منذ ما يقرب شهرين، يشكوا سكان حي الألفة، تحديداً إقامة الفردوس بمدينة الدار البيضاء، من تدفق مياه سوداء تصب في بحيرة كانت في السابق ملجأ لعدد من الطيور المهاجرة وتوفر منظرا طبيعيا استثنائيا وسط العاصمة الاقتصادية. مياه عادمة وملوثة، تسببت في انبعاث رائحة كريهة تزكم الأنوف ويستحيل معها قضاء مساء اليوم دون الاحساس بالألم على مستوى العينين، بل قتلت الحياة البرية، حيث عاين "تيل كيل عربي" نفوق عدد من السلاحف والطيور، هذه الأخيرة يظهر على ريشها لون أخضر فاقع، حسب فيديوهات اطلع عليها الموقع.
سكان المنطقة اشتكوا ونظموا وقفات احتجاجية أكثر من مرة، طيلة الشهرين الماضيين، منهم من يحمل المسؤولية لشركة "ليديك" التي تصرف مياه الأمطار في البحيرة، ويدفعون بفرضية أنها أصبحت تصرف مياها عادمة فيها. وآخرون يشددون على أن مستشفى الشيخ خليفة هو المسؤول، لأنه يتوفر على قناة للصرف، تجلب بدورها مياها "عادمة" إلى البحيرة. فيما يرى المسؤولون في كل من "ليديك" والشيخ خليفة، أن "لا مسؤولية لهم في الكارثة البيئية".
مسؤولو "ليدك" ومستشفى الشيخ خليفة، قاموا بأكثر من زيارة تفقدية للمكان، وأخذوا يوم الأربعاء الماضي (31 يناير 2017)، تاريخ آخر زيارة، حضرها مسؤول عن عمالة الحي الحسني، عينات من مياه البحيرة ومياه الصرف القادمة من المستشفى، أدخلت إلى مختبر الشركة الفرنسية، التي وعد مديرها الجهوي محمد جيفر في تصريح لـ"تيل كيل عربي"، أن نتائج التحليلات سوف يتم الإعلان عنها مهما كانت بـ"شفافية ووضوح لتحديد المسؤوليات".
حكاية الرائحة الكريهة
رائحة الصرف الصحي النافذة أول ما يستقبلك حين تلج إقامة الفردوس بحي الألفة. وعلى ضفاف البحرية، تراكمت الأزبال وزجاجات البلاستيكية وغيرها. الآلاف من الحشرات ترفرف على سطح ممتد لتسعة هكتارات، في أكبر حوض مائي حضري بالمغرب. مياه هذه البحيرة، تجمعت منذ حفرها عام 1960 على موقع مقلع الأحجار القديم، لتصبح مصدراً لا ينضب للأساطير المحلية، وتتحول خلال فصل الصيف إلى مقبرة لأطفال قضوا غرقاً فيها، ثم غدت قبل شهرين بركة أسنة دفعت عدد من السكان للتفكير في هجرة منازلهم.
مساء يوم الـ8 من دجنبر الماضي، وحين عودته من العمل، استشعر مهندس المعلوميات نوفل بن موسى، الذي تطل شرفة منزله على بحيرة الفردوس رائحة كريهة لم يشم مثلها طلية عامين ونصف من مقامه هنا. يقول نوفل لـ"تيل كيل عربي" من سطح منزله، "مساء ذلك اليوم فاحت رائحة لم أشمها يوماً، وتساءلت عن مصدرها، لتزداد قوتها مع مرور ساعات الليل، لتصبح أكثر نفاذاً مع حلول الساعة الحادية عشر وحتى الساعة السادسة صباحاً".
ما لاحظه نوفل، وثقه صباح اليوم التالي، 9 دجنبر، يومها أطل من شرفة منزله، وسجل شريط فيديو يتحدث فيه عن الرائحة، وأشار خلاله إلى ظاهرة غياب الطيور عن البحيرة، والتي كانت أصوات زقزقتها تملأ المكان مع أولى اطلالة لأشعة شمس الصباح. ومنذ ذلك التاريخ، حسب نوفل، أصبحت الرائحة عنوناً لمعاناة يعيشها سكان المنطقة يومياً، تتضاعف حين يحل المساء.
"الأطفال والشباب الذين يحجون إلى ملعب الجمعية، للعب كرة القدم، أصبحوا يضعون أقنعة على وجوههم تمنع عنهم استنشاق الرائحة الكريهة هنا"، يقول مصطفى، رئيس الجمعية الرياضية لبحيرة الفردوس، التي تتخذ من ضفاف الأخيرة مقراً لها. ويضيف المتحدث ذاته، حين التقاه "تيل كيل عربي"، إنهم "يعيشون قرب كارثة بيئية"، وقبل أن يكمل، أخرج هاتفه، وأظهر أشرطة فيديو قال إنه وثقها بنفسه، وأوضح أنه "التقط تدفق مياه سوداء عادمة من قناة صرف مياه الأمطار رغم أن الأجواء كانت صحوة لعدة أيام"، وتساءل "يقولون لنا إن هذه القناة تجلب إلى البحيرة مياه الأمطار فقط، هل تساقطت الأمطار هذه الأيام؟ لا. إذن ما هو مصدر المياه التي ترون في الفيديو؟"
مياه الأمطار أم مياه عادمة؟
حسب المسؤولين في شركة "ليدك"، الذين رافقهم "تيل كيل عربي" في زيارة ميدانية لورش الرفع من القدرة الاستيعابية لقنوات الصرف الصحي بالمنطقة، يوم الخميس 1 فبراير الجاري، القناة التي تصرف مياه قنواتهم في بحيرة الفردوس، تجلب مياه الأمطار فقط.
التقنيين الذي رافقوا الموقع خلال الزيارة، يقرون بإمكانية حدوث اختلاط بين المياه العادمة ومياه الأمطار خلال فترة التساقطات المطرية القوية، والتي تجد طريقها نحو بحيرة الفردوس، لكنهم يشددون على أن هذا الأمر "نادراً ما يحدث، وكمية المياه العادمة التي تتسرب لا يمكن أن تتسبب في الرائحة الكريهة التي تفوح من البحيرة منذ شهرين".
وترى شركة "ليدك" على لسان مديرها الجهوي محمد جيفر، أن الجزء المرتبط بمسؤوليتها تجاه ما يصرف من مياه في بحيرة الألفة دخل طور المعالجة، وذلك بإنجاز مشروع لتقوية شبكات الصرف الصحي، قيمته الإجمالية 5 ملايين درهم.
وعن تفاصيل المشروع الذي سوف يكتمل بحلول نهاية شهر فبراير الجاري، يقول المشرفون عليه بعين المكان: "رصدت شركة (ليديك) ضُعف قنوات الصرف الصحي، وصرف مياه الأمطار، بسبب التوسع العمراني الذي شهدته منطقة الألفة مؤخراً، كما أنها لاحظت اختلاط مياه الأمطار في القنوات بمياه الصرف الصحي، والمسؤولية هنا تعود للسكان الذي يشيدون مراحيض فوق سطوح المنازل، ويربطون قنواتها بأنابيب صرف مياه الأمطار".
"هذا المشكل سوف يحل بنهاية المشروع الذي ننجزه اليوم"، حسب المدير الجهوي لشركة "ليديك". ويضيف مسؤولوها التقنيون، أنه سيتم استبدال قنوات الصرف التي تستوعب اليوم 500 متر مكعب، بأخرى طاقتها الاستيعابية 600 متر مكعب، وهي القدرة القصوى المعتمدة، مع وضع سد من الخشب عند النقطة التي تصل قنوات "ليديك" بقناة صرف مياه الأمطار في بحيرة الفردوس، والذي سوف يتم فتحه عند تسجيل تساقطات مطرية قوية فقط. وتبحث الشركة عبر هذا المشروع، مواجهة الكثافة السكانية التي أصحبت تتميز بها منطقة الألفة.
"مياه" مستشفى الشيخ خليفة !
في اتصال هاتفي بتقني في "ليدك" عمر أيت سو، قال الأخير إنه حضر الزيارة التفقدية التي قامت بها الشركة رفقة ممثلين من مستشفى الشيخ خليفة، وممثل من عمالة الحي الحسني، وكشف أيت سو، أنهم "قاموا بزيارة لعين المكان. وفعلا رصدت صرف مياه بلون غير عادي مصدرها مستشفى الشيخ خليفة، وأخبرتهم بذلك، نعم لون المياه غير طبيعية، رغم أنهم أخبرونا بأنها مياه الأمطار فقط، وقمنا بأخذ عينة منها لإجراء التحاليل عليها، ونحن ننتظر نتائجها".
"تيل كيل عربي" شدد على إعادة طرح السؤال على التقني، حول لون المياه، وأعاد بدوره التأكيد على أن "لون المياه القادمة من المستشفى غير طبيعي، ولكن التحاليل وحدها من سوف تحسم في مكوناتها".
في المقابل، قال عبدالإله بودوش، المدير الفني لمستشفى الشيخ خليفة، في تصريح لـ"تيل كيل"، إن "المياه التي تخرج من عندنا نظيفة، ولم تكن هي مصدر تلويث بحيرة الفرودس، لدينا قناة تصرف مياه الأمطار فقط".
وأوضح المتحدث ذاته، أن صرف المياه في المستشفى قائم على نظامين منفصلين للصرف الصحي: أحدهما لمياه الأمطار، وآخر للمجاري. وينقسم هذا الأخير إلى دائرتين: واحدة لتصريف السوائل الروتينية، والآخر للطب النووي، الذي تخزن في النفايات لمدة شهرين في محطة إزالة التلوث ثم تصرف، بموافقة وكالة مستقلة، تقوم بتحليل المياه، قبل إعطاء الضوء الأخضر، لتصريفها في الأنابيب الرئيسية.
ما هو مصدر تلويث البحيرة؟
أمام دفوعات "ليدك"، وتبريرات المدير الفني لمستشفى الشيخ خليفة، تطرح علامة استفهام حول مصدر تلويث بحيرة الفردوس، الذي يبقى واقعا لا يرتفع أمام ما يعيشه السكان.
المدير الجهوي لشركة "ليديك" محمد جيفر، ذهب أبعد من كل هذا، وطرح في حديثه لـ"تيل كيل عربي" فرضية البحث عن مصدر المياه الجوفية للبحيرة، وقال بهذا الصدد: "يجب أن نبحث عن مصدر مياهها، لأن التلوث الذي وقع يمكن أن يكون من المنبع، على المسؤولين طرح هذه الفرضية، ومنح مكتب دراسات مهمة البحث المعمق في مصدر مياه البحيرة".
للسكان نصيب من المسؤولية
أمام حماس شاب مثل نوفل بن موسي، والذي أخذ على عاتقه الترافع لكشف المسؤول أو المسؤولين عن تلوث بحيرة الفردوس، هناك مسؤولية يتحملها سكان المنطقة، والذين يساهمون بقسطهم في ما وصلت إليه حالة المنطقة الرطبة الوحيدة والفريدة في مدينة مثل الدار البيضاء.
نوفل، راسل عشرات المسؤولين المحليين والوطنيين والدوليين للكشف عن مصدر ما يسميه "الكارثة البيئية"، والتي تسببت في اختفاء الطيور ونفوق السلاحف. الشاب المهندس، في اتصال دائم مع شركة "ليديك" ومختلف المسؤولين، وتحول هذا المواطن إلى ناشط بيئي "على الرغم من نفسه"، حسب قوله، ويأمل أن يتم التعرف على المذنب بسرعة، لوقف معاناة سكان المنطقة.
وإن كان نوفل يقود حملة بلا هوادة لمعرفة من يلوث بحيرة الفردوس، عدد من السكان حولوا هذا الفضاء الطبيعي إلى مكب للنفايات، ويمكن أن يلاحظ الزائر للموقع أن لجيران البحيرة نصيب في تلوثيها، ولأطفالهم دور في "اختناق" مياهها، هؤلاء حسب صور اطلع عليها "تيل كيل عربي"، يتفننون في جعل ألواح الطاقة الشمسية التي تشغل محركات تهوية البحيرة، مثل هدف للتصويب، حيث يقومون برميها بالحجارة، ما يضطر شركة "ليدك" لتغييرها كل مرة، وتكلف ألواحها الشمسية 50 ألف درهما.
كما أن للمسؤولين الجماعيين الغائبين تماماً عن كل هذا، والذين حاول الموقع التواصل معهم دون رد، مسؤولية ترك هذا الفضاء بلا سياج ولا تأهيل.
أمام كل هذا، تحولت بحيرة الفردوس من مكان يمكن أن يجعل منه المسؤولون منتجعاً طبيعياً استثنائيا وسط مدينة لا يجد فيها السكان متنفساً، إلى بكرة أسنة هجرتها الطيور ويفكر جيرنها من البشر في ترك ضفافها.
بمشاركة تيبو بلوي Telquel.ma