في الدفتر الثالث من سلسلة "دفاتر تفكيك خطاب التطرف"، يركز الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء أحمد عبادي على تفكيك مفهوم الجهاد.
واعتبر المؤلف أن المصطلح يتجلى في القرآن الكريم بحسب السياقات، ولئن كان الجامع بين الحالات كلها التي يرد فيها مفهوم الجهاد هو المجاهدة وحمل النفس على ما تكره.
وذكر أنه "جرى تحويل هذا المفهوم الجليل، عبر التاريخ الماضي والحاضر، إلى أداة قتل في أيدي أهل المروق، وهو تحويل لم يقتصر فقط على الجهاد، بل تناول سائر المفاهيم الكبرى في الإسلام، مثل الدين، والشريعة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والولاء والبراء، والإسلام والكفر، ودار الإسلام، ودار الحرب، والهجرة، والنصرة، والدولة ووظائفها، والأمة، والخلافة، والإيمان، وعلائق الأمة بالدين، ومفهوم الوعد الإلهي، ومفهوم الحاكمية، ومفهوم التمكين، وغير ذلك من المفاهيم".
تعريف الجهاد وأنواعه
أورد عبادي مجموعة من التعاريف للجهاد وجميعها فيها معنى استفراغ الطاقة، وعدم الخوف في الله لومة لائم، والعمل لله حق عمله، وعبادته حق عبادته، ومجاهدة النفس والهوى. ويؤكد أن الجهاد حالة نفسية، وحالة عقلية، وجب على المكلّف، كل مكلّف، أن يكون مستبطنا ومستدمجا لها بين جنبيه.
والصنف الأول من الجهاد هو جهاد النفس عن بقائها في الذهول لكي تستيقظ، ثم الصنف الثاني هو جهادها حتى لاتبقى في حالة الجمود، أي أن الإنسان لابد أن يدرب نفسه على التساؤل، وهذا التساؤل هو الذي سوف يؤدي إلى جهاد ثالث، وهو جهاد المكابدة للبحث عن الأجوبة. وهذا هو الذي يطلق دينامية العلم والتعلم؛ فالبحث عن الأجوبة هو الذي يؤدي إلى إلزام النفس الاستدامة على طلب العلم، وهو الجهاد الرابع.
والجهاد الخامس، حسب عبادي، هو "جهاد الموانع التي تحول دون طلب العلم، من أعراض زائلة، وأغراض فانية، ورفقاء سوء يصرفون عن ذلك، واستسلام النفس لكي تبقى في الربى السفحية، دون اقتحام العقبات، والارتقاء في قُلل جبال الرضوان والقربى من الله ذي الجلال سبحانه وتعالى، وهو جهاد الصبر والمصابرة"...
والجهاد السادس هو جهاد الاستيعاب الذي يتوج بجهاد التثبيت، وهو الصنف السابع من الجهاد، وجهاد التثبيت يكون بعده الجهاد الثامن؛ الذي هو جهاد الاستذكار، وهذه كلها مراحل منصوص عليها في دواوين العلماء، يقول المؤلف.
وبعد هذه المرحلة الثامنة، تأتي مرحلة الجهاد التاسع: جهاد ترك المنكرات، ثم جهاد إتيان الطاعات، وهو القسم العاشر، ثم الجهاد الحادي عشر، جهاد نشر العلم وعدم كتمانه، وهي مرحلة تأتي بعد التحقق بالاستقامة تركا للمنكرات وإتيانا للطاعات، لأن الداعي إلى الفضل، وجب أن يكون متحققا به.
والجهاد الثاني عشر هو جهاد ضبط تطلعات النفس بمقتضى هذا العلم، من حل وحرمة، وحسن وقبح، وإفراط وتفريط، وخطأ وصواب، وصلاح وفساد، وحق وباطل...
ثم تأتي بعد ذلك أنواع الجهاد للعقبات التي يتدرج بها الشيطان إلى قلب الإنسان وهي سبعة:
الجهاد الثالث عشر وهو جهاد عقبة الكفر بالله، وبدينه ولقائه وبصفات كماله وبما أخبرت به رسله عنه.
ثم الجهاد الرابع عشر: جهاد عقبة البدعة، إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به ورسوله، وأنزل به كتابه، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين.
والجهاد الخامس عشر هو جهاد عقبة الكبائر، يليه الجهاد السادس عشر وهو جهاد عقبة الصغائر، وبعده الجهاد السابع عشر وهو جهاد عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، فالجهاد التاسع عشر وهو جهاد عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى بليد، واللسان، والقلب، ثم بعد ذلك يتم الانتقال إلى الجهاد العشرين، وهو جهاد شهود العدو.
والجهاد الحادي والعشرون يتعلق بجهاد الجهالة ومروجيها، فالثاني والعشرين وهو جهاد الصبر على الاحتكاك الاجتماعي، فالنوع الثالث والعشرون وهو جهاد المدافعة عن محاضن الخير، ثم الجهاد الرابع والعشرون وهو جهاد الغرور والاكتفاء.
ويأتي بعد ذلك النوع الخامس والعشرون وهو جهاد الجوع، فالنوع السادس والعشرون وهو جهاد الخوف، ثم الجهاد السابع والعشرون وهو جهاد الظلم. وبعد ذلك يأتي النوع الثامن والعشرون وهو جهاد البذل المادي والمعنوي، فالنوع التاسع والعشرون وهو جهاد بالقلب لاستجماع العزمات، والجهاد الثلاثون هو جهاد بناء ما يلزم من الكفايات. والنوع الحادي والثلاثون هو من أجل بناء المؤسسات المؤهلة المستدام والناجع. والنوع الثاني والثلاثون هو جهاد البناء الراشد للمؤسسات المشرفة باتزان وشرعية على صد الهجمات.
الجهاد الثالث والثلاثون يتعلق بالجهاد بالانتظام في البنيان المرصوص والرابع والثلاثون هو الجهاد بالحراك إلى الميدان المنصوص، والخامس والثلاثون وهو الجهاد بالقتال المخصوص.
إذن الإمامة العظمى
يشدد عبادي على أن الثلاثة الأخيرة لا تكون إلا بإذن من مؤسسة الإمامة العظمى، وإشراف منها؛ "فإمارة المؤمنين المنضبطة بضوابطها الشرعية، والمحوطة بشرائطها الغعينية، والمسبوكة بإجماعاتها الفرضية، وتتطلباتها الحكمية، ومصداقيتها التاريخية، هي التي تمضي هذه الأصناف من الجهاد".
ويؤكد الكاتب أن وظيفية مؤسسة الإمامة العظمى تبرز، بهذا الصدد، بكونها المؤسسة المجمع على امتلاكها الصلاحية الحصرية في إعلان الحرب، ولا حق لفرد، ولا لمؤسسة سواها أن يفعل ذلك. ومن هنا يتضح الإغراض الكامن وراء مسارعة أهل الغلو في زماننا هذا؛ مثل "داعش"، و"بوكو حرام"، ومن حدا حدوهم على إعلان الإمارة والبيعة، وما إلى ذلك، لامتلاك حق إعلان الحرب، باعتماد الحيل الفقهية المتهافتة، في تطاول على ما لاحق إلا لمؤسسة الإمامة العظمى الشرعية في إقامته...