15 سنة بعد هجمات الدار البيضاء الانتحارية. يحكي هشام حمزي، الذي كان سيفجر نفسه لولا أن تم القبض عليه، حكاية ما جرى. يعيش اليوم هادئا ورزينا، بعد أن كان لمدة طويلة رجلاً غاضبا وعنيفاً "باسم القرآن".
يجلس هشام حمزي، ككل يوم، بمتجره حيث يبيع ويصلح الهواتف النقالة. فهو تاجر بحي بنسودة الكائن بمدينة فاس. غير أنه كان قبل 14 سنة يتصدر الأحداث، باعتباره عضواً بالخلية الإرهابية التي جرى تفكيكها بعد هجمات 16 ماي 2003. حتى صديق طفولته وزميله الجالس إلى جانبه لا يعرف تفاصيل الحياة السابقة للحمزي، وكان الذهول يعلو قسماته وهو يستمع إليه يحكي لنا قصته.
يقول هشام: "لقد فكرنا في قتل إبراهيم، ظنا منا بأنه على علم بخليتنا". ابتسم إبراهيم محاولا التعاطي مع محاولة القتل هذه بسخرية: "لقد كنتم عمياناً". وبآذان صاغية، كان ينصت لصديقه يسرد مراحل انزلاقه إلى مستنقع التطرف.
"الكثيرون اعتقدوا بأن والدي الإمام كان مسؤولاً، هذا غير صحيح، فقد كان على العكس يدعو إلى إسلام معتدل، بسيط وشعبي" يقول هشام حمزي. بل إن المتحدث كان حتى بداية تسعينيات القرن الماضي، على قطيعة تامة مع المناخ السائد داخل أسرته المتدينة، والمكونة من 5 بنات و3 أولاد.
كانت حياته تشبه أغلب الشباب في مثل سنه: كحول ومخدرات وفتيات. "لم أكن ممارساً للشعائر الدينية، غير أنني كنت أستمع بين الفينة والأخرى لبعض الأشرطة الممنوعة، للشيخ عبد الحميد كشك. كنت معجبا به مثل الكثير من أصدقائي، لأنه كان معارضاً للحكام العرب"، يروي هشام واصفاً إياه بـ"نجم الدعاة الإسلاميين". هكذا كانوا يصفونه، وكانت كاريزما كشك تحظى بإعجاب هشام كأنه نجم غنائي. فهو من "سقى" ثورته التي كانت بلا قضية لأن هشام لم يكن قد تجذر بعد في إسلام يقوم على الإقصاء، وكان مصدوما لدى رؤية تغييرات في سلوك عائلته. "لقد أصبحوا أكثر تشدداً في مسألة الصلاة. بل الأسوء أن أخواتي صرن يرتدين النقاب". وكان هشام رافضاً آنذاك لنمط العيش الجديد داخل البيت.
شرطي للأخلاق
وجد هشام نفسه مسؤولاً عن أسرته بعد وفاة أخيه الأكبر، وهو يتيم الأب. توقف عن السفر للعمل كي يبقى مع عائلته، فوجد نفسه مجبراً على التأقلم مع الجو الديني المهيمن على البيت. شيئاً فشيئاً شرع شعور بـ"الفراغ الداخلي" يستحوذ عليه، قبل أن يجد في رفقة بعض السلفيين المقيمين بحيه سبيلا إلى الخلاص منه. وكان السلفيون قد أخذوا في التكاثر خلال أواخر التسعينيات.
يحكي هشام عن هذه الفترة التي غيرت حياته من الأقصى للأقصى: "عرفت الأحياء الشعبية بمدينة فاس موجة من التطرف حينذاك. كنا نتبادل أشرطة مصورة وصوتية لدعاة مصريين وسعوديين". ويضيف: "كنا نعيش في عالم منفصل، معزولين عن بقية المجتمع، نسير على نهج المملكة العربية السعودية في ما يخص بداية شهر رمضان على سبيل المثال. كما تغير معجمي، ولم أعد أشاهد التلفزيون، أحرقت كل الصور التي كانت تذكرني بماضيَ الفاسق". عالم منفصل كان يسعى لنشره عن طريق الدعوة والتبشير. "كنا نعطي دروساً في كل مكان، نحتل الأماكن العمومية ونحول المتاجر إلى مساجد سرية للصلاة والدعوة".
وشكلت هجمات 11 من سبتمر 2001 بالولايات المتحدة الأمريكية منعطفا آخراً بالنسبة له. بحيث لم يعد هشام حمزي يكتفي بدراسة القرآن والدعوة إلى مناهج سلفية ووهابية. فقد تنامى خطاب يدعو إلى ضرورة "الجهاد"، وبات يتكرر خلال جلسات نقاش سرية تداولت أخبار المغاربة الذين ذهبوا للقتال في أفغانستان.
"بيير روبير" فارس الجهاد
سنة 2002، أصبح هشام حمزي يشارك في دوريات بأحياء مدينة فاس رفقة شركائه حاملين أسلحة بيضاء، معلنين أنفسهم شرطة للأخلاق، كما في العربية السعودية أو أفغانسان تحت نظام طالبان. بلباس أفغاني وشعر طويل ولحية كثيفة، كانوا يعاتبون النساء اللواتي يعتبرنهن عاريات، ويهاجمون السكارى ومستهلكي الحشيش
زاد هشام في سرعة تطرفه أواخر سنة 2002، حين أنشأ خلية سرية مع سلفيين آخرين بهدف التدريب على القتال. أخبرهم خالد حداد، الحداد الذي كان يصنع السيوف المستعملة من طرف المجموعة، بأن مقاتلا سابقاً بأفغانستان رافق أسامة بن لادن، سيأتي عما قريب ليتكلف بالخلية. الجهادي المنتظر ليس سوى "بيير روبير" الذي لقب "بالأمير ذي العيون الزرقاء" بعد إلقاء القبض عليه سنة 2003. "ألقى علينا التحية بعد دخوله، قبل أن يضع مسدسه على الطاولة"، يتذكر هشام. منذ اللقاء الأول أخبرهم روبير بأن الهدف هو سرقة الأبناك لجمع المال الكافي بغية تمويل تدريبهم العسكري، وشراء أسلحة وصناعة متفجرات... قبل الانتقال إلى تنفيذ العمليات.
في مارس من سنة 2003، بدأ هشام حمزي تدريبه العسكري تحت أوامر بيير روبير بالقرب من مغارة في واد بوركيز بنواحي فاس، مكان معزول وبعيد عن الأنظار. "طلب منا بيير روبير حلق لحينا وقص الشعر كي نغوص وسط الجموع"، يؤكد حمزي.
تكدس أعضاء الخلية بداخل الكهف وكان عددهم 15 فرداً، يفترشون الأرض للنوم، ويتغذون بقطعة خبز يومياً. "كان بيير روبير يمنعنا من الخروج نهاراً، ويخضعنا لتدريب مرهق بدنياً. كنا نتدرب على استخدام المسدس وعلى فنون الحرب مع محمد المعطاوي" (أنظر المؤطر). دام المعسكر التدريبي 20 يوماً، قبل أن يتوقف بعد أن أثار فضول الجيران، الذين حسبوا مجموعة حمزي لصوصاً.
... وحل 16 من ماي !
"حين بلغنا خبر تفجيرات الدار البيضاء، صلينا شكراً لله. كنت أغبط الفاعلين، لأنهم كانوا بالنسبة إلي أشخاصاً محظوظين بنيل الشهادة في سبيل الله، بل إنني كنت أحسدهم". يقول هشام. ولتفادي موجة من الاعتقالات اقترح بيير روبير على حمزي وبقية أعضاء الخلية خيارين: إما الهرب صوب العراق، أو الإسراع بتنفيذ عمليات مشابهة لتلك التي شهدتها الدار البيضاء، بواسطة قنابل يدوية وأحزمة ناسفة. ويعترف حمزي لأول مرة: "لقد كنت مستعداً لكل شيء. كنت على بعد خطوة من تفجير نفسي بباب بوجلود، لأنه مكان يتردد عليه السياح كثيراً".
وكان مدرب الخلية على فنون الحرب، محمد المعطاوي، قد ألقي عليه القبض من أجل جرائم عادية لا علاقة لها بمشاريعه الإرهابية. كما جرى إيقاف زعيم آخر بالخلية، حسن خديوي. "كلاهما اعترف، وأعطوا جميع الأسماء لرجال للشرطة". 15 يوماً بعد أحداث 16 من ماي، مر هشام حمزي إلى بيته وهو يجهل بأنه موضوع مذكرة بحث. قبل أن ينتبه لأن حيه محاصر من طرف جيش من رجال الشرطة. "أخبرت حينها بأنه تم إلقاء القبض على أخي، أمام أعين أخواتي وأمي الباكية، أخذت سيفاً وقلت للأخيرة بأنني لن أسلم نفسي وسأقتل أي شرطي يدخل البيت". لكنه قرر في النهاية الرضوخ لتوسلات أمه، فتخلى عن سلاحه وسلم نفسه لمخفر الشرطة الكائن بالحي.
أبو حفص.. المنقذ
نقل حمزي إلى ولاية أمن فاس، حيث تم استنطاقه طوال 15 يوماً وهو مصفد ومعصوب العينين. "ثم نقلونا أنا ومجموعة إلى مكان آخر، كنت معصوب العينين، لم أكن أعلم إلى أين سيأخذوننا، واستغرقت الرحلة 3 ساعات" يحكي حمزي الذي ما إن وصل المكان المجهول، حتى تم إنزاله من سيارة الشرطة، وإجباره على السير على ركبتيه فوق الحصى. "في كل مرة كنت أتوقف من شدة الألم، كنت أتلقى ضربات بالسوط على ظهري". كما كانت أيامه كمعتقل مطبوعة بحصص للتعذيب، (ضرب وخنق بواسطة الجفاف)، إهانات وتهديدات باغتصاب عائلته. هل كان معتقلا في المركز السري لتمارة؟ هشام يعتقد ذلك. وبعد عدة شهور من الاعتقال تمت محاكمته وصدر في حقه حكم بـ10 سنوات سجنا نافذاً من أجل تكوين عصابة إجرامية، وحيازة وصناعة أسلحة ومتفجرات.
بعد سنتين من الاعتقال بزنزانة في سلا، تم نقله إلى سجن زيليغ بفاس سنة 2005. هناك التقى بأبي حفص. وكان هشام قد حضر في السابق محاضرات هذا الشيخ، بيد أنه سيكتشف فيه هذه المرة الإنسان. كان حمزي يلعب كرة القدم مع أبي حفص ويمازحه، حتى تشكلت بينهما رابطة صداقة. يحكي حمزي عن الفترة: "لقد تكوننا دينيا على يد أبي حفص، حيث كان ينظم نقاشات دينية. كنا نتبع برنامجاً لدراسة الحديث والفكر الإسلامي. كما نصحني بعدة كتب هدمت كل المسلمات التي كانت في ذهني حول تاريخ الإسلام". أعاد حمزي النظر في كل ما لقن له بخصوص الإسلام بعد اكتشافه للحقيقة الجديدة، والتي انفتح عليها بفضل أبي حفص، بل أصبح يشكك حتى في بعض الأحاديث والأقوال المنسوبة للنبي. "لا يمكنكم تصور الارتياح الذي شعرت به، ما حدث حررني".
من جهته يقول أبو حفص عن هشام: "لقد أصبح نموذجاً حياً لإمكانية تحويل شاب غاص في وسط هيمن عليه الإرهاب. صدمته كم مرة وأنا أشكك في ما لُقن له في السابق، ولكنه لم يتصرف بشكل سيء أبداً. بعد خروجنا من السجن توطدت علاقتنا على أساس مسارنا المشترك".
حياته الجديدة
منذ أن عانق الحرية سنة 2009، بدأ حمزي حياة جديدة، لا يبدو بأنها تروق لأصدقائه السلفيين، الذين لم يتخلوا عن قراءتهم المتشددة للإسلام. "رويت قصة كفاحي ضد التطرف، ونشرت أفكاري الدينية على الفايسبوك. فتم تهديدي بالقتل"، يقول حمزي، وأسمعنا بعضا من التهديدات الصوتية التي تلقاها على "واتساب" من أعضاء بتنظيم داعش.
متيم بحب زوجته، التي عقد عليها وهو بالسجن، لا يتوقف حمزي عن وضع رسائل الحب والأشعار على حسابها بالفيسبوك. كما يحاول منذ سنوات إقناعها بالتخلي عن النقاب، دون فقدان الأمل في النجاح ذات يوم في ذلك. وهو أب لطفلتين، يتمنى أن لا يراهما ترتديان الحجاب أبداً.
أصبح هشام حمزي الآن مقتنعاً بضرورة المرور عبر الانتخابات والمؤسسات لجعل المغرب يتقدم. صوت لحزب العدالة والتنمية خلال انتخابات 2015 الجماعية، قبل أن ينضم لحزب الاستقلال قبيل انتخابات 2016 التشريعية. "اقتناع أبي حفص بالانضمام إلى هذا الحزب، أقنعني بالسير على نهجه. إنه رجل أكن له كثيراً من الاحترام والثقة. فأنا مدين له بالكثير". وأصبح حمزي يلقن دروس الشيخ السلفي السابق لشباب الحي، وجعل من مكافحة التطرف لدى الأجيال الصاعدة معركته الشخصية.
أعضاء الخلية
خلية حمزي التي جرى تفكيكها في يونيو من عام 2003، في خضم هجمات 16 ماي، كان يسيرها "الأمير ذو العيون الزرقاء"، بيير روبير. وكانت تضم أيضاً مكلفاً بالتدريب العسكري، ومكلفا بـ"الأدلجة".
حسن الخديوي: الإديولوجي
شيخ الخلية، كان يسهر على أن يكون سلوك هشام ومن معه مطابقاً لنظرته المتطرفة للإسلام. "كنت أكن له احتراما كبيراً، فقد كان شخصا غير معيوب". يقول حمزي. غير أن الأخير صدم لما اكتشف بأن الخديوي الملقب بـ"حسن الفاسي"، قد أعطى أسماء كل أعضاء الخلية لرجال الشرطة حين قبض عليه. "لم يصمد طويلاً في وجه التعذيب، بل أعطى أسماءاً لأشخاص أبرياء. هذا الأمر صدمني، لأنه كان بالنسبة لي رمزاً للعناد". حكم على الخديوي في شتنبر من سنة 2003 بالسجن المؤبد.
بيير ريتشارد أنتوان روبير: الأفغاني
ولد الملقب بـ"الحاج عبد الرحمان" بضواحي سانت-ايتيان بفرنسا، واستقر بطنجة منذ 1996 بعد اعتناقه الإسلام. بعدها بعدة سنوات، شكل خلية إرهابية أولى بالمدينة نفسها، بكل من أحياء "طنجة البالية" و"بني مكادة"، معاقل التطرف. ربط هذه الخلية بخلايا أخرى كانت تنشط بكل من الدار البيضاء ثم فاس سنة 2003، بعد أن تعرف على هشام حمزي ومرشحين آخرين للجهاد. "لقد فوجئنا بلقائه. لم أكن أتصور أن أوروبيا بعيون زرقاء بوسعه أن يلقننا مبادئ الجهاد، التي مارسها في الحدود بين أفغانستان وباكستان" يقول حمزي. حكم على الملقب بـ"الأمير ذو العيون الزرقاء" بالمؤبد في شتنبر من سنة 2003.
محمد المعطاوي.. اليد الضخمة
كانت مهمة المعطاوي الملقب بـ"صوينع" تدريب أعضاء الخلية، بحسب هشام حمزي. وهو مدرب رياضة "الهايكيدو"، أحد فنون القتال الكورية. وكان المعطاوي مشهوراً بين السلفيين بشدته في أحياء بن دباب بفاس. "كان يلعب دور شرطي الأخلاق، يوقف أي رجل في حالة سكر أو امرأة يرى بأنها غير مغطاة بشكل كاف. بل وصل به الأمر إلى حد منع السكان من الاحتفال برأس السنة"، يروي حمزي.
المعطاوي كان شبه أمي، "كان يعاني لحفظ آية واحدة من القرآن" يؤكد حمزي ساخراً، تم الحكم عليه بـ15 سجنا نافذا في شتنبر من عام 2003.
"أخواتي زوجات جهاديين"
وفي وقت لم تعد تربط هشام حمزي أي صلة بالجهادية، فإن الأمر لا ينطبق على أختيه، لسوء حظه. فقد التحقتا كلتيهما توالياً بجبهة النصرة، ومن ثمة تنظيم داعش. قبل بضعة أيام من مغادرة حمزي السجن، طلب أحد أصدقائه السلفيين يد أخته، "قبلت على الرحب والسعة، لأنني كنت أثق فيه. كان شخصاً منضبطاً". إلا أنه وبعد 4 سنوات من ذلك، سنة 2013، اختفى الزوجان فجأة وانضما لجبهة النصرة في سوريا.
"كانوا على تواصل مع بعض الجهاديين منذ فترة، وكانا يستعدان سراً لترك المغرب"، يؤكد هشام وهو يبدي حزنه لخيار أخته. وتكررت القصة سنة 2015، "تزوجت أختي الصغرى بسلفي انتهى به المطاف في تنظيم داعش الإرهابي"، يتأسف حمزة، قبل أن يخبرنا بأن زوج أخته ترقى حتى صار أحد أمراء التنظيم بمدينة الرقة السورية.
ماضيه، فضلاً عن هجرة أختيه صوب سوريا، جعله مراقباً من طرف السلطات. "تمت ملاحقتي طوال عدة أشهر، حيثما أذهب يكون خلفي شرطيان بزي مدني. كان الأمر مزعجاً، لكنني قررت التسلي به، فجعلتهم يجوبون كامل فاس طوال ساعات". يحكي والضحكة تملأ وجهه.
نشر في "تيل كيل" عدد 764.