يدعو لفرض ضرائب مرتفعة على الإيردات العليا والممتلكات والتدبير المشترك للشركات والعدالة التربوية.. تلك من بين الأفكار التي يطرحها الاقتصادي الفرنسي الشهير توما بيكوتي THOMAS PIKETTY، في كتابه الجديد " الرأس المال والإيديولوجيا"، الذي احتفى به النقاد والقراء، بعد كتابه الصادر في 2013.
أخرج الاقتصاد من تعقيدات النظريات والأرقام المستعصية على الإحاطة بها للسواد الأعظم من الناس، فقد تمكن بطريقة حكيه السلسة من توضيح الكثير من المفاهيم المعقدة، مستندا على التاريخ، هذا ما تجلى في كتابه السابق "الرأسمال في القرن الحادي والعشرين" الذي بيع منه 2,5 مليون نسخة، قبل أن يقترف كتابا جديدة يفترض فيه أن الفوارق ليست قدرا لا راد له، داعيا إلى تجاوز الرأسمالية في شكلها الحالي.
كتاب شغل الناس
ساهم الاقتصادي، البالغ من العمر 48 عاما في 2007، في إحداث مدرسة الاقصاد بباريس، التي تضم 140 أستاذا باحثا، كما يعمل على تنيشط شبكة تضم حوالي مائة باحث في 80 دولة، من أجل جمع البيانات حول الفوارق، حيث أتاح ذلك إحداث قاعدة بيانات، هي الأكثر في العالم حول وضعية الممتلكات والمداخيل.
بعد النجاح الذي صادفه كتابه السابق والعديد من المحاضرات في العديد من البلدان عبر العالم، يعود بيكوتي، الأستاد بمدرسة الاقتصاد بباريس، كي يملأ الدنيا ويشغل الناس مرة أخرى، بكتابه الجديد المكون من 1223 صفحة، حيث يسعى إلى إبراز كيف تسعى الإيديولوجيات عبر التاريخ إلى تبرير الفوارق.
يسعى بيكوتي، مسلحا بقراءة دقيقة للتاريخ، إلى التدليل على أن الفوارق الاجتماعية ليست شيئا طبيعيا وعاديا، وليست قدرا لا راد له، بل يتم تأبيدها في القرن الحادي والعشرين عبر روايات (Récits) تعلي من شأن نزعة التملك والبعد المقاولاتي وفكرة الاستحقاق.
يدعو إلى عدم التوقف عند الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أو "بريكسيت"، وعدم الاكتفاء بإدانة النزعة الشعبوية، التي تهدد الديمقراطية الاجتماعية، مؤكدا على ضرورة التركيز على بناء مجتمع عادل عبر الخروج من التقديس شبه الديني للملكية، مشددا على أن "الفوارق ليست اقتصادية أو تكنولوجية، بل إديولوجية ووسياسة"، محاولا نقض التصور الحالي الذي يقوم على اعتبار أن الفوارق في الماضي كانت استبدادية وتعسفية، وبأن العالم اليوم أكثر ديمقراطية، وبالتالي أكثر عدلا.
ينتقد النخب التي تزعم أن الفوارق الحالية طبيعية، ولا يمكن تغييرها، إلا عبر خلق وضعيات كارثية، معتبرة أن الفوارق في الوقت الحالي تتضمن نوعا من الإنصاف، لأنه، نظريا، يمكن للجميع الولوج إلى السوق والملكية، غير أنه يتصور أن الوضع هش في سياق متسم بتأجيج الفوارق الاجتماعية والاقتصادية في جميع أنحاء العالم منذ تسعينيات وثمانينات القرن الماضي.
يتصور أنه لايجب أن يظل الرأسمال بين الأيدي نفسها، معتبرا أنه يفترض جعله مؤقتا، بمعنى أنه لا يجب أن يملكه أشخاص إلى الأبد، فهو يقترح بأن يمنح الشخص جزء مما يملك للمجتمع، عبر سن ضريبة تصاعدية على الملكية، تفضي إلى تقليص من عدد المليارديرات وتوسيع مجال الملكية الصغيرة والنزعة المقاولاتية..
ويؤكد على أن هناك حاجة للحديث عن حلول تتيح تجاوز الرأسمالية المفرطة الحالية، على ضوء التجارب التاريخية، معتبرا أن جميع الأنظمة السياسية التي تعرف فوارق تنتهي بأن تتحول، معتبرا أن ذلك يحدث في لحظات أزمة بطريقة أكثر عنفا، متصورا أن يحدث ذلك التغيير بطريقة هادئة عبر النقاش الديمقراطي والانتخابات.
ويتصور أنه في حال جرى رفض الحديث حول تجاوز الرأسمال عبر اقتصاد أكثر عدالة، وغير ممركز، ويفضي إلى تداول السلطة، يمكن أن يغذي ذلك الخطابات المتمحورة حول العودة إلى الهوية الكراهية.
ويعتبر أنه الوقت حان من أجل وضع حصيلة اختيارات الثمانينيات والتسعينيات، حيث تتجلى حدود العولمة الأكثر تأجيجا للفوارق، والتي تغذي التحصن وراء الهوية الأكثر خطورة.
ويتصور أن الثورة المحافظة لرونالد ريغان ومارغاريت تاتشر، وانهيار جدار الشيوعية السوفياتي، أعطت دفعة جديدة للضبط الذاتي للأسواق، وتقديس الملكية، معتبرا أن ذلك بدأ يصل إلى نهايته.
لايكتفي طوماس بيكوتي بتشخيص الفوارق وتعيين جذورها، بل يسعى إلى رسم مداخل من أجل الفصل مع تركز الرأسمال، حيث يؤكد على نوع من الملكية الاجتماعية والتدبير المشترك للمقاولات، عبر تمكين الأجراء من 50 في المائة من حق التصويت في المجالس الإدارية، مع تحديد سقف حقوق تصويت المساهمين الكبار في حدود 10 في المائة مثلا.
ويدعو إلى نوع من الملكية المؤقتة، عبر إحداث ضريبة سنويا تصاعدية تصيب الملكية، حيث يمكن أن تتراوح بين 0,1 في المائة للممتلكات الصغيرة و90 في المائة للمملتكات الكبيرة التي تتجاوز ملياري يورو.
ويقوده مفهوم الملكية المؤقتة إلى اقتراح توجيه الأموال المقتطعة، من أجل تخصيص 120 ألف يورو لكل شخص عندما يبلغ سن 25 عاما، وهو ما يعتبره نوعا من تجسيد هدف"الميراث للجميع" (Héritage pour tous)، الذي يتيح إعادة تنظيم إعادة توزيع الرأسمال.
تجاوز الملكية الخاصة
تساءل الكثيرون حول الجديد الذي سيأتي به كتابه الجديد بعد الكتاب الذي حوله إلى نجم رأي مطلوب من قبل الكثرين؟ يجب بأنه "بعد صدور كتاب "الرأسمال في القرن الحادي والعشرين، سافرت كثيرا بآسيا وأمريكا الجنوبية وإفريقيا، قابلت قراء وطلبة وباحثين وصحفيين، الذين ساعدوني عبر الضغط على الإدارات من أجل الحصول على معطيات خاصة بالبرازيل والهند"، مضيفا "تعلمت الكثير من الأسفار إلى مناطق أخرى من العالم، غابت عن كتاب الرأسمال في القرن الحادي والعشرين، الذي كان متمحورا حول الغرب. أردت تجاوز هذه النقائص عبر تطوير إشكالية أكثر عالمية وعبر جعل مسألة الإيديولوجيات في قلب التفكير".
سئل عندما استضيف من قبل "فرانس أنتير"، حول ما إذا كان يسعى إلى مصادرة ممتلكات الأغنياء، فأجاب بأنه يدعو إلى تجاوز الملكية الخاصة إلى الملكية الاجتماعية والمؤقتة، وهو ما يبرر اللجوء إلى الضريبة التصاعدية، التي تفضي إلى تقليص عدد المليارديرات في العالم.
قد يرى منتقدو ما يصدر عنه نوعا من النزوع الشعبوي، غير أن ما يحسب له هو أنه بسط القضايا الاقتصادية الأكثر تعقيدا، وخاض في إشكالية الفوارق بعيدا عن المفاهيم الاقتصادية الباردة.
غير أن المهم هو صدور كتابه الجديد يوم الخميس 12 شتنبر، الذي شكل حدثا ثقافيا بامتياز في فرنسا وخارجها. إنه ينشط النقاش العمومي، وهو نقاش قد يهم المغرب الباحث عن نموذج تنموي يقلص الفوارق.