في الدفتر الثاني، من "دفاتر تفكيك خطاب التطرف"، ينبري أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، مفككا لمفهوم الجزية، وهو مفهوم مركزي يتردد كثيرا على لسان المتشددين، بل في ممارساتهم، كما فعل تنظيم "داعش" الإرهابي حينما كان يجبر المواطنين على دفع "إتاوة" لضمان أمنهم وعدم الاعتداء عليهم!
للجزية شروط
أوضح عبادي أن الفقهاء اشترطوا لفرض الجزية على أهل الذمة (أهل العهد من الإمامة بالأمن على أنفسهم، وأموالهم، نظير التزامهم الجزية ونفوذ أحكام الإسلام) عدة شروط تدور في جملتها على أن يكونوا أهل المقاتلة، مع وجود القدرة المالية على أداء الجزية.
وذكر أن الجزية لم تستحدث في ظل التشريع الإسلامي، بل كانت معلومة، ومعمولا بها قبل الإسلام، في حضارات وثقافات سابقة، ولو بغير اسمها، وتجلى دور التشريع الإسلامي في تهذيبها وجعلها منطقية، إلى درجة أنها تكاد تكون رمزية، وجعلها مقابل حماية أهل الذمة.
ولذلك يرى العلماء أن أهل الذمة إذا انضموا للجيش، كما هو في الدول الحديثة، فلا تؤخذ منهم الجزية، وهذا ما كان عليه عمل الصحابة ومن جاء بعدهم.
واعتبر الكاتب أن الدولة، في شكلها الحديث، تقوم على مبادئ، منها المساواة في الحقوق والواجبات؛ وسيادة روح المواطنة والقانون، ووحدة الأمة، لذلك لا فرق بين مسلم وغير مسلم في تحمل الأعباء، أو نيل الحقوق، ومن ثم فلا يجوز فرض "جزية" على غير المسلمين بحجة حمايتهم، أو احتفاظهم بدينهم، فمبادئ الدولة الحديثة لا تفرق بين مواطنيها في الخدمة العسكرية أو في القضاء وغيرها من الأمور، كما أنها لا تُكره الناس على اعتناق دين بعينه مصداقا لقوله تعالى "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".
وشدد على أنه لا يخفى أن مبدأ المواطنة وعدم التمييز بين المواطنين يتأسس على روح الشريعة وعلى مقاصدها الكلية، التي حددها علماء الشريعة في ستة مقاصد، هي مقصد حفظ الحياة، ومقصد حفظ الدين، ومقصد حفظ العرض، ومقصد حفظ النسل، ومقصد حفظ العقل، ومقصد حفظ المال.
المواطنة والجزية
لقد ادعى تنظيم "داعش" فرض "الجزية" على المواطنين من غير المسلمين في مدينة القريتين بريف حمص الجنوبي الشرقي بسوريا، وغيرها من مدن سوريا والعراق، مما يعد فعلا مشينا، ونهبا منظما، وسرقة لأموال الناس بالباطل، ومحاولة دنيئة من "داعش" لشرعنة هذه السرقة وهذا النهب المنظم، وإضفاء الشرعية الزائفة عليه، بالتحايل على نصوص الشرع الحنيف، وإلباسها قسرا لبوس الدين، والدين منها براء.
ويسوق المؤلف، إضافة إلى ذلك، أن صريح آيات القرآن الكريم وأحاديث السنة النبوية المطهرة تدل دلالة واضحة على ضرورة الإحسان لأهل الكتاب وحسن معاملتهم، وبالمقابل تحرم أشد التحريم ظلمهم، والبغي عليهم، كيفما كان نوع هذا البغي ودافعه...
لقد كانت الجزية من قِبل المسلمين بعد توفير، أولا كافة الحقوق لأهل ذمتهم أو للأقليات التي على أرضهم، ثم ثانيا بعد إلزام المسلمين أنفسهم الكف والدفاع والحماية عنهم، ضد أي عدوان وغيره، ومن هنا فليست هذه القاعدة مطلقة، وبطبيعة الحال فإنه إذا لم تستطع الدولة أن تقوم بدورها في حمايتهم، فإنه، ولاشك، لن يعود لها أدنى حق في طلب هذه الجزية، يؤكد عبادي.
ويحكي المؤلف أن ذلك عين ما وقع في عهد الخليفة عمر بن الخطاب حين حشد هرقل جيشا ضخما لصد قوات لمسلمين في بلاد الشام؛ إذ إنه لما علم قائد المسلمين أبو عبيدة بن الجراح بذلك كتب إلى عمال المدن لمفتوحة في الشام يأمرهم برد ما جُبي من أهل الذمة من الجزية والخراج في هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول لهم: "إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جُمع لنا من الجموع، وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإننا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم". وهنا دعا النصارى بالبركة لرؤساء المسلمين، وقالوا: "ردّكم الله علينا، ونصركم عليهم – أي على الروم – فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئا، وأخذوا كل شيء بقي لنا".
ويخلص عبادي، بعد هذا الحجاج، إلى أن "ما يفعله المارقون في 'داعش' من إجبار للمواطنين على دفع 'إتاوة' لضمان أمنهم وعدم الاعتداء عليهم هو بمثابة جريمة منظمة كتلك التي تقوم بها عصابات المخدرات والاتجار في البشر التي تقوم بإجبار الناس على دفع 'إتاوات' لضمان أمنهم وعدم الاعتداء عليهم".