعي: "بعد هذه التجربة التي عانت منها ساكنة الدواوير، أصبح من المفروض أن تتوفر كل جماعة على آلياتها الخاصة، فلا يمكن أن نقفز على ضعف الموارد، لكن سنبحث عن بدائل بالتعاون مع السلطات المحلية، لتمويل شراء الآليات".
حطب التدفئة.. عملة نادرة
على طول المسالك نحو الدواوير التي قصدها "تيلكيل عربي"، وحدهن النساء يسخرن ظهورهن لحمل ما تيسر من حطب التدفئة أو الحشائش لإيقاد نار تدفئ الأبدان، وتدفع عنها لسعات البرد القارس.
درجات الحرارة هنا تحت الصفر ليلا، وجمع بضع قطع الخشب مهمة صعبة، تتكلف بها النساء، ولا يخجل الرجال من القول في شهادتهم: "النسا عندنا يعانين مع بو غابة (حراس الغابة التابعين للمياه والغابات). إذا جمعن الحطب وجرى ضبطهن يصادر كل ما جمعنه".
أحمد، رفقة نجله، صادفه "تيلكيل عربي" عند نزوله من قمم الجبال مشيا على الأقدام، وعند سؤاله عن الوجهة التي نقصدها وما إن كنا في طريقنا فعلا، أجاب بالتأكيد على أنه المسلك الصحيح، وأضاف: "الله يوصلكم على خير، الطريق لايزال طويلا والمنعرجات صعبة، في عمري 50 سنة، ولم يسبق أن عشت هذا الكم من التساقطات الثلجية".
شهادة تفسر لماذا تغيب هنا بشكل تام تجارة حطب التدفئة المرخص لها، إذ أن ساكنة المنطقة مضطرة اليوم لاستغلال موارد الغابات المحيطة بها، لتأمين الدفء داخل منازل تحيط بها الثلوج من كل جانب.
طريق بعملة أكياس الدقيق
الطريق نحو الدواوير التي عانت من العزلة لأيام، غير مصنفة، وحسب الذاكرة الجماعية لأبناء المنطقة تم شقها مقابل الدقيق أوساط ثمانينيات القرن الماضي.
ممسكاً بآلة حادة مثبتة أسفل عصا كبيرة يضرب بها الأرض، مخترقة أكوام الثلوج الصامدة على جنبات المسالك، يصيح أحد كبار السن في المنطقة بلازمة كررها صعوداً ونزولا أكثر من مرة، تدعمها شهادات من يمشون خلفه وأمامه.
يصيح: "هذ الطريق بنينها حنا... حفرناها بيدينا... دارو معنا خنشة تاع الدقيق للأسبوع... أنا خدمت معاهم وكلاوني في جوج سيمانات... ما خديتش خنشة تاع فارينة خمسين كيلو لي كانوا مقاولينا بيها...".
شق الطريق نحو دواوير المنطقة، وحسب شهادات قاطنيها، شيدت بعملة الدقيق، واستمرت الساكنة في إصلاحها كلما تضررت بسبب التساقطات المطرية أو انجراف التربة.
خلال تكرار مشهد وصف الرجل لكيفية تشييد الطريق، أقدام تسارع الخطى نزولا نحو دوار "أموايت"، تحمل فوق أكتافها قنينات غاز كبيرة، لا يهم أصحابها بُعد المسافة الآن لتأمين حاجياتهم من الغاز، بل همهم هو وصولها إليهم بعد أيام من الانقطاع.
المرضى والحوامل.. تدابير استباقية
حسب شهادات ساكنة من المنطقة من الدواوير المنتشرة بقمم وسفوح الجبال، سواء التابعة لتاونات أو الحسيمة، هناك عدد من المرضى والنساء الحوامل، مع تخوف من أن تتدهور الحالة الصحية لأحدهم، أو أن يباغت المخاض إحداهن.
قائد المنطقة التي تشمل الدواوير المحسوبة على تاونات، يؤكد في حديثه لـ"تيلكيل عربي"، أنه "تم إحصاء جميع النساء الحوامل قبل التساقطات الثلجية الأخيرة، وليست هناك أي واحدة منهن في شهرها".
ويضيف: "منذ مدة نعتمد عملية إحصاء الحوامل، ومع حلول الشهر السابع من الحمل نتصل بالزوج أو العائلة من أجل خضوعها للفحص، وإن اقترب موعد وضع إحداهن تنقل إلى المركز".
ورغم هذه التدابير الاحترازية والاستباقية، واقع الحال يفيد بضعف كبير في البنى التحتية، ومنها الموجهة للرعاية الصحية، فضلاً عن قلة الموارد البشرية. وأمام الثلوج التي تكسو المنطقة، أي حالة مستعجلة لا ينفع معها غير تدخل مروحية لتجنب أي طارئ قد يخطف الروح من جسد أحدهم أو إحداهن.
"تيلكيل عربي" ومنذ العودة من قمم نواحي تاونات والحسيمة، تواصلت متابعة الموقع لسير أشغال فك العزلة عن الدواوير التي همتها التغطية بعين المكان، ونقل المستشار بجماعة "فناسة باب الحيط" نور الدين فاضيل، أن "الدواوير التابعة للحسيمة خصوصا بني عياش العليا، مازالت في عزلة".
أما بالنسبة لدوار "اموايلت"، يضيف المستشار الجماعي في حديث معه اليوم الخميس 21 يناير، فالعملية ازاحة الثلوج تمت، في إنتظار نهاية الأشغال بدوار (اساين) الذي وصلت إليه الجرافة ذات السلاسل الحديدية اليوم".
هنا لا جديد يذكر، ولا قديم يعاد، حول ما يشغل العالم، هؤلاء غير منشغلين بفيروس "كورونا" وما يفرضه من إجراءات الحجر الصحي، أو التدابير الاحترازية، فحظر التجوال يبدأ عندهم مبكرا على طول العام، كيفما كانت الظروف، ولا يملكون ما يجب إقفاله أو فتحه انضباطا لتوجيهات الحكومة. لا يسألون عن موعد وصول اللقاح، بل يسألون عن موعد انتهاء فتح المسالك نحو دواويرهم ووصول ما يؤمّن قوت يومهم.