"عندما اخترنا سبيل الكفاح المسلح ضد الاستعمار، لم نكن نسعى إلى امتلاك السلطة وتسيير الشأن العام، بل إننا لم نكن نريد أن تسلط علينا الأضواء، لقناعتنا بأن ما نقوم به يدخل في إطار الواجب الوطني، لكن ما إن حصلنا على الاستقلال حتى فوجئنا بالخونة يتسلمون مقاليد الأمور، ونتحول نحن إلى متهمين، وبخلاصة وجدنا مشروعنا يؤول إلى الفشل, لقد خسرنا وانتصر الخونة" .
هكذا لخص المرحوم سعيد بونعيلات تجربة جيل جيش التحرير في مقاومة الاستعمار، والنضال من أجل مغرب حر يسع كل أبنائه، ومقاومة جبروت السلطة بعد نيل الاستقلال، وما تلا ذلك من اعتقالات وأحكام بالإعدام في حق من كانوا يرفعون السلاح في وجه المستعمر من أجل الاستقلال وعودة الملك الشرعي محمد الخامس من منفاه.
محمد أجار المعروف باسم "اسعيد بونعيلات"، أحد أبرز قادة مقاومة الاحتلال الفرنسي، الذي شيع إلى مثواه الأخير أمس الأربعاء عن عمر يناهز 98، ولد بأمانوز ناحية تافراوت وتحديدا بدوار ازردي.
ما إن حصلنا على الاستقلال حتى فوجئنا بالخونة يتسلمون مقاليد الأمور، ونتحول نحن إلى متهمين.
التحق "اسعيد بونعيلات"، وهو الاسم الحركي الذي أطلق عليه لتمويه سلطات الاحتلال في سن العاشرة بوالده في مدينة الدار البيضاء، حيث ظل يساعده في دكان لبيع "الشفنج"، قبل أن يتمكن من امتلاك شاحنة لنقل الخضر أصبحت هي مورد رزقه.
لم يقف طموح الشاب "أجار" عند امتلاك شاحنة لنقل الخضر من أجل تأمين رزقه، وقوت يومه، فسرعان ما اكتشف أن القدر الذي جاء به إلى الدار البيضاء كان يعده لمهمة أكبر في ظل الأوضاع السياسية التي كان يعيشها المغرب تحت نير الاستعمار الفرنسي، وهي تصدر قيادة حركة المقاومة المسلحة من أجل تحرير البلد.
في بداية الأربعينات سيتم استقطاب سعيد بونعيلات من طرف بناصر حركات، والفقيه برادة إلى صفوف حزب الاستقلال، وسيشارك في عدد من اجتماعاته في إحدى ورشات النجارة بدرب بنجدية، كما قاد أول مظاهرة في الدار البيضاء تأييدا لما جاء في وثيقة الاستقلال.
عاش "اسعيد بونعيلات" عددا من المحطات التي كان لها الأثر الكبير على نفسيته، وجعلته يعتنق العمل المسلح ضد المستعمر من قبيل مجزرة "ساليغان" سنة 1947، وقمع الإضراب التضامني مع الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد سنة 1952، فضلا عن تعنت السلطات الفرنسية، ورفضها التجاوب مع مطالب الحركة الوطنية الداعية إلى استقلال المغرب.
سنة 1952 ستشكل مرحلة فارقة في مسار "اسعيد بونعيلات"، حيث سيلتحق رسميا بطلب من القيادي الاستقلالي عبد السلام بناني بمجموعة منظمة في إطار المقاومة المسلحة، بمدينة الدار البيضاء. ومنذ ذلك الحين أصبح دوره حاسما في عدد من العمليات الفدائية التي نفذت ضد المستعمر من قبيل تفجير قطار الدار البيضاء الجزائر سنة في 3 من نونبر 1953 ، وتفجير السوق المركزي في 2 دجنبر من نفس السنة، كما سيقوم بأدوار طلائعية على مستوى تأطير المقاومين وتوفير السلاح لهم بعد بداية المفاوضات بين فرنسا والمغرب من أجل حصوله على الاستقلال.
كان لبونعيلات رأي آخر، كان بونعيلات يرى أن معركة التحرير لازالت في بدايتها، وهو ما يتطلب توجيه مزيد من الضربات للفرنسيين من أجل إجبارهم على مغادرة المغرب وفقا لشروط المقاومة، وهو الموقف الذي سيكلفه الكثير بعد عودة الملك محمد الخامس من منفاه، خاصة موقفه الرافض لحل جيش التحرير، قبل تحرير الصحراء.
يقول بونعيلات في حوار مع مجلة "زمان" : "توجهت إلى القبلة وقلت للإخوان: أقسم بالله إنهم إما سيدخلوننا إلى السجن أو سيقتلوننا بعد الاستقلال. وكان حدسي صائبا؛ فهذا ما حصل تفاوض الفرنسيون مع محمد الخامس واشترطوا عليه ألا يتم إبعاد أولئك "الخونة" الذين كانوا يتعاملون معهم. أما نحن فأصبحنا مستهدفين من خلال حل جيش التحرير".
بعد فترة وجيزة على استقلال المغرب، وعودة محمد الخامس، سيصدر أول حكم بالإعدام في حق "اسعيد بونعيلات" بتهمة التآمر ضد ولي العهد الحسن الثاني، إلا أن هروبه إلى الجزائر، وصداقته برئيسها أحمد بنبلة حالت دون اعتقاله، قبل أن يصدر حكم ثاني بإعدامه سنة 1965 من طرف المحكمة العسكرية بمكناس فيما عرف بقضية شيخ العرب.
ظل "اسعيد بونعيلات" مقيما في الجزائر بفضل العلاقة الوطيدة التي كانت تجمعه ببنبلة، إلا أن الانقلاب الذي أطاح به غير الأوضاع بالبلاد، وهو ما جعله يغادرها إلى إسبانيا.
توجهت إلى القبلة وقلت للإخوان: أقسم بالله إنهم إما سيدخلوننا إلى السجن أو سيقتلوننا بعد الاستقلال
يتذكر بونعيلات في حواره مع قناة الجزيرة أنه تعرف على كل القادة الجزائريين، وربط صداقته ببن بلة في ما بعد بشكل متين، ويقول عنه: "كان يعطيني سيارة الرئاسة الجزائرية وكان قد أصبح صديقي جدا آنذاك وكنا نلتقي سويا خلال الحرب في منطقة الناظور.. (بن بلة) مغربي وأصله من سيدي رحال".
في إسبانيا، سيتم اعتقاله من طرف مخابرات مدريد، وينقل إلى المغرب، حيث تعرض لتعذيب شديد، انتهى بصدور حكم ثالث بإعدامه، قبل أن يتم وضعه في سجن القنيطرة، الذي بقي فيه إلى حين صدور عفو في حقه بتدخل من المقاوم حسن صفي الدين، الذي خاطب الحسن الثاني بالقول: "لن أرتدي السلهام مادام اسعيد بونعيلات في السجن"، ليغادر بذلك السجن إلى فضاء حرية ظل يعتبرها منقوصة بسبب الأخطاء التي حدثت أثناء مفاوضات الاستقلال، وعدم تحقيق ما كان يصبو إليه بمعية رفاقه في مغرب ما بعد الاستعمار.
عن فترة تعذيبه، يقول بونعيلات في حوار مع قناة الجزيرة " "قلت لهم اقتلوني بدلا من أن تعذبوني، سألتهم أن يطلعوني على المعلومات التي قدمها إليهم الأسبان ثم فليفعلوا بي ما شاؤوا لكنهم قالوا سنعذبك شر تعذيب".
بونعيلات يضيف في الحوار ذاته أنه شتم الجنرال أوفقير أمامهم، فتركوه طيلة الليل معلقا، "ثم راحوا يغطسون رأسي في الماء الملوث حتى شعرت بأن روحي ستخرج من جسدي وراحوا يطرحون علي الأسئلة حول انقلاب مزعوم وحول أسحلة مفترضة وكنت أقول لهم أن لا سلاح عندي ولا عندي أية رغبة بالانقلاب".
رغم تحسن علاقته بالقصر، ونيله لعدد من التوشيحات، فضلا عن تكريمه من طرف المندوبية السامية لقدماء المحاربين وأعضاء جيش التحرير، و عين عضوا بالمجلس الوطني لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير وانتخب ضمن أعضاء مكتبه ولجنته الدائمة، قبل أن يتولى رئاسة المجلس، وهو المنصب الذي ظل يشغله إلى أن انتقل إلى جوار ربه
كان الراحل محط احترام وتقدير كبير من رفاقه في الكفاح من قبيل بنسعيد ايت ايدر، والحسين برادة، ومهندس تجربة حكومة التناوب عبد الرحمان اليوسفي الذي ظل مواظبا على زيارته بمستشفى الشيخ خليفة بالدار البيضاء إلى حين وفاته، كما شارك في جنازته ممثلون عن مختلف الطيف السياسي والفكري المغربي، ليظل بذلك اسمه شاهدا على مرحلة من تاريخ مقاومة المغرب في سبيل الحرية والاستقلال