- يرى عبد اللطيف بروحو، النائب البرلماني والخبير المالي، أن تخوفات الرأي العام من قرار "تعويم" الدرهم" تظل مشروعة، بالنظر لتأثر الاقتصاد الوطني وارتهانه للعوامل الخارجية بشكل كبير، فضلا عن كون الميزان التجاري وميزان الأداءات يعانيان من عجز مزمن ومركب منذ سنة 2006".
واعتبر عضو لجنة المالية بمجلس النواب أنه "لا يمكن للقدرة المالية للعملة الوطنية أن تتعزز، إلا إذا تم تحقيق حد أدنى من التوازن على مستوى المبادلات الخارجية، وإلا فإن سعر صرف الدرهم سيتدهور بشكل متسلسل إذا تفاقم العجز في المبادلات المالية الدولية للمغرب".
وأكد بروحو في حوار مع "تيل كيل عربي"، أنه "كلما ارتفعت قيمة الدرهم إلا واستفادت القطاعات المستوردة (وليس المصدرة كما يتخيل للبعض)، فالمصدرون سيستفيدون من ارتفاع قيمة الدرهم مقارنة بالدولار أو الأورو لتخفيض تكلفة الاستيراد بالقيمة الداخلية، مما سيمكنهم من جني أرباح أكبر، كما سيجعل أسعار السلع المستوردة أرخص". وبالمقابل، إذا انخفضت قيمة الدرهم، فإن القطاعات المستوردة للمواد الأولية أو الاستهلاكية ستعاني بشكل كبير، وسيؤدي ذلك لتحويل التكلفة بتحميلها للمستهلك.
ماهي الأسباب الكامنة وراء قرار تعويم الدرهم؟
على إثر التطور الكبير للاقتصاد المغربي، وتضاعف حجم الناتج الداخلي الخام، والمرور نحو سياسة الانفتاح الاقتصادي والانخراط في دينامية استقطاب الاستثمارات الخارجية، بدت الحاجة ملحة لاستكمال الاستراتيجية الاقتصادية بسياسة نقدية منفتحة، وهي محطة كان سيصل إليها المغرب في جميع الأحوال، وتبقى فقط قدرة الدولة على استشراف التحولات العالمية والتأقلم معها واختيار الوقت والإجراء المناسبين.
وقد كان يفترض أن تبدأ هذه التدابير منذ سنوات طويلة، إلا أن الإشكالات المتعلقة بنظامنا المالي أدت إلى هذا التأخير، وذلك بالنظر لنزيف المالية العمومية الذي عرفه المغرب بين 2009 و2012، ولم يتم تحقيق حد أدنى من التوازن إلى بعد سنة 2015، ليبدأ التفكير في المرور نحو التحرير التدريجي لسعر الصرف.
اقرأ أيضاً: 4 أسئلة لفهم تعويم الدرهم وتأثيره على الأسعار وتحويلات المهاجرين
ظلت الحكومة ترفض المرور إلى نظام الصرف المرن رغم إلحاح بنك المغرب بدعوى إيجاد ضمانات تحول دون تأثيره على القدرة الشرائية للمواطنين، قبل أن تتخذ قرارا مفاجئا يوم الجمعة الماضي ببدء العمل به، في نظرك ما هي أسباب هذا التردد؟
طرح الإشكال منذ نهاية سنة 2016 حول تسرع بنك المغرب في إعلانه، دون انتظار أي قرار من الحكومة السابقة، مما جعله يقوم مقامها في ممارسة اختصاص يهم السياسة النقدية وليس فقط تدبير أدواتها. وهو ما أدخل المغرب طيلة شهور في متاهة، قبل توقيف الإجراء شهر يوليوز الماضي، ليتم اتخاذ القرار بشكل سليم من قبل الحكومة الحالية.
فالمملكة المغربية لا زالت في بداية مرحلة تحصين الاقتصاد الوطني، ولا زال الاحتياطي من العملة الصعبة يراوح مكانه ويخضع لتقلبات وضعية المالية العمومية والحاجة للاستدانة من الخارج، والارتهان لتقلبات السوق الدولية.
فعندما انخفض سعر البترول وانتعش ميزان الأداءات بفورة الاستثمارات الأجنبية المباشرة ودعم دول الخليج منذ سنتين، ارتفع الاحتياطي من العملة الصعبة بشكل مُلفت، وهو وضع ملائم لتعويم العملة الوطنية.
أما خلال السنوات الأخيرة، عندما بدأ مخزون الاحتياطي في التقلص، سواء بسبب ارتفاع أسعار البترول أو بسبب الإعلان المتسرع من قبل والي بنك المغرب، فقد بدأت المخاطر تعود بشكل تدريجي وتجعل التحرير الكامل للدرهم شبه مستحيل في الوقت الراهن، ويحتاج للتروي وإعادة تقييم المخاطر.
وهذه المخاطر، إضافة إلى المضاربة في العملة وتكوين احتياطيات غير قانونية من قبل بعض الأبناك، دفع الحكومة الحالية لتوقيف التدابير منتصف 2016، لترتيب الأمور بعدها وتتخذ القرار الحالي بشكل محكم تفاديا لإحداث اضطرابات ومضاربات بالسوق النقدية.
اقرأ أيضاً: أداء الدرهم المغربي اليوم في الأسواق بعد قرار "تعويمه"
ما هي الانعكاسات المحتملة لهذا القرار على الاقتصاد الوطني؟
تُعبر التخوفات المطروحة عن هاجس لدى الرأي العام ولدى الفاعلين الاقتصاديين من التأثير السلبي المباشر والفادح على الاقتصاد الوطني، وعلى نسبة التضخم والقدرة الشرائية للمواطنين.
فالتحرير الكامل لسعر الدرهم يجعل الاقتصاد في مواجهة مباشرة وغير مسبوقة مع تقلبات الوضعية الاقتصادية والمالية محليا ودوليا، لذا يعتبر التعويم الجزئي امتصاصا لهذه التخوفات والهواجس، بما يهدّئ السوق المالية والنقدية، ويمكّن من تفادي الهلع panique الذي قد يصاحب بداية تطبيقه.
وتبقى التطورات الاقتصادية اللاحقة على المستويين الوطني والدولي مؤثرة (سلبا أو إيجابا) على الاقتصاد الوطني وعلى القدرة الشرائية للمواطنين.
فأي ارتفاع كبير لسعر البترول مثلا في السوق الدولي سيجعل قوة الدرهم أضعف مقارنة مع الدولار، وأي انكماش اقتصادي بمنطقة الأورو سيؤثر سلبا أيضا على القوة التصديرية التي تعتبر أحد ركائز قوة العملة الوطنية. لكن بالمقابل يعتبر تحقيق فائض ميزان الأداءات، ولو على المدى الاستراتيجي، عنصر قوة بالنسبة لسعر صرف الدرهم وَذَا تأثير إيجابي على نسبة التضخم التي يجب أن تبقى مستقرة.
لذا تعتبر الهواجس المثارة حاليا مشروعة بالنظر لتأثر الاقتصاد الوطني وارتهانه للعوامل الخارجية بشكل كبير، كما ان الميزان التجاري وميزان الأداءات يعانيان من عجز مزمن ومركب منذ سنة 2006.
ومنطقيا لا يمكن للقدرة المالية للعملة الوطنية أن تتعزز إلا إذا تم تحقيق حد أدنى من التوازن على مستوى المبادلات الخارجية، وإلا فإن سعر صرف الدرهم سيتدهور بشكل متسلسل إذا تفاقم العجز في المبادلات المالية الدولية للمغرب.
لذا تبدو الأمور واضحة فيما يتعلق بنوع التأثير المحتمل على القطاعات الاقتصادية، فكلما ارتفعت قيمة الدرهم إلا واستفادت القطاعات المستوردة (وليس المصدرة كما يتخيل للبعض)، فالمصدرون سيستفيدون من ارتفاع قيمة الدرهم مقارنة بالدولار أو الأورو لتخفيض تكلفة الاستيراد بالقيمة الداخلية، مما سيمكنهم من جني أرباح أكبر، كما سيجعل أسعار السلع المستوردة أرخص.
وبالمقابل، إذا انخفضت قيمة الدرهم، فإن القطاعات المستوردة للمواد الأولية أو الاستهلاكية ستعاني بشكل كبير، وسيؤدي ذلك لتحويل التكلفة بيتحملها المستهلك، وهو ما يزيد الضغط التضخمي.
اقرأ أيضاً: "تعويم الدرهم".. استدعاء الجواهري وبوسعيد للبرلمان لنقاش تأثير القرار على المغاربة
في حين سيستفيد المصدرون بشكل كبير من أي انخفاض لقيمة الدرهم لأنهم يصدرون بالعملة الصعبة التي ستكون آنذاك قيمتها أعلى بكثير من الدرهم، ويسيجنون أرباحا طائلة مقابل معاناة المستهلك من هذا الوضع.
لكن ما يثير المخاوف المشروعة يكمن بالأساس في ضعف القيمة التصديرية للمغرب وعدم قدرة الصادرات على تغطية ولو نصف قيمة الواردات، وهو ما يضغط سلبا وبشكل حاد على ميزان الأداءات وعلى احتياطي العملة الصعبة.
وبالتالي إذا لم تنجح باقي المجالات في تحقيق توازن ميزان الأداءات (تدفق الاستثمارات الخارجية، تحويلات الحالية المقيمة بالخارج، فائض مداخيل السياحة…)، فإن نزيف العملة الصعبة سيتزايد وسيؤدي بشكل مباشر إلى انخفاض مستمر لقيمة الدرهم، وسيرفع بشكل كبير أسعار المواد الأساسية المستوردة (المحروقات، القمح، الأدوية، مواد التجهيز والمواد الأولية...)، مما يعني ارتفاعا مهولا وخطيرا لنسبة التضخم.
هل سيؤثر القرار على القدرة الشرائية للمواطنين وعلى المغاربة الذين يدرسون بالخارج؟
بخصوص مغاربة العالم فيتوقع أن يكون التأثير إيجابيا باعتبار الانخفاض المتوقع لقيمة الدرهم مقابل الأورو عند بداية التعويم، لكن التحويلات من المغرب لتغطية نفقات المغاربة الذين يدرسون بالخارج ستكون أغلى كلفة لنفس السبب. لكن إذا ارتفعت قيمة الدرهم فسيكون التأثير على الفئتين بشكل معاكس أيضا.
أما على مستوى الاستهلاك الداخلي، فنسبة التضخم فتتأثر في جميع الحالات، إما سلبا أو إيجابا. فأي انخفاض في قيمة لدرهم إلا ويؤدي بشكل مباشر لارتفاع الأسعار بالسوق الداخلي، وقد يؤدي أيضا بالتبعية لتراجع الاستهلاك وبالتالي تراجع حجم وقيمة الواردات، وبالتالي قد يحقق نتائج إيجابية على المدى الاستراتيجي لكن سيتسبب في إشكالات آنية.
في حين يعتبر ارتفاع قيمة العملة الوطنية سببا في انخفاض الأسعار، وخاصة بالنسبة للسلع المستوردة، بما يؤدي لانخفاض مباشر في نسبة التضخم وارتفاع حجم الاستهلاك الداخلي الذي ينعش الاقتصاد بدوره.
ماذا عن الإجراءات والضمانات التي يجب أن تواكب هذا القرار؟
لفهم القرار الأخير للحكومة والمتعلق باعتماد نظام الصرف المرن، الذي يعتبر تحريرا جزئيا في حد ذاته، يمكن اعتباره بمثابة نوع من المقايسة indexation لسعر الدرهم مقارنة مع الدولار والأورو وتبعه بشكل يومي من قبل كل من بنك المغرب ومكتب الصرف، مع إمكانية التدخل سواء في حالة انهيار حاد لسعر الدرهم أو صعوده الكبير، أو عند تناقص خطير لمخزون العملة الصعبة عن مستويات معينة، وخاصة خلال السنوات الأولى من التحرير.
وعلى الرغم من التطور الكبير الذي عرفه الاقتصاد المغربي، والتطمينات التي يقوم والي بنك المغرب بترديدها، فإن التساؤلات والهواجس تبقى مشروعة بالنظر للعجز المزمن للميزان التجاري وعجز ميزان المبادلات المالية مع الخارج ، واللذان يضغطان سلبيا على قوة الدرهم المغربي.
لذا نعتبر أن الضمانات وطريقة اتخاذ القرار بشكل الحالي من قبل حكومة د العثماني نوعا من الحماية ضد انهيار العملة الوطنية، والارتفاع الخطير لنسبة التضخم، وهو ما يجعلنا حاليا في منأى عما وقعت فيه التجربة المصرية التي تثير الهلع لدى الرأي العام الوطني.
فكلما انخفضت قيمة الدرهم إلا وزاد الطلب على العملة الصعبة لتغطية الصادرات مما يؤدي لمزيد من تدهور العملة الوطنية، وبالتالي رفع أسعار السلع المستوردة (والتي تعتبر جد حيوية للمستهلك والمصنعين على حد سواء) وبالتالي ارتفاع نسبة التضخم، وهو ما يرفع المخاطر على المواطنين بشكل لا يمكن توقعه.
وهذه المخاطر دفعت الحكومة الحالية للتريث منذ منتصف السنة الماضية في تطبيق سياسته النقدية على هذا المستوى، واعتمدت في الوقت الراهن صيغة ملائمة للتعويم التدريجي للعملة الوطنية عبر ما يمكن تسميته بدايةً بسعر الصرف المرن للدرهم المغربي.